صحيفة المثقف

عبد الجبار الرفاعي: هاتف الجبوري / بشير الجزائري

عبد الجبار الرفاعيإلى ذكرى صديقي الجميل المرحوم (هاتف الجبوري / بشير الجزائري)، الذي قرأ السياسة والثورة في كتاب أبي ذر، ولم يقرأ سياسة السلطة في كتاب مكيافيلي

بلغني قبل قليل نبأ رحيل الصديق الاستاذ (هاتف الجبوري / بشير الجزائري ) إلى الملكوت الأعلى .. قبل أن التقي المرحوم هاتف الجبوري سمعت اسمه للمرة الأولى من المرحوم عبد الحميد ثامر خريف العام ١٩٧٣ الذي كان يكرر دائماً مواقف ايمانية أخلاقية انسانية نبيلة لهاتف الجبوري (حسب تسمية عبد الحميد).

لم أجد عبد الحميد ثامر مفتوناً بقدوة ملهمة كفتنته بأستاذه ابن الحي الفقير (حي رفعت)، في مدينتهما (الديوانية).

 يقول عبدالحميد ان استاذه كان شديد الجاذبية لدى المحرومين والبؤساء وذوي المهن البسيطة، إذ كان الجبوري صديقاً حميماً للعمال الفقراء المعروفين في الأسواق العراقية بالحمالين وأصحاب (العرباين). لا يتكبر على الجلوس معهم والحديث معهم لساعات طويلة في المقهى المعروف الذي يرتادونه مساء عادة. لذلك كلما لمحوه في مكان هرعوا اليه وتجمعوا حوله، وهو يحدثهم ويشاركهم همومهم كصديق حميم.

1100-basheerهاجر هاتف الجبوري مضطراً من العراق إلى الجزائر مطلع سبعينيات القرن الماضي، لأنه كان أحد الأعضاء الناشطين في حزب الدعوة وقتئذ، وعمل مدرساً فيها، ومنها اكتسب اسمه الجديد (بشير الجزائري). ثم هاجر من جديد إلى ايران بعد انتصار الثورة، ومكث فيها حتى وفاته.

التقيته للمرة الأولى كما أتذكر عام ١٩٨٥ فوجدته كما رسم صورته لي المرحوم عبدالحميد ثامر بسيطاً وليس ساذجاً، عالماً باللغة والأدب وليس مدعياً، عميقاً وليس غامضاً، زاهداً في كل شيء، إذ كان زاهداً حتى في نشر كتاباته، فقد واصلت الالحاح عليه كلما زرته أو زارني لنشر ما أنجزه من آراء ورؤى ومناقشات في اللغة والأدب، بعد أن اطلعت على شيء منها، إلاّ انه كان لا يكترث، لأنه كان كما أبي حيان التوحيدي لم تصطاده (غواية النشر)، ولم يقع في أسره، كما أنا وغيري.

لصوته هدير آسر يختص به، تتراقص بين شفاهه الكلمات كأنها تعزف على أوتار قيثارة ، أنغامها عبارات لغوي لا يتلفظ  بكلمة بلا حركاتها وسكناتها. حين تصغي إلى صوته الرخيم تتلذذ بتذوق لغته، وكأنك في مختبر لغوي يختبر كبار النحاة واللغويين.

هاتف الجبوري ينتمي إلى جيل رائد من المؤمنين الأخلاقيين من أهل الديوانية، تعرضوا للمطاردة والتشريد من وطنهم مبكراً، في مطلع سبعينيات القرن الماضي.

تعرفت في المهجر عليهم، وارتبطت بصداقات معهم، ومن الذين رحلوا منهم: المرحوم عبدالجبار شرارة، والمدرس عبدالكاظم فاضل (ابو باقر)، وكاظم عنبر.. ومن الأحياء: يوسف الهادي، وحمزة بن فزوع الديواني، ومحمد الصمياني، ومحسن الأسدي، وجابر الزيادي، وحسين الديواني .. ومن الجيل الثاني: المرحوم عبدالحميد ثامر، والمرحوم راغب طعمة، ومنهل الظالمي، وشقيقه المرحوم سلام الظالمي.. وغيرهم.

يبدو أن أصدقائي (الديوانيين) لم يتقنوا حرفة السياسة في عالمنا، وإن كانوا جميعاً ممن أتقن جيداً الفلاحة بمهارة فائقة ومثابرة مدهشة، لكنهم قبيل وقت الحصاد وجني المحصول فشلوا في ممارسة (مكر السياسة)، فلم يدركوا الحصاد، وتركوا الحقل بمحاصيله لمن يتقن حرفة (حصاد مالم يزرع). وذلك هو المصير الحتمي لكل من يقرأ السياسة والثورة في كتاب أبي ذر، ويصر على عدم قراءة السياسة والسلطة في كتاب مكيافيلي.

رسب هاتف الجبوري وزملاؤه من أهل الديوانية في سياسة السلطة، لأنهم فوجئوا بأسئلة امتحانها التي جاءت خارج كتاب ابي ذر.

 تبنى هاتف الجبوري وزملاؤه من أهل الديوانية السياسة والثورة في كتاب أبي ذر، وأصروا حتى الأخير على إهمال السياسة والسلطة في كتاب مكيافيلي.

لقد عاش المرحوم هاتف الجبوري ومات فقيراً، وهكذا هو حال من رحلوا أو معظم الذين مازالوا أحياء من أبناء مدينته.

امتدت صداقاتي في المنفى مع مختلف أبناء مدن العراق، غير اني وجدت أبناء الفرات الأوسط، و(الديوانية) خاصة من أوفى وأصدق الأصدقاء. لم يخذلني أو يغدر بي صديق منهم، ولم أسمع منهم وعنهم إلاّ ما يسرني.

للجغرافيا أحكامها واستحقاقاتها الخاصة، حتى في عصر الأنترنيت لما تزل الجغرافيا تفرض علينا نسيان أحبة مقيمين في ضمائرنا، بعد أن يفرق بيننا وبينهم المكان.

غفرانك يارب، ومعذرة إلى الرجل النبيل الجميل (هاتف الجبوري / بشير الجزائري) الذي غيبتني عنه ليالي بغداد الحزينة بعد عودتي، واصراره على البقاء في المنفى الذي لم يكرمه بما يستحق، مثلما تجاهله ولم يكرمه وطنه اليوم وأمس.

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

 

عبدالجبار الرفاعي

بغداد ٢٢-١٠-٢٠١٦

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم