صحيفة المثقف

فاروق مواسي: بين الشمّاخ وأبي نواس أو بين القسوة واللطافة

faroq mawasiيقف القارئ للتراث أمام لقطات ثرية مثيرة، فيها ما يروق، وخاصة في هذه المواقف المتباينة من ردود الفعل إزاء الحدث الواحد.

النقطة المثارة هنا هي وصول الشاعر إلى الممدوح على ناقته.

ما موقف الشاعر إزاء راحلته التي أوصلته إلى وجهته التي يتمناها؟

هل يجب نحرها، فقد أوصلته إلى نهاية حلمه، ولا حاجة له بها لسفر جديد؟

أم ينظر إليها بعين الرضا والعطف، لأنها أوصلته إلى من يحب؟

حول ذلك جرى أكثر من حوار في شعرنا القديم.

قرأت نونية  الشاعر المخضرم- الشمّاخ بن ضِرار التي يمدح بها  الصحابي عَرابة الأوسي، وسبب مدحه أنه التقاه، فتحادثا، فقال عرابة: ماالذي أقدمك المدينة قال: قدمت لأمتارَ منها، فملأ له عرابة رواحله بُرًّا وتمرًا، وأتحفه بغير ذلك، فقال الشماخ:

رأيت عرابة الأوسي يسمو *** إلى الخيرات منقطعَ القرين

إذا ما راية رفعت لمجد ***   تلقّاها عرابة باليمين

إذا بلَّغتني وحملتِ رحْلي *** عَرابةَ، فاشرَقي بدمِ الوتين

(المبرِّد: الكامل في اللغة والأدب ج1، 116)

  وقد رأى المبرد أنه أحسن في قوله:

إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين

لأنه يقول: لست أحتاج إلى أن أرحل إلى غيره.

يمضي المبرِّد في القول: "وقد عاب بعض الرواة قوله: "فاشرقي بدم الوتين"، وقال كان ينبغي أن يُنظر لها مع استغنائه عنها، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصارية المأسورة بمكة وقد نجت على ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: "يا رسول الله، إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها". فقال النبي: "لبئس ما جزيتِها" وقال: "لا نذرفي معصية، ولا نذر للانسان في غير ملكه".

لاحظنا أن الشمّاخ يدعو بهلاك الناقة، فها هو قد وصل إلى ممدوحه، فلا حاجة  إذن للناقة، فلتشرق بدماء الوتين- أي عرق قلبها.

وتبعه ذو الرّمّة في هذه "المعاملة الذبحية":

إذا ابن أبي موسى بلالا بلغتِه ... فقام بفأس بين وِصلَيك جازر

كما تبعه ابن عاصية السُّلَمي عندما وصل ممدوحه (معن بن زائدة)، إذ نحر ناقته، فتطيّر معن، ولما سأله : "ما حملك على ذلك؟

 أجاب: "نذر"، وأنشد:

نذر علي لئن لقيتك سالمًا *** أن يستمر بها شفار الجازر

(تروى هذه القصة  في "الأغاني" مع المهلب بن أبي صفرة- ج9، ص 198 (طبعة دار الفكر.)

وثمة شاعر آخر نسج على المنوال نفسه هو أبو دهبل الجمحي، إذ يمدح المغيرة بن عبد الله في أبيات له أولها:

يا ناق سيري واشرقي ... بدم إذا جئت المغيره

سيثيبني أخرى سوا ... ك وتلك لي منه يسيره

لنأت إلى ردة الفعل  الأخرى- إلى الصوت الآخر الذي لا يذهب إلى هذه النتيجة القاسية- عقر الناقة "المعاملة الذبحية"، ومن ذلك قول الأعشى أولاً:

فآليت لا أرثي لها من كلالة *** ولا من وجًى حتى تلاقي محمدا

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ***  تراحي وتلقي من فواضله ندى

(ديوان الأعشى الكبير، ص 185)

أرأيتم الفرق؟

 ثم قرأنا لعبد الله بن رَواحة الأنصاري لما أمَّره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد زيد وجعفرٍ على جيش مُؤْتة:

إذا بلَّغتني وحملتِ رحلي ... مسيرة أربعٍ بعد الحساء

فشأنَك فانعمي وخلاك ذمٌّ ... فلا أرجعْ إلى أهلي ورائي

والمعنى إيجابي، لدى كليهما، فعند الرسول تستريح الناقة وتجد المكارم، وعند ابن رواحة شأنها وحريتها، فلتنعم، فقد عداها الذم.  

كان أول من عاب على الشماخ دعاءه القاسي هو عَرابةُ ممدوحه نفسه فإنه قال له:

 "بئسما كافأتها به".

 وكذلك عاب عليه أُحَيحَة بن الجُلاح (شاعر جاهلي كان من دهاة العرب)، فإن الشّمّاخ لما أنشده البيت قال له أحيحة: "بئس المجازاة جازيتها"!

يرى أبو نواس أن  الشماخ كان أحرى به أن يقول ما قاله الفرزدق:

 

علامَ تلفّتين وأنت تحتي *** وخيرُ الناس كلهم أمامي

متى تأتي الرُّصافةَ تستريحي *** من الأنساع والدَّبَر الدوامي

إذ روى المرزُباني في كتاب (الموشح)- ص 84- 88 بسنده عن أبي نواس، أنه قال: "كان قول الشماخ عندي عيبًا، فلما سمعت قول الفرزدق تبعته فقلت:

وإذا المطي بنا بلغن محمدا ***  فظهورهن على الرحال حرام

قرّبـننا من خير من وطىء الحصا ***  فلها علينا حرمة وذمام

وقلت أيضاً:

أقول لناقتي إذ قرّبتني ... لقد أصبحت عندي باليمين

فلم أجعلك للغربان نُحلا ... ولا قلت اشرقي بدم الوتين

حرمت على الأزمة والولايا ... وأعلاق الرحالة والوضين

( النُّحل هو العطاء، الولايا: جمع ولية وهي البرذعة، والأعلاق: ما علق على الرحل من العهون وغيره، و الوضين: حزام الرحل، والمدح هو للخليفة الأمين).

لم نجد في هذه النماذج الرائعة ذبح الناقة أو المطية، فقد بلّغت الشاعر للمدوح، أو للقصد، فقامت بخدمتها، فهي إذن محرّمة أو لها حرمة وذمام، وأبو نواس يربأ بنفسه أن يدعو عليها بدعاء ابن الشمّاخ الذي اقتبسه.

وصل بنا المطاف إلى شعر أبي تمام، وهو استمرار لرفض موقف الشماخ، بل  هو تناص يعيدنا إلى القصة وما نُسج حولها:

لست كشماخ المذممّ في ***  سوء مكافاته ومجترمهْ

أشرقها من دم الوتين لقد ***  ضل كريم الأخلاق عن شيمه

ذلك حكم قضى بفيصله ***  أحيحة بن الجُلاح في أطمه

لقطة للباحثين عن الزعامة:

(من وحي عرابة الأوسي)

"قال  الخليفة معاوية لعرابة بن أوس بن قيظي الأنصاري:

 بم سُدْت قومك?

- قال: لست بسيدهم، ولكني رجل منهم.

 فعزم عليه، فقال:

أعطيت في نائبتهم، وحلمت عن سفيههم، وشددت على يدي حليمهم، فمن فعل منهم مثل فعلي فهو مثلي، ومن قصر عنه فأنا أفضل منه، ومن تجاوزه فهو أفضل مني."

انظر:

(البغدادي: خزانة الأدب ج3 -مكتبة الخانجي-، ص 43 وما قبلها).

من جهة أخرى وردَ جواب عرابة في (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ج 9، ص 196) بكلمات مختلفة هي:

"أعفو عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حاجاتهم، فمن فعل كما أفعل فهو مثلي، ومن قصّر عنه فاأنا خير منه، ومن زاد فهو خير مني".

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم