صحيفة المثقف

شمس الدين العوني: صلوات للرمل وللذكرى للشاعر نور الدين بالطيب

952-awniقصائد الحنين والشجن والألفة تجاه الأمكنة والمدن لتظل دوز في القلب..

"......أعود

لدكان جدي..لثياب الطفولة..للبيت القديم

أعود

لكن من يعرفني الآن

في ليل الصحراء

من يذكر وجهي ...

و أغنيتي

و رسائل حبي.....

من..."

هذا هو الطفل الأسمر القادم من هناك..حاملا كلماته في الدواخل وبقلبه أنشودة من رمال الجنوب والصحراء وأجراسها..عرفته من زمان يلهو بتفاصيل الحنين الكامن في تلك الصور التي ظلت عالقة بأبواب قلبه..كان مفعما بالذكرى ولا يلوي على غير القول بطفولة كانت العنوان الأكبر في خطاه..

هكذا هو الآن ..لم يتغير ولم يتنكر لخطى القرويين وتلوينات البداوة..مدرسته الأولى بل الأم في حله هذا وترحاله تجاه العواصم والمدن..بقي الفتى على براءته تلك يدندن أغنيته المعهودة ..يأخذه الشوق وتهزه الأمنيات ينحت ضحكته بعيدا عن الضجيج ولا شيء يهزه سوى هذا الحنين الجارف..

انه الحنين الى العناصر والتفاصيل التي رآها للمرة الأولى وهو الطفل الجنوبي الذي أودع سره الكلمات وراح تائها في ليل العوالم ينشد ألفته مع الكائنات..

 

952-awni" اشتقت ...

لحمام يحط على كتفيك

لغناء عصفور

في باحة البيت

كل صباح..."

هكذا ألج  عوالم الصديق الشاعر نور الدين بالطيب  الذي أطل علينا بعد عدد من الدواوين الشعرية والكتب والمسرحيات وغيرها بديوانه الشعري الأخير بعنوان " صلوات للرمل...و للذكرى "التي هي بمثابة نصوص القلب الطافحة بالوجد والمحبة والحنين تجاه أسماء ومنها الشاعر الراحل عبد الحميد خريف والأمكنة والمدن التي زارها الشاعر وتركت لديه أشياء من عوالم الألفة وهنا صدق صديقنا الناقد علي العمري في تقديمه حيث ذهب باتجاه شعرية الحنين وشعرية الألفة وهو يقرأهذا العمل الشعري ..

" سيقولون ...

كان هنا

في باب البحر

في فلورانس

في مقهى الكون

نعرفه...

كان يبكي مثل العشاق

و يغني أحلى الأشعار

و يناجي الطير..."

هذه القصيدة يهديها نور الدين بالطيب  الى الشاعر الراحل عبد الحميد خريف ومن خلالها يستذكر شيئا من لقاءاته الثقافية والأدبية بعدد من المقاهي بتونس العاصمة والشاعر تربطه بالراحل وشائج وصداقة باذخة حيث كان حلوله بالعاصمة في التسعينات للدراسة الجامعية وفي تلك الفترة كانت لقات الشعراء والكتاب والمثقفين متعددة وقد شهدت نقاشات وآراء مهمة بخصوص التجارب والتيارات وصلتها بالحركة النقدية..

فكأني بالشاعر بالطيب في مثل هذه القصائد لا يستذكر أحبابه فحسب بل انه يذهب الى حيز مهم آخر وهو ذاكرة الأمكنة..الذاكرة الثقافية على غرار مجاميعه الشعرية الأخرى وكانت البداية مع " قصائد موحشة " وهنا نذكر سيدي الغوث بدوز..

و لدوز الجميلة هذه حكاية وجد مع نور الدين بالطيب..فهو شاعرها الذي يلوذ بها في ليل العواصم والمدن يرتجي شيئا من سرها في هذه الأيام الموحشة..

" وحدها ...

الرمال

تذكر حزنك

تتذكر دمعك

حروفك الأولى

كلماتك...وحدها الصحراء

تحفظ أسرارك

حرائق شوقك

لهيب الذكرى

رسائل ...

كنت تكتبها

في ساعات الفجر

توزعها الريح

بين نساء

بلا عناوين

و لا جغرافيا..."

تعددت مدن الشاعر في هذه المجموعة ما يلفت الانتباه الى صلة القصيدة بالمكان المتغير فالشعراء عادة ما يمنحون الأمكنة شيئا من العبارات التي تحتاجها حيث لا ينتبه عامة الناس الى سحرها المبثوث في تفاصيلها ..فالمكان مكانة والشاعر هنا يلج المدن بنظرة الحالم والباحث عن ذكرى ما قد تهزه ليستذكر التواريخ والأمجاد.

بعد دوز الموطن الأم يمضي بنا الشاعر( أبو أقمار ) نور الدين بالطيب الى أمستردام وباريس وكتالونيا و جيرونا وغيرها من بلاد العالم ومدنه ..

" ...مطر لأواني الزهر...

في شرفات برشلونة

مطر لحمام ساحة كتالونيا

للوحات ميرو...لنساء بيكاسو

لعيني غالا

مطر..."

قصائد خفيفة في غير تكلف ولا اجترار وافتعال تنهل من طفولة كامنة في " بو النور " كما يحلو لي أن أناديه ...قصائد الذات الموغلة في التعلق بالجميل حيثما كان فالعالم بلغاته وجغرافياته مجال مفتوح أمام الشاعر نورالدين بالطيب الذي لا يقنع بمكان ديدنه الترحال والاقامة الباذخة بين الألفة والحنين  وفي شجن بين وهنا يقول الصديق الناقد علي العمري في مقدمة تصدرت هذه المجموعة الشعرية التي نحن بصددها "...و الحنين في مستوى آخر عالم شعري تحكمه جدلية رئيسية في هذه المجموعة :جدلية الغياب والحضور فنصوص المجموعة في أغلبها جدل بين عالم تحضر فيه الذات ويغيب عالمها وهو عالم تؤثثه فضاءات تثير في الشاعر سؤال الحنين وهذا العالم هو باريس مرة وأمستردام أخرى

و برشلونة ثالثة وعادة ما يكون هذا العالم مولدا للذكرى قادحا للحنين وعالم آخر يتم فيه استحضار الذات في شكل من أشكال المصالحة بين عناصرها المتشظية...".

" في متحف خوان ميرو

اكتشفت ...

أنك لوحة نادرة

لم يرها أحد قبلي".

هذه قصائد بالطيب في عمله الشعري " صلوات للرمل...و للذكرى "  الصادر عن دار آفاق-برسبكتيف للنشر بتونس ضمن سلسلة آفاق للابداع والفنون في 120 صفحة من الحجم الصغير (على شكل كتاب الجيب) ..تجربة أخرى في سياق مسيرة الشاعر نور الدين بالطيب الذي نحت لذاته نهجا مخصوصا في الكتابة الشعرية بعيدا عن شعر الطلليات والمنبرية الخاوية ..هي قصائد لحظتها وثقافتها لا تروم غير القول بالذات في هذا المعترك اليومي من السقوط والتداعيات المربكة والمريبة..الشاعر يحافظ على نسقه في العلاقة مع القصيدة ولا يريد لصوته أن يشبه الأصوات الأخرى المتدثرة بملامح شعرنا العربي القديم..الشاعر يكتب ذاته خارج القطيع..و الشعر في صورة من صوره هذا الخروج والوفاء للذات في نواحها الخافت..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم