صحيفة المثقف

ختام حمودة: دِراسَةٌ وَنَقدٌ أدَبي في ديوان الشَّاعِر العِراقي كَريم عبد الله: تَصاويرك وَراء ستائر مخملية

1098 karimوَعوْدَةٌ أخْرى مَعْ قَصيدة النَّثر وَمَع الشَّاعِر العِراقِي كَريم عَبد الله...في ديوانِه الأخير

هذهِ القَصيدة المنْفَلتَة ذات الصِّياغة المٌغايِرَة، والكلِمات المتَّقدة والتي شغَلتْ الوَسط الأدبي وانْتشرَت بشْكل كَبير بيْن مختلفِ الفِئاتِ والأعْمار والأعْمال الأدبية، وذلكَ لِسُهولة الخَوْض فيها لتَحَرَرها من الوَزْن وتبعياتِه . والَّتي كانتْ وما زالتْ بينَ الرَّفض وبين الْقُبول في الوَسط الأدَبي ُمنْذ الحَرب الشَّعواء والَّتي شنَّتها الشَّاعرة الأديبة العِراقية نازك الملائكة على مُسمَّى قَصيدَة النثر إلى يَوْمنا هذا.

في هَذا البَحث سَوفَ أتناول نَصّا من نُصوصِ الشَّاعر المُجدّد عَلى قصيدة الَّنثر (الشاعر كريم عبد الله) واَّلذي اتخذَ مَسْربًا مُغايرا في تَجْربتهِ النَّاضجة في هذا السِّياق وَبالذَّات مَع القَصيدَة النَّثرية التي تَقْتربُ كَثيرا من قصيدة النَّثر الغَرْبية.

نُصوصه وكلِماته الَتي تتمَرَّد عَلى المَألوف والمَعْروفِ وَ عَلى المُفرَدات والنَّظم والصّياغة المُبوْتقة القابِعة تَحْتَ أحْكام القَبيلة بِكلّ عُنفوانها وعِصْيانها مثْل انْتفاضةٍ جامِحَةٍ، وثوْرة عارمة تُعْلن العِصْيان عَلى الرَّتابة البرجوازية الّتي لوَّحتها المُفردات المُهَنْدسة المُكرّرة، وقَنَّنتها المَوازين المتجبِّرة، نَحْنُ أمامَ شاعِر يَفتح الآفاق على نَوْعٍ مُخْتلفٍ من قَصيدَة النَّثر بَلْ وَيَسْتحدث ويبْتدع عَلى قَصيدة النَّثر.

هذهِ التَّجربة المُدهشة تَضع الشاعرَ أمام الكَثير منِ التَّحديات الفارقِة في المُضيّ قُدُما في إنْضاج التَّجرية الحَداثوية إلى ما وَراء اللُّغة بِحداثة مُحدَّثة بأبْعادٍ فْلسفية مُغايرة للتَّطبيع وَالمُفردات المُدجَّنة في وتيرةٍ مُسْتنفرة بَحثًا عنِ الملاذِ الأخير، الذي تتوقَّد فيه ذبالة التَّجربة الحَداثوية.

 

بَيْنَ يَدَيّ نَص للَّشاعِر القَدير كَريم عبد الله مِنْ ديوانِهِ

(تصاويرك العارية تستحمّ وراء ستائر مخملية)

حينَ أتلذذُ برائحةِ صوتكِ ...... لسانكِ يرسمُ وجهي

خلفَ حاجبكِ المفروكَ بالزعترِ البريّ تحتشدُ خيولي ../ تركتْ أعنّتها في شعركِ المسترسلِ بعيداً هاربةً ../ أجراسُ أقراطكِ هيّجتْ طيوري في تلولِ الصدرِ .............

كؤوسٌ على مائدةِ الشفتينِ نازفةً بمواعيدِ اللقاء ../ هتافٌ يتناهى عبرَ أخاديدِ فناراتٍ مهجورةٍ ../ عشعشَتْ على عباءةِ الوهمِ نذورسنواتي المجدبة ........

خائفةٌ ساريةُ شموعكِ أنْ تنزلَ ........./ لهفةُ الشوقِ قدْ تُغرقُ بقايا أقمارنا ../ تلمّعينَ الأبوابَ وتغزلينَ وجهي بحضنِ الأمنيات ...........

الدفوفُ التي أيقضتها فاكهةٌ في منابعِ خمرتكِ ../ عتّقتْ رغباتُ الأنامل حينَ تهذي في دوائركِ ../ تتريثُ كنوزكِ المتدلية في بئرِ إشتياقي شهوةً جامحة .......

ذكرياتكِ الخضراء تنمو في مخيلتي ../ أتلذذُ برائحةِ صوتكِ في اوراقي الرطبة ../ تعرجينَ دائماً في ليلي تحتطبينَ الخطوات ...

تحتَ ملابسِ الخجلِ ترتجُّ ايام المرح ../ يشخرُ هذا الطريقَ يبحثُ عنْ أقدامِ الضجر ../ لكنَّ مفاصلَ البراعمِ تتنوّرُ بأحلامِ الليمون ...

لسانكِ يرسمُ وجهي فاغني على تضاريسِ أوهامي ../ فراشاتكِ تهاجرُ كلَّ ليلةٍ تبيتُ في باحةِ عشقي ../ تحومينَ حولَ قناديلي شذىً يفوحُ ينتعشُ في لوحاتي ......

العتمةُ المكابرة في أنهاركِ تهزُّ أهدابَ الغيومِ الجامحة .../ نبيذكِ مطراً يتساقطُ يتشظّى بأعماقِ رموزي ../ فكلَّ طفولتي كانتْ رهناً لأيامكِ القادمة ................

المباهجُ في العيونِ تشعُّ بشراهةٍ ../ البُرَكُ المملؤةِ نشّفها طوفان الظمأ ../ وأنتِ تنثرينَ البذورَ في أخاديدي تمطرُ الحسرات .......

في عطركِ أعودُ ثملاً أتبخترُ أُغلقُ سراديبَ غربتي ../ مفاتيحُ المنافي مفقودةٌ في ساعاتِ يومكِ ../ فالربيع للآنَ تُثيرهُ رائحةُ أنثى تكنسُ الذاكرة

.... ...............................

في هذه القَصيدة الصاخِبة والمذيَّلة بالإبْداع الناطِق، والَّتي تحوم منْ حوْلها طقوسُ الدَّهشة التي تحْتلّ المُتلقّي وتنقله عبْر غياهِب االمُفردة وتلافيف الرُّوح الكامِنة والتّي تضَعكَ أمامَ مساحَةٍ كبيرة منِ التَّأويل بيْن مُنْعرجات ودَهاليز الذَّات والحسّ الشعوري الّذي يسْرح في طقوسِ الذّاكرة ليَسْتحضر معالِمًا ذوَتْ في خلايا الزَّمن، نُصوصه الإبْداعية المُترفة القادرة على اسْتنهاض القشْعريرة في ذاتِ المتلقّي التي تسْري على حين ذهولٍ عْندما تفتح صُندوقا قديمًا يَعجّ بالذكرَيات القابِعة خلْف غبار الزمن، لَتتفلت الرُّوح المغيَّبة في ظلّ الكلمات مِنْ الإدْراك الحسّي إلى اللاوعي، و إلى عوالم الذَّات المكْنونة المُتحرّرة من الزَّمان والمكان، عنْدها فقط تَصْطدم بمْفردات طرَقت أبوابَ الفُجاءَة على حينٍ منَ الذُّهول..في هذه القصيدة تتكور المفردات كما زهرة برية تتنفس الشمس برئة الخيال.. .هي الذاكرة المفردة الأخيرة في القصيدة...أي تلاحم هذا !! عندما ينصهر الشّاعر في أدقّ جزئيات الكلمات ليتَّحد معها حسَّا وجَسدا وروحا بِكلَ شَراهة الإبداع..

(خلفَ حاجبكِ المفروكَ بالزعترِ البريّ تحتشدُ خيولي ../ تركتْ أعنّتها في شعركِ المسترسلِ بعيداً هاربةً)

صور تعبيرية باذخة تلك التي تحشد خيول الذاكرة لاستحضار الذات بكل عنفوانها وبكل انكسارها وبكل جدبها وانبعاثها وغربتها..ومنفاها..

../ أجراسُ أقراطكِ هيّجتْ طيوري في تلولِ الصدرِ...

هل للذّاكرة أجراس!!هل للذاكرة صدى..سَطْوة المفردات الغريبة تحضُر وَبقوةٍ في نصوص الشَّاعر، ويتأرْجح اللاوعي في نصّ الشّاعر بين الخيال النَّافذ المتَحكّم بالُمفردات وبيْن الدَّلالات الرَّمزية المُتوارية خلْف الزَّاوايا التي تطلّ على المُتلقي برؤية مختلفة للنَّص في كل مرّة من خلال تراكيب مُغايِرة والتي يغلب على مُعظمها عدَم التَّرابط في نَسيجٍ النَّص الكلّي، وهذا يعْكس مدلولا إبْداعيَّا منْقطع النَّظير ويعْكس حداثةً مُسْتحدثة للكمِّ الهائل من التَّصوّرات التي يُترجمها المتلقي كلّ على حِدة، أجْراس الذاكرة تجبر تلول الماضي على العَوْدة من جديد عارِية هنا الكَلمات واقفةٌ على جرْف الخيالِ تَسْتنهض وتُشكّل ملامحَ التَّجدد والنصوص مغربة إلى أبْعد الحدود مجرَّدة من الواقعية، تشَتعل الاسْتعارة فيها اشْتعالا

كؤوسٌ على مائدةِ الشفتينِ نازفةً بمواعيدِ اللقاء ../ هتافٌ يتناهى عبرَ أخاديدِ فناراتٍ مهجورةٍ ../ عشعشَتْ على عباءةِ الوهمِ نذورسنواتي المجدبة

والمتلقّي الذي يسْترسل في شِعر كريم عبد الله لا يفوته جمال الاسْتعارات الصاخبة، وتوْظيف المُفردة في غيْر معناها الأصلي مَع وجود القَرينة التي تحْجب المَعنى التقليدي للجملة، وكذلك الموسيقى الداخلية الصارخة وتكامل النص بَعيدا عن الغُموض المدْقع والتَّقوقع خلف مَتاهات التعقيد والتَّشوش في المُفردات والمَعاني والصّور المتتابَعة والتَّوغل في الرَّمزية الموْحشة، ، وأكثَر ما تجد في نُصوصه الحداثوية الاسْتعارات المكنية البعيدة كلّ البعد عن التَّصريح اللفْظي المُباشر، كقوْلهِ ..(يشخرُ هذا الطريقَ ..الخ ومنَ الدَّلالات الوافرة المُكتنزة.. بَحْبوحة الخيال ورسْم وتشْخيص امتداد التَواترات الأيقاعية الحيّة المُتكاملة بالشَّكل والمَضمون والتَّعبير وباقي مفردات النَّص، وتشعر بأنها من النُّصوص النابِضة التي تعجّ بالزَّخم والحياة والايقاع، الا أنَّ الشاعر اختار لنفسه مسْربا مختلفا نوْعا ما في تجسيد سيالاته الانْفعالية في ترهات النص الباذخ المزخرف بالمفْردات النائية غيْر المُرتبطة بعضْها بعضٍ من ناحية الدَّلالة على الرّغم من تَماسك النص وهذا ما يخلق الابداع في نصوص الشَّاعر كريم عبد الله ليطلق الانْفساحات المحلِّقة في اللاوعي لدى المتلقي في سْبر المُفردات.

(فكلَّ طفولتي كانتْ رهناً لأيامكِ القادمة)

يطْغى على هذه النصوص النثرية، ترجمة الذات الشاعرة وحضورها بقوة في نصوصه، ويكْثر في مفرداته مخاطبة الاخر، ويعبّر عن المدلولات بشكلٍ غير صريح والتي تكون مُلفلة في أغْلبِ الأحْيان بمْسحة من الحُزن والتَّوجع الخَفي وبعض من الانْهزام والانكسار الذَّاتي و الذي يردفه أحيانا في بعض المُفردات المناقضة ليتوازن المَعنى على الرَّغم منْ أنَّه بعيد كلَ البعْدِ عن التَّصنع والتَّكلف.

هو لربَّما يعبِّر عن الوطنِ أو الذَّات ..من حيث وَلَّيْت وجهكَ تَرى له تأويلا مُخْتلفا ورؤية مُغايرة تدقّ هواجِس النَّفس وتستفزّ كوامن الرُّوح وتحرك المتلقّي وتفجر مكامِن النفس ليسْرح بك النَّص إلى عوالم تَكشَّفتْ من بواتَق الباطن الدَّفين، وبعث أشكال جديدة وأنماط كثيرة تتفوق على المدلول وتشطره ألى ألف رؤية بعيدة كل البعد عن الرَّتابة والمحدودية والزَّوايا الضيقة وتبعيات الالْتزام الذي يقْتل الإبداعَ في الكَثير من النُّصوص الشّعرية المحافظة.

في نهاية المطاف، هذا الشَّاعر استطاع أن ينْقل التَّجرية الذاتية الأدَبية بقصيدة النثر إلى مسْتويات متقدّمة جدّا في عالمِ قَصيدة النَّثر وإلى مَزايا صارِخة تتدافع منْ جَوانبها طاقات وافرة تُحرّك عجَلة الخيال وارْتقى بها إلى أعلى دلالات الرّقي الأدبي والإنْشاء التَّعبيري الذي لا يكاد بين الفسْحةِ والفسْحة إلا أنْ يرفدكَ بصورة إبداعية مُحدَّثة

تأثّر الشاعر كريم عبد الله بالنتاجات الغرْبية وجسَّد الوَطنَ والحرّية والحزْنَ والثَّورة والدَّلالات المتعلقة بمفهوم الحرّية والعبودية من خلال الكثير من النُتَفِ المعبّرة والتي خاضَ التجربة فيها الكثير مثل (والت ويتمان) في ديوان أوراق العُشب والذي تُرجم إلى العربية وخلقَ حالة فريدة، إلا أنَّ الشاعر العراقي عبد الكريم ابْتعد عن التَّجسيد المَحْسوس والواقع المَلموس إلى نقيضه بِشَكلٍ واضحٍ في معظَمِ نتاجاته، مُعبّرا عن ذلك برموزٍ وإيحاءات قَوّية تَصبّ في الصَّميم،

كريم عبد الله هو نموْذجٌ جديدٌ وطاقةٌ هائلةٌ تفجِّر حَداثة ما بعْد الحَداثة .

  

بقَلم: خِتام حمُّودة

السويد، ستوكهولم .21_10_2016

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم