صحيفة المثقف

مصطفى العمري: إشكالية التماهي بين المثقف والمجتمع

mustafa alomariفي إطارها التفاعلي مع مجتمعها تقود النخب الواعية ما يشبه المعركة، للتحرر من قيود الجهل فتنثني مرة لألتقاط نفس الحياة ليتسنى لها التقدم في مشروع محاط بالغام الطيش، معركة يموت فيها العقل عند الجماهير فيحاول الواعون صعقه بجرعات متتالية من ثقافة بناءة ومتطلعة نحو الامام، ثقافة تبيح السؤال وتحرم السكوت، تستنجد بالعقل والخبرة ولا تركن الى غير العلمي، فتجعل هدفها العقل في خدمة العقل .

دائماً ما تتقدم الامم بعقول عباقرتها ومفكريها وليس بصيحات جماهيرها او بيافطات يرفعها العوام دون الاكتراث بما مكتوب بتلك اليافطة.

المهمة صعبة اذا ما قورنت بين تغيير يتمحور حول المجتمع واخر حول الدين واخر حول ذات المغير الواعي (المثقف)

فبالتالي كل هذه الفروع الثلاثة متغيرة ومغيرة وغير مطلقة في الايمان العقائدي الذي تؤمن به، هذا ما يشعرنا ان كل الاشياء المتغيرة عبر هذا الكون تحتاج الى مراجعة ثم الى تشذيب وتغيير فيما هي عليه، هذا التغيير ياتي عادةً من اقطاب المجتمع الفاعلين والمشتغلين بالحقل العلمي المعرفي، فتؤسس آجرة البناء نحو النهضة والتغيير بتلك العقول ..

مجتمع كالمجتمع العربي يصعب فيه الدوران والبحث حول الايمانات المطلقة التي تعود عليها الجمهور، فأنت يجب ان تؤمن بالحقيقة المطلقة، اي النتيجة التي ورثتها من أهلك بدون جهد او عناء.

المشكلة التي تزعجني حقاً ان المجتمع العربي يعج بالواعين والذين يحملون افكاراً متقدمة جداً، لكنهم ما ان يسنح لهم طقس ديني او اجتماعي او سياسي، حتى تجد ان اكثر هؤلاء الواعين قد انخرطوا مع الجماهير غير الواعية .

تماهي العقل الواعي مع الجماهير وممارسته لطقوس يبتدعها العقل الغرائزي المتخم بالخرافة والجهل، يقلب أحقية ذلك العقل بالتميز والتقدم والنضج ويحيله الى رقم ينضم الى صفوف ملتهبة وغير واعية . 

في كتابه سايكلوجية الجماهير، يقول كوستوف لوبون: 

(الخصائص الاساسية للفرد المنخرط في الجمهور هي: تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاواعية، توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والافكار، الميل لتحويل الافكار المحرض عليها الى فعل وممارسة مباشرة، وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه وانما يصبح انسان آلي ما عادت ارادته قادرة على ان تقوده

مجرد ان ينطوي الفرد داخل صفوف الجماهير فانه ينزل درجات عديدة في سلم الحضارة )

عندما يلتصق الواعي بالجماهير محال ان يغير بتلك الجماهير شيئاً، لكنه من الممكن ان يأخذ دوره الفعلي عندما يتقدمها كمرشد ناضج .

إنخراط بعض المثقفين والواعين في ممارسات بيئية طقوسية غير عقلية، لا ينهض بتلك الممارسات لأن تأخذ دوراً ريادياً متصدراً في المشهد الفكري الثقافي او الديني التعبدي، بل سيرتد نكوصاً على الظاهرة الطقوسية وعلى المثقف في نفس الوقت .

يتوهم بعض الاشخاص ان الطبيب والمهندس وغيرهما من حملة الشهادات العليا، متفوقون بالفكر والثقافة كما هم متفوقون في اختصاصهم العلمي ! وهذه معادلة غير منطقية تؤمن بها المجتمعات القاحلة معرفياً وتروج لها كثيراً .

يقول لوبون (يمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الإيمانية فإن الاختلاف معدوم غالبا، أو قل إنه ضعيف جداً)

هذه الفقرة بالتحديد تستدعي منا التوقف عندها متمهلين، لكي نكشف بعض ما آلت اليه المنظومة المعرفية المتمثلة بالواعين، عندما انخرطوا إنخراطاً متهالكاً يريدون إشباع نهم العوام وتطمين بعض السذج من انهم (الواعين) لازالوا يفكرون في نفس الدائرة التي يفكر منها الأمي والجاهل . تفكير عزز من قوة الشارع العام في ممارساته المستفحلة نحو منطقة اللامنطق وشرعنة اللامشرعن، فتمادى ذلك الشارع بعدما تهاون المسؤول وتماهى المثقف.

ما معنى ان ينساق المثقفون خلف طوابير أسسها جهلاء القوم وعديمي المعرفة للتقرب الى الله او السلطان؟ ما تحليل إنهماك بعض الواعيين لحضور ولائم لا يكون فيها العقل حاضراً وغير مبالين او معترضين على منجز يقدم الهذيان والصياح باسم الله او الثقافة ؟!

في متاهات هذا المنزلق غير المنضبط ومع تهاون ونكوص النخبة الواعية تتراجع المجتمعات ويموت فيها العقل الذي يدرك الاشياء فينظمها ويرتبها . كما يقول ابن رشد .

مشكلتنا محيرة حقاً فعندنا القدر الكافي من المثقفين والناضجين، لكن ليس عندنا القدرة على التقدم نحو مشروع علمي فكري . الرعب المسطور في اذهان بعض النخبة، اتى بنتيجتين غير مرضيتين وهما:

 

انغلاق المثقف على ذاته وانطواءه على معلوماته دون ان يفصح او يشرك احداً بها

أمام هذا التماهي من قبل المثقف يتمادى المجتمع بطروحاته غير العقلية ويسحب كله بكله الى دائرة الفعل أمام اللاتفكير .

مهمة الواعين الان ليس الردح مع الجماهير غير الواعية، بل الاشارة لتلك الجماهير على الاستدلالات العقلية والدينية وتثقيف المجتمع بجرعات فيها وعي مغاير ناهض لا يحتمل المحاباة والمجاملة، مالم تكن رغبتنا بالتغيير حقيقية سنلبث مصفدين أمام ولائم موت العقل الجماعي وسنشيع ارواحنا بايدينا وبرغبات خارجة عن قدراتنا لإيقافها.

 

مصطفى العمري 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم