صحيفة المثقف

سمير خلف الله: النشاط البحري للجزائر في العهد العثماني.. حروب بحرية مشروعة أم قرصنة ولصوصية؟ (1)

المقدمة: ما دفعنا إلى كتابة هذه الدراسة هي أن تصورات بعض الجزائريين حول موضوع الحروب البحرية الجزائرية خلال العهد العثماني أو ما يطلق عليها ظلما تسمية القرصنة الجزائرية في عرض المتوسط . لهي تصورات تلامس حدود الأسطورة أكثر مما هي تلامس حدود الواقع والحقيقة وفيها الكثير من المغالطات . فمن جهة نجد أن معظم الجزائريين يعتزون بهذا الماضي العريق والمجيد وتعتريهم نشوة، وشعور بالفخر والزهو عند التطرق إلى هذا الموضوع . ولكنهم ومن جهة أخرى يشعرون بأن هناك جانب يبدو وكأنه لا أخلاقي في جهاد آبائهم البحري ويشعرون تجاهه بالقلق، وهذا لكونه يسمى عند البعض بالقرصنة الجزائرية، وكلنا يعلم ما يحضر في الذهن من معاني ومن دلالات سلبية عند التطرق لموضوع القرصنة والقراصنة، وكلها تلصق وبصورة ألية بالمجاهدين البحريين الجزائريين خلال العهد العثماني، ولهذا فالجزائريين ممزقين بين الشعور بالفخر من جهة وبشعور عقدة الذنب من جهة أخرى .

علما بأن الجزائريين اليوم يستخدمون المصطلحات الغربية، وهذا بدلا من المصطلحات الجزائرية الأصيلة كالجهاد البحري مثلا . ومن هنا جاء هذا الغموض، وتلك التشوهات المقرونة بالبحرية الجزائرية وبالجهاد البحري الجزائري خلال العهد العثماني، وإننا لنرجو بأن تقوم دراستنا هذه بتوضيح ولو لجزء بسيط من حقيقة جهاد الجزائريين البحري خلال العهد العثماني . خاصة وأن كتابات الجزائريين قد غابت طوال القرن ال 19 تقريبا، إلا ما ارتبط منها بالإدارة الفرنسية . وحلت محلها شهادات الأوروبيين المملوءة بالحقد وبالزيوف وبالتضليل، وهي تعتبر الجزائريين مجرد أمة من اللصوص ومن الهمج الأحرار يحكمها السيد الهمجي الإقطاعي أو اللص قاطع الطريق 01 . وهذه هي الأحكام الخاطئة والكاذبة، والتي تقفز إلى مخيلتنا عند ذكر كلمة القرصنة الجزائرية في العهد العثماني، وهو الأمر الواجب التصدي له وبكل حزم وتبيان زيفه .

إن عبارة القرصان لهي مشتقة من اللفظ اللاتيني كورسارو Corsaro، والذي كان يطلق في الأصل على كل سفينة مسلحة رخص لملاحيها بأن يجوبوا البحار، ويقاتلوا سفن الأعداء 02 . ولقد تطور مفهوم القرصنة لدى الطرف المسيحي ليتحدد في مجموعة من المعاني، والألفاظ تدخل في دائرة النهب البحري Piraterie)، والنشاط القرصاني (Activité corsair، والقرصنة البربرية الاسلامية Course Barbaresque Musulmane، التي كانت كردة فعل ضد التحرشات الأوروبية الصليبية على سواحل المغرب الإسلامي 03 .

كما لا يجب أن ننسى بأن القراصة في البحر كانوا يحترفون فعلا عمليات النهب والسطو المسلحة ضد أية سفينة تقع تحت مرمى بصرهم، ولا هدف لهم غير عمليات السطو والنهب . فهل كان هذا هو شأن البحارة الجزائريين في العهد العثماني ؟، هذا ما سوف نراه في اللاحق من دراستنا هذه .

وعطفا على ما سبق فإن القرصنة البحرية تعرف بأنها : " الجرائم أو الأعمال العدائية، والسلب أو العنف المرتكبان في البحر ضد سفينة ما، أو طاقمها، أو حمولتها " . كما يمكن تعريف القرصان : " بأنه المغامر الذي يجوب البحار لنهب السفن التجارية " . 04 والقرصنة كلمة قديمة الاستخدام حيث أنها تعود للعام 140 قبل الميلاد وهذا عندما استخدمت من جانب المؤرخ الروماني بوليبيوس، وأشار إليها المؤرخ اليوناني بلوتارك عام مائة بعد الميلاد، ليعبر بها عن أقدم تعريف واضح للقرصنة، فقد وصف القراصنة بأنهم : " أولئك الأشخاص الذين يهاجمون بدون سلطة قانونية ليس فقط السفن ولكن المدن الساحلية أيضا " . 05 وهذا ما يتناقض مع الأعمال العسكرية البحرية الممارسة من قبل الأسطول الجزائري في عرض البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، فهي أعمال قانونية شرعية وفق القانون المحلي أو الدولي المتعارف عليه خلال حقبة الجزائر العثمانية، وإلا فإنه ليس من المعقول أن تتحالف فرنسا في تلك الفترة مع اللصوص والسرّاق ومع القتلة ضد إسبانيا المسيحية، وتستنجد بهم للدفاع عن أراضيها وتصبح طولون الفرنسية قاعدة بحرية لهم .

وكاذب من يقول بأن مختلف الأمم والدول في الفترة ما قبل 1830، لم تمارس القرصنة ضد بعضها البعض، ولذلك فكما كانت القرصنة البحرية مؤسسة قانونية قائمة بحد ذاتها في الدول الأوروبية . فالجهاد البحري كان شأنه كذلك في الجزائر العثمانية، حيث كان ما يطلق عليه بالقرصنة أو الجهاد البحري يعتبر : " صنعة، كما اعتبر المستثمرون في نظام القرصنة أنفسهم موظفين، وليسوا سراقا، أو هاربين أو قطاعا للطرق، فعملهم كان معترفا به في الإيالة الجزائرية مثلما كان يعترف بالصنائع الأخرى، كالدباغة، والصياغة، أو الصناعة الخزفية والخبازة، أي أنها حرفة شأنها شأن الحرف الأخرى " 06

ولا تهمنا هنا الكتابات الأوروبية التي كتبوها عن الجزائر العثمانية، ففي عرفهم كل الأعمال الحربية التي تقوم بها الحكومة التركية في الجزائر يطلقون عليها قرصنة برية كانت أو بحرية، ودليلنا في هذا هذه الفقرة والتي نقتطفها من مذكرات القنصل الأمريكي في الجزائر سبنسر والتي جاء فيها : " وحكومة الأتراك التي تمارس القرصنة في عرض البحر تمارس قرصنة مماثلة في البر أيضا ضد السكان في جميع الرقعة التي يمتد عليها سلطانها " . 07

ولهذا فقد كان من المفروض على المترجمين للغة العربية من اللغات الغربية أن يستخدموا لفظة الحرب البحرية بدلا من لفظة قرصنة، وكان الأفضل ترجمة لفظة piraterie التي يستخدمونها إلى لفظة حرب بحرية كذلك أو إلى عبارة جهاد بحري . ولئن استخدم هؤلاء الكتاب الأوروبيين للفظة piraterie وذلك لهدف مغرض، فكان الأولي أن ينتبه المترجم في الهامش إلى الأمر، ويبين حقيقة النشاط الحربي الممارس من قبل الجزائر في البحر خلال العهد العثماني . وهكذا نتجنب مغالطة كبرى وخصوصا عند غير الدارسين المتخصصين، والذين يتخذون من التاريخ هواية لهم وفقط وشيء أكثر من هذا . 

ولهذا فإننا هنا نعتب على السيد أحمد توفيق المدني، وهذا لكونه هو الآخر قد استخدم  مصطلح القرصنة، كمرادف لمصطلح الجهاد البحري والحرب البحرية للجزائر في العهد العثماني . وكان الأجدر به أن يستخدم أحد هاذين المصطلحين، وهذا ليتفادى كل لبس قد يقع فيه القارئ البسيط . ومن جهة أخرى ولكي لا نظلم مجاهدي البحر الجزائريين، وهذا عندما نساويهم مع القراصنة . وبعملنا هذا نشوه لهم صورتهم عن غير قصد ويتحول الأبطال إلى مجرمين وقتلة نتيجة للخلل الذي نعانيه في المفاهيم فيضر هذا الأمر بنا وبهم كثيرا، ذلك أنه وبعملنا هذا نكون قد قدمنا خدمة جليلة لأعدائهم وبررنا لهم عدوانهم واستعمارهم للجزائر، وفي نفس الوقت أصبنا القارئ البسيط بعاهة تاريخية ليس من السهل عليه تجاوزها وهذا ما نراه بين الأجيال الناشئة بيومنا المعاش . وهذا لكون الكتب المدرسية الرسمية الجزائرية توظف هي الأخرى ومنذ الاستقلال مصطلح القرصنة بهدف التدليل على الجهاد البحري الجزائري . فكانت النتيجة إيماننا جميعا بأن الجزائر العثمانية كانت تدار من قبل جملة من لصوص البحر، وإلى غاية هذا اليوم فهذا هو المفهوم الدارج بين الجزائريين وهو خطأ يجب علينا تصحيحه .

 و السيد أحمد توفيق المدني نفسه، وفي كتابه حرب الثلاثمائة سنة يتفق تماما مع الرؤية التي تفرق بين الجهاد البحري والقرصنة البحرية . فيخبرنا بأن هناك فرق بين لصوصية البحر وهي بغرض السلب والنهب والحروب البحرية والتي يقوم بها مجاهدو البحر . ويورد هو الآخر اللفظتين الفرنسيتين الدالتين على كل منها فذكر لفضة piraterie  ولفظةcourse  . ثم يخبرنا بأن الحرب البحرية تنشب بين الدول المتعادية بهدف ضرب اقتصاديات العدو، وهذا بالاستيلاء على البضائع الصادرة منه أو الواردة عليه وأسر من يعمل فوق تلك السفن المعادية 08 . وهذا التعريف نجده يصدق مع ما كانت تقوم به البحرية الجزائرية خلال العهد العثماني، ولا علاقة لها بأعمال لصوص البحر . فهنا لدينا دولة جزائرية معترف بها دوليا وكانت تمارس الحرب البحرية ضد دول معادية لها، وهو عين ما كانت تمارسه الدول الأوروبية ذاته ضد الجزائر، أو ضد من يعادي بعضها البعض من تلك الدول الأوروبية نفسها .

 ونفس الأمر السالف الذكر نجده يحدث أيضا مع الكتاب المشارقة والذين يستخدمون هم أيضا مصطلح القرصنة، وهذا من دون أن يحددوا لنا مدلوله . ولكن نفهم منه أنهم يستخدمونه كما يستخدمه الأوروبيون للقدح أكثر منه للمدح حتى ولو كانت نيتهم سليمة، فإن المتلقي يسلك هو الآخر هذا المنحنى لارتباط لفظ القرصنة في لاوعي الجميع باللصوصية وبالإجرام . وهذا ما نصادفه مثلا في كتاب الأتراك العثمانيون في شمال إفريقيا لعزيز سامح التر وترجمة محمود على عامر والذي يستخدم في كتابه هذا للفظة ولمصطلح القرصنة ويكفي أن نقتطف منه هذه الفقرة القصيرة لنوضح هذا الأمر فقد جاء فيه : " ... لأن قراصنة فاس كانوا ينافسون قراصنة الجزائر في أعمالهم، إضافة إلى ذلك فقد كان قراصنة الجزائر يفرون إلى تلك الجهات عند شعورهم بالخطر ... " 09 . وربما يكون المشارقة في استخدامهم لمصطلح القرصنة معذورون بعض الشيء، وهذا لأن البعض منهم غير متخصص في تاريخ المنطقة والبعض الآخر يكتب ما يشبه المذكرات، ولهذا فقد كانت تلك الكتابات تسقط في مثل هذه المزالق، ذلك أنه لا يكفي أن يكون للواحد منا قلم جيد ليكون مؤرخا فحلا . أما المؤرخين الغربيين فلا ننتظر منهم استخدام غير مصطلح القرصنة والقراصنة كما هو الحال في كتاب الجزائر في عهد رياس البحر للمؤرخ الأمريكي وليم سبنسر وتعريب عبد القادر زبادية .

ومن بعد كل ما تم عرضه أعلاه فلم نعد ننزعج من اطلاق اصطلاح قرصان وقراصة على الجهاد البحري الجزائري وهذا لكون المؤرخين الأوروبيين كانوا ينطلقون من تراثهم هم للتعريف بالآخر . وليس بالضرورة أن نتشارك معهم في نفس القيم والمفاهيم وهذا لاختلاف أرضية الانطلاق . فكما كان الاستعمار عندهم يحمل مدلولا إيجابيا ومقاومتنا له تحمل مدلولا سلبيا، فاليوم كلنا ندرك من يحمل من الظاهرتين للمدلول السلبي أو للمدلول الإيجابي، وكذلك الحال مع جهادنا البحري فكما لم يضر الثورة الجزائرية نعتها من قبلهم بالإجرام والإرهاب فكذلك هو حال جهاد الجزائريين خلال الحقبة العثمانية فلن يضره أبدا أن يطلقوا عليه لفظة القرصنة . 

 

دوافع الجهاد البحري الجزائري خلال الحقبة العثمانية

بداية نقول بأن أسباب الجهاد البحري الجزائري خلال العهد العثماني تعود بالأساس إلى العدوان الإسباني والبرتغالي على سواحل الجزائر . وعليه فالمعركة البحرية قد فرضت على الجزائريين فرضا ولم يكن لهم من خيار سوى الدفاع عن أوطانهم وعن أعراضهم وأموالهم وأبنائهم وبناتهم . وزيادة على هذا فهم قد أرادوا أي الغزاة الإسبان منهم على وجه الخصوص، التوغل نحو العمق الجزائري أي صوب دواخل الجزائر وعليه فطبيعة المعركة هي من فرضت نوع الجهاد الممارس من قبل الجزائريين، فلو كانت المعركة على البر لكانت معركة برية، كما هو الحال مع المستعمر الفرنسي الغاشم فيما بعد . ولكن المعركة وطوال الحقبة العثمانية كانت معركة بحرية الطابع، وهذا لكون الجزائر وكما جاء في كتاب الجزائر في عهد رياس البحر كانت تمثل حصنا إسلاميا في مواجهة عالم مسيحي معاد . 10 فكانت أولى أولوياتهم تدمير قوتها البحرية تمهيدا لغزو برها في مرحلة لاحقة .

كما لا يجب أن ننسى هنا ذلك السبب والذي يخبرنا به المؤرخ أبو القاسم سعد الله والقاضي بأن الإسبان في القرن السادس استطاعوا أن يسقطوا آخر قلعة للمسلمين في الأندلس، وأساؤوا معاملة من بقي من المسلمين هناك وخيروهم بين النفي والطرد وتغيير عقيدتهم الإسلامية وبالإضافة إلى ذلك تابع الإسبان مطاردتهم للفرارين من المسلمين الأندلسيين إلى سواحل شمال إفريقيا . وأدى هذا إلى ثلاثة نتائج منها وكما يقول أبو القاسم سعد الله دوما أن تسلح مهاجري الأندلس ضد الإسبان وبنوا السفن الحربية للجهاد ضد الإسبان وهذا للدفاع عن وطنهم الجديد ولهذا عمدت إسبانيا إلى تحطيم هذه القوة في عدة محاولات مثل حملة شارل الخامس على الجزائر 11 .

كما يخبرنا كتاب الجزائر في عهد رياس البحر بأن العثمانيين لم يكونوا مهتمين بالسيطرة على أراضي المسيحيين على الشواطئ المقابلة للبحر المتوسط وإنما همهم الوحيد هو استرجاع الموانئ المحتلة من قبل الإسبان خاصة 12 . وعليه فإنه لم يكن هناك أي خطر يهدد أوروبا المسيحية انطلاقا من منطقة شمال إفريقيا ومن الجزائر تحديدا، وإنما كل أعمال البحرية الجزائرية هي فقط بهدف الدفاع عن أراضيها ضد أمواج الهجمات الصليبية المتلاحقة والمتجددة . 

ومما سبق نستنتج بأن غزواتهم وتعديهم على سواحل المنطقة أي شمال إفريقيا هو من دفع بالبحرية الجزائرية إلى القيام برد فعل مباشر ضد جرائمهم هذه، بل إن من دخل في الإسلام وبمحض إرادته وأصبح من رعايا الدولة الجزائرية ولجأ إليها وبمحض إرادته أيضا، فإن مثل هؤلاء قد كانت تطاردهم محاكم التفتيش البغيضة وتحرقهم أحياء . وهذا ما حدث لأربعة بحارة حطوا بقادش الإسبانية، حيث أحرقت الكنيسة إثنين منهم أحياء وهذا في العام 1752 13 . وأعمالهم الرعناء هذه هي من أجّجت الصراع في الحوض الغربي للبحر المتوسط . فلا ينتظر هؤلاء من الجزائريين بأن يروا إخوانهم في الدين يقدمون قرابين في محرقة محاكم التفتيش ويبقوا هم مكتوفي الأيدي .

خاصة وأنه في هذه الفترة قد كثرت التنظيمات المسيحية الدينية المعادية للإسلام وللمسلمين، والتي لا همَّ لها إلا محاربتهم، ومنها تنظيم القديس يوحنا والذي استقر أعضاؤه بجزيرة قبرص، ثم بجزيرة رودس، ثم في جزيرة مالطا وفرسان سانت إتيان، وغير هذا كثير من التنظيمات الدينية المسيحية المتعصبة والتي لا همَّ لها سوى تدمير العالم الإسلامي المجاور لها أفراد وجماعات . وهنا من حقنا أن نتساءل هل كانت البحرية الجزائرية ستقف مكتوفة الأيدي أمام مشاريعهم التوسعية هذه ؟ وأمام مشاريع من سيأتي بعدهم من أمثال نابليون بونابرت ؟ .

إنه لمن حق البحرية الجزائرية أن تدافع على ذاتها وتحمي سواحلها ورعاياها من شر مشاريعهم تلك . وماذا كنا سننتظر منها وسيل الحملات العدوانية لا ينقطع على مختلف مدن الساحل الجزائري . وهل كنا ننتظر منها أن ترحب بالغزاة كما هو الحال في العام 1531 م تاريخ محاولة احتلال شرشال من قبل الإسبان وهذا انطلاقا من جنوة الإيطالية . وبعد هذا يسمون دفاع الجزائريين عن أنفسهم والمشروع قرصنة ولصوصية بحرية .

وقد يقول قائل وما الذي دفع بالجزائريين إلى إعلان حالة الحرب ضد الدول الأوروبية مجتمعة أو منفردة وعلى رأسها إسبانيا والبرتغال . إن الجواب ربما نجده في هذه الفقرة والتي نقتبسها من كتاب الجزائر وأوربا تأليف جون ب وولف ترجمة أبو القاسم سعد الله والتي جاء فيها : " ... أما المغرب الأوسط، أي المنطقة التي نسميها اليوم الجزائر، فقد كان بدون حكومة يمكنها أن تزعم أنها تتكلم باسم كل المنطقة، فقد كان عبارة عن مستنقع سياسي من مدن صغيرة وقرى مستقلة ومن قبائل بدوية أو نصف بدوية من البربر والعرب ... إن هذا المغرب الأوسط الذي اشتدت عليه أطماع الإسبان الذين احتلوا المرسى الكبير في 1505 م ثم وهران و أرزيو 1509 م ثم بجاية، دلس وتنس في 1510 م والغارات المتكررة على مدينة الجزائر دفع سكانها إلى طلب النجدة من الدولة العثمانية، فكان ذلك تمهيدا لجعل منطقة المغرب الأوسط إيالة تحكمها جماعة البحارة العثمانيين وستصبح عاصمتها مدينة الجزائر ... " 14 .

إذن فالقضية هنا ليست قرصنة وكأن الجزائريين مجرمون بالفطرة، وهذا عندما نتهمهم بالقرصنة أي بلصوصية البحر، وإنما علينا أن نقف وراء الدوافع التي جعلتهم يدخلون في تلك الحروب البحرية . الشيء الأكيد هو أن لا أحد يحب الحرب أو يدفع لها عزيزا عليه، إلا إذا كانت مفروضة عليه وهذا هو حال الجزائريين في تلك الفترة . فهم لم يختاروا الحرب بل فرضت عليهم فرضا ووجدوا أنفسهم وجها لوجه مع عدو غزا ديارهم ويريد طردهم من أرضهم، فما كان عليهم سوى حمل السلاح ومدافعة هذا العدو الغازي . فنحن لم نذهب إلى العدو وقمنا باحتلال أرضه، بل هو من جاء إلينا وغزا بلادنا . وإلا ماذا كان يفعل الإسبان في سواحلنا هل جاؤوها للنزهة وللاستجمام؟؟ . ومن هنا لا يجب أن ننظر إلى القضية من زاوية وجهة نظرهم هم والتي تظهرهم كضحايا لقرصنتنا كما يدعون وإنما نحن هم من كنا ضحايا لمشروع استعماري عدواني توسعي قادته كل من إسبانيا والبرتغال فيما يعرف بمرحلة الاستعمار الأوروبي القديم والذي شمل العالم الجديد أيضا .

نعم إنه وكما كانت تتوسع كل من إسبانيا والبرتغال في أراضي العالم الجديد، وتتمدد عليها فهي كذلك أرادت فعل نفس الشيء في منطقة شمال إفريقيا، ومنها الجزائر موضوع دراستنا هذه . ونفس الأمر كان يجرى في جنوب شرق آسيا في تلك الفترة، وفي منطقة بحر العرب وفي المحيطين الهندي والهادي . ولئن جوبه هذا التوسع الاستعماري في أراضينا بمقاومة أطلقوا عليها هم قرصنة مما أدى إلى كبح وتوقيف جماح مشروعهم الاستعماري ذاك، فإنهم وفي نفس الوقت لم يجدوا نفس المقاومة في منطقة جنوب شرق آسيا، ولذلك فقد عرف مشروعهم هناك النجاح بعض الشيء، وعلى أوروبا أن تبقي تحاول احتلال المنطقة ولمدة ثلاثة قرون إلى أن تنجح مع الغزو الفرنسي للجزائر .

وهنا قد يتساءل البعض منا، ولما إسبانيا تريد التوسع في أراضينا واحتلالها . إن الجواب هنا لهو بسيط للغاية، ذلك أن إسبانيا في تلك الفترة كانت تعيش في أوج مجدها العسكري، ولهذا فهي بحاجة إلى مجال حيوي خارجي تمارس عليه سلطته وهيمنتها . إذن هنا نجد هدفا استعماريا واضحا ولا يحتاج للتدليل أو للبرهنة عليه . وهذا الهدف الاستعماري وجد تبريرا له في الهدف الديني، والذي غـُـلف به وأعطاه المصداقية . ذلك أن أوروبا المسيحية وعلى رأسها إسبانيا الكاثوليكية في القرن السادس عشر قد كان يحركها التعصب الديني الصليبي . وكانت ترى بأن هذه المنطقة أي منطقة شمال إفريقيا ما هي إلا مسيحية في الأصل وجاء الإسلام وافتكها أو قل احتلها بتعبيرها هي . ومنطقتنا هذه وكما يقولون عنها لهي مهد وموطن القديس أوغسطين، ولهذا فإسبانيا إيزابيلا وفرديناند أو ابنهما شارلكان ثم ابنه فيليب الثاني كلهم كانوا يحلمون باستعادة هذه الأرض وتطهيرها من المسلمين كما يقولون، أي أن يكرروا ما حدث في الأندلس على منطقة الشمال الإفريقي ككل .

ليس ما سبق فقط، وإنما هم أرادوا احتلال شمال إفريقيا لتكون محطة لهم ونقطة ارتكاز لاحتلال كل المنطقة العربية مشرقا ومغربا والوصول إلى مكة وتدميرها . وبهذا يقضون وبشكل نهائي على الدين الإسلامي والذي لن يعود ليشكل عليهم أي خطر في المستقبل وهذا حسبهم هم طبعا . ولهذه الأسباب فقد احتلوا السواحل الجزائرية ووصلوا إلى ليبيا تمهيدا للوصول إلى مكة وتدميرها نهائيا . وما يؤكد هذا الطرح هو أن القوي المسيحية في تلك الفترة كانت تدفعها عقيدتها الصليبية والتي تريد الانتشار والتوسع في مختلف أرجاء العالم وفي طبعتها الكاثوليكية على وجه الخصوص . ولهذا فلا يجب اختزال الحرب البحرية والتي كانت تدور رحاها في البحر المتوسط بين الجزائريين وبين القوى الأوروبية المسيحية في تلك الفترة على أنها أعمال قرصنة وكفى فالأمر أعمق وأبعد من ذلك بكثير . والآن علينا أن نعرج على  كتاب تاريخ الجزائر في القديم والحديث الجزء الثالث، تأليف مبارك الميلي والذي جاء فيه الآتي : " ... إن دي غرامون لا يتردد أن يبرر الهجوم الإسباني كما يلي : في ربيع 1505 نظم القراصنة المور القاطنون بمرسى الكبير هجوما على شواطئ فالانس ... ورجعوا محملين بالأسرى والغنائم واضطر الملك فرديناند إلى أن يصمم على تحطيم هذا الوكر من أوكار القراصنة . في حين أن تسلسل الأحداث يبرهن على عكس ما أراد دي غرامون أن يبرهن عنه ... فبعد سقوط غرناطة بادرت إليزابت وزوجها فرديناند بخرق المواثيق والعهود التي أعطيت للمسلمين ... وجاءت هجرة المسلمين من الأندلس فرارا بعقيدتهم ... ونقل المهاجرون أنباء الاضطهاد الديني إلى إخوانهم في المغرب العربي وبدأت حملات التضامن لإنقاذ من بقي بالأندلس من المسلمين . هذا هو النطاق الصحيح الذي يجب أن نضع فيه تسلل المسلمين إلى شواطئ الأندلس . وقد خشي الكاردينال كسيماناس ... من أن يكون سقوط غرناطة إيذانا بتوقف الهجومات ضد العرب والمسلمين ولذلك أثار مخاوف فرديناند من الذين فروا إلى المغرب والجزائر وتونس ورأى أنه يجب نقل الحرب إلى شواطئ المغرب العربي ... والقيام بحركة مد حقيقي داخل المغرب العربي ... " 15 .

ونحن نعذر مؤرخي إسبانيا ومنهم دي غرامون، فهذا الأخير له كل العذر وهذا عندما يبرر أعمال قومه وخصوصا في ذلك الجو الديني المشحون والذي يدار من قبل رجال دين متعصبين . ويوم كانت المسيحية هي المحور الذي تدور حوله كل شؤون حياة الفرد الاسباني خاصة والأوروبي عامة . ونحن نعذره في محاولة إيجاد تبريرات لقومه والعمل على إيجاد ما يمكن من قرائن تدين الجزائريين، كما أننا لا ننتظر منه أكثر من هذا . ولكن علينا أن نعمل نحن كذلك على تفكيك خطابه وتهديم حججه وإيصال الحقيقة إلى الجميع وهذا من بعد أن ابتعدنا عن تلك الحقبة بعض الشيء مما يمكننا من رؤيتها بوضوح . وكذلك فقد زالت اليوم تلك الأيديولوجيا البغيضة والمبنية على التعصب الديني عند الكاثوليك خصوصا . هذا مع تغير منظومة القيم التي بات يحتكم إليها الطرف الآخر، والتي لم تعد دينية في الأساس . وفي هذا الجو الجديد يمكن للطرف الآخر أن يقتنع بوجهة النظر المغايرة لمَا درجت عليه المؤسسات الرسمية دينية أو مدنية كان يحتكم إليها، وظهور الكثير من الحقائق حول الوجود العربي في الأندلس والذي لم يعد ينظر إليه عند الكثير من الإسبان نخبة وعوام، على أنه مجرد احتلال موري تخلصت شبه الجزيرة الإيبيرية منه . ومن شأن كل هذا أن يغير من زاوية نظره أي الطرف الآخر لمسألة الحروب البحرية التي كان يخوض غمارها الجزائريون طوال العهد العثماني وإلى غاية 1830 .

إن النص السابق الذكر ليضع مسألة الجهاد البحري الجزائري في إطاره الحقيقي . فهو يخبرنا بأن إيزابيلا وفرديناند قد خرقا كل المواثيق والعهود التي أعطيت للمسلمين بعد سقوط غرناطة . والقصة يعرفها الجميع ولن ننطرق لها مطلقا هنا، وهذا لكونها اليوم قد أصبحت من البديهيات والتي يعرفها العام والخاص . ومع هروب بعض المسلمين إلى الجزائر فرارا بدينهم وإخبارهم عن محنة إخوانهم هناك، ورغبتهم الشديدة في الانتقال إلى الجزائر أو مساعدتهم في حروبهم ضد الظلم والقهر المسلطين عليهم وخصوصا ما تعلق منه بمحو هويتهم . فهنا تأتي رود فعل سكان الجزائر والمتمثلة في القيام بما يجب القيام به وهذا بصورة فردية أو بصورة جماعية بهدف إنقاذ إخوانهم من جحيم محاكم التفتيش الرهيبة والتي تسمى اليوم بعار إسبانيا . وماذا كنا ننتظر غير هذا من الجزائريين، وعليه فالحرب كانت بحرية وهذا لطبيعة المضمار الذي كانت تدور عليه . وهذا لكون البحر هو من كان يفصل بين الجزائر وشبه الجزيرة الإيبيرية، فكان العمل الحربي بحريا ولم يكن بريا . ولو كانت لنا حدود برية معهم لكانت الحرب برية وماذا كانوا سيسمونها هنا لا يمكن بأي حال أن يسمونها قرصنة لأن ميدانها ليس البحر مطلقا .

 

وقد يقول قائل من أن الإسبان وغيرهم قد كانوا على حق فأنتم من انتقلتم إليهم ونقلتم معكم الحرب إليهم، وهم كانوا يدافعون عن أنفسهم وفقط . الكلام هنا فيه مغالطة كبرى، ذلك أنه ومنذ الفتح العربي لإسبانيا إن كان هناك فتح أصلا، ولم تكن هناك حرب أهلية بين الإسبان أنفسهم انتهت باعتناق غالبيتهم للدين الإسلامي، وهنا نحن نقصد الأريوسيين منهم ضد الكاثوليك الغزاة لأرضهم . فإن الحكم هنا سيتغير وبصورة مطلقة لصالح مجاهدي البحر الجزائريين في تلك الفترة، وهنا يصبح الكاثوليك الإسبان هم المعتدون ولسنا نحن . وهذا هو السياق التاريخي الصحيح والذي توجب علينا جميعا أن نضع فيه مسألة الجهاد البحري الجزائري خلال العهد العثماني .

نعم إن البعض يلوم الجزائريين على ذهابهم إلى الأراضي الإسبانية مثل دي غرامون ومنظري المدرسة الاستعمارية في الجزائر . ذلك أنهم قد كانوا ينطلقون من معطيات ناقصة ومشوهة ومؤدلجة حجبت عنهم الرؤية السليمة، ولذلك فقد جاءت دراساتهم منحازة ومشوهة للحقيقة . ترى هل تقديم المساعدات للأخوة في الدين المضطهدين من قبل محاكم التفتيش البغيضة وهذا من قبل الجزائريين قد كان بدعا منهم وفقط ؟، إن الأمر ليس على هذا الشكل مطلقا . فالتاريخ يخبرنا بأن تدفق سيل المعونة والمتطوعة وهذا بشكل فردي أو جماعي لم يتوقف مطلقا عن الوصول إلى شبه الجزيرة الإيبيرية حتى أن بابا روما كان ينظم الحملات الصلبيبة إلى الأندلس مثلما كان ينظمها إلى المشرق العربي أي إلى بلاد الشام . وكلنا يعرف ويعلم كيف كانت الصلوات تقام في كنائس أوروبا كلها عند بداية أي معركة في الأندلس حتى أن البابا بروما قد أعفى الإسبان من التوجه نحو الشرق وهذا لكونهم هم أيضا في حرب صليبية مقدسة ضد مسلمي الأندلس .

ولما انتهت ما يسمي مع تحفظنا الشديد على المصطلح نقول، لما انتهت حروب الاسترداد لم تتوقف أوروبا عن تقديم الدعم لإخوانها في الدين مطلقا، وهنا نقصد ذلك العون الذي قدم إلى اليونان في العام 1830 وفرض على الدولة العثمانية أن تمنحها استقلاها فقط لأنها مسيحية وفي نفس التاريخ يتم استعمار الجزائر وتجريدها من سيادتها وهذا تحت حجة الاستبداد التركي، والذي انتهي بمنح اليونان استقلالها وباحتلال الجزائر . فلماذا فقط لما يقدمون هم العون لأبناء قوميتهم وعقيدتهم فإن هذا الأمر يكون مشروعا وموافقا للقوانين الدولية، وعندما قام الجزائريون بنفس الدور وأنجدوا إخوانهم المعتدى عليهم أصلا سموا عملية النجدة هذه قرصنة ولصوصية بحرية ؟ .

الأمر الآخر والذي يتوجب علينا الانتباه إليه، وهذا انطلاقا من النص المقتبس أعلاه نقول بأن المسؤول عن حركة الحروب البحرية الجزائرية في القرن السادس عشر هي إسبانيا المسيحية والتي فرضت على الجزائريين المعركة، وهذا من خلال نقل تلك المعركة إلى سواحلنا، فيما يعرف اليوم بالحرب الاستباقية وهذا لشل قدرات العدو في عقر داره وليفقد بهذا القدرة على المبادرة . ولقد استغل الكاردينال خيميناس الرعب الذي يسكن ملوك إسبانيا من موجة ثانية تجتاح الأخيرة من المغرب العربي، ولهذا فقد عمل كل ما يستطيعه لينقل الحرب إلى هذه المنطقة وعليه فهم من بدأ العدوان وذلك بأن : " شنوا علينا حربا استباقية " مدمرة 16

إذن هنا المسؤولية تقع على عاتق الإسبان وليس على عاتقنا نحن، فنفس الكاردينال هو من دفع بمسلمي غرناطة إلى الثورة، ومعه العرش الإسباني وهذا وكما يقول المؤرخون بهدف إيجاد مبرر لخرق معاهدة تسليم غرناطة ومبررا للقضاء على الموريسكيين، ومبررا لنقل محالكم التفتيش إلى غرناطة ذاتها وقد نجح في مسعاه هذا . ونفس الأمر أحدثه على شواطئنا وهذا عندما نقل الحرب إلى الشواطئ الجزائرية وهذا لكي ينفذ مشروعه وبإحكام، والهادف إلى إنهاء الوجود الإسلامي في منطقة الشمال الإفريقي وإلى الأبد، وهذا عبر محاصرته من الشمال ومن الجنوب بتكوين حلف مع الحبشة المسيحية . وها هي ملكة إسبانيا إيزابيلا تعلنها صراحة :

 " Quand son testament fut ouvert, on y trouva cette clause formelle : quil ne faudrait ni interrompre la conquête de l'Afrique ni cesser de combattre pour la foi contre les in-fidèles  " .

وبالفعل فقد انزلت مقالها هذا إلى أرض الواقع، وهنا وجد الجزائريون أنفسهم ملزمين بالدخول في حرب مفروضة عليهم، سواء كانت على شكل مواجهة عسكرية جماعية تأخذ صيغة المعركة البحرية أو في صيغة أعمال حربية فردية تأخذ شكل الأعمال الفدائية التي نلاحظها اليوم، والتي يقوم به أفراد أو مجموعات صغيرة تتوغل في أرض العدو، أو في ما احتله من أرض واغتصبه بهدف إرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين . وهذا هو السياق الواجب وضع ما يسمى بتسلل الجزائريين إلى الأراضي الإسبانية فيه ولا علاقة له مطلقا بالقرصنة وباللصوصية البحرية . وعليه فإن الجزائريين قد كانوا في حرب مشروعة للدفاع عن أنفسهم ولا علاقة لها بالقرصنة خصوصا وأن الغزاة الإسبان ما جاؤوا للجزائر يحملون إليها الزهور، ويوزعون الهدايا على الجزائريين وفي أيديهم طيور المن والسلوى وحمائم سيدنا داوود . فالتاريخ يشهد بأن أسوأ فاتح هو الكونكستدور Le conquistador ويكفي أن نقرأ كتاب مذابح الهنود الحمر للراهب برتولومي دي لاس كازاس، لنقف على مدى بشاعة وإجرام الغازي الإسباني . فماذا كنا ننتظر من الجزائريين هنا، غير المقاومة ولينعتها الإسبان ومعهم عموم أوروبا وأمريكا في مرحلة لاحقة بما شاءوا قرصنة أو غيرها، فهذا شأنهم هم ولا علاقة لنا نحن الجزائريون به مطلقا . وما زاد في خنقهم هو أن جهاد الجزائريين البحري هو من وقف سدا حائلا دون تنفيذ وصيتها السابقة الذكر، وتلك المقاومة الصلبة التي واجبها المشروع التوسعي الإسباني في منطقة المغرب العربي .

ولنفهم أكثر خلفية ما أقدموا عليه من اعتداءات في حق الجزائر علينا أن نعرف الأسباب المحركة والدافعة لهم صوب هذا المسلك . ونحن هنا نعتمد على كتاب حرب الثلاثمائة سنة لأحمد توفيق المدني والذي يخبرنا من أنه : " وعندما جهزت إسبانيا جيشها وأسطولها لغزو المغرب العربي بادر البابا بنشر قرار يعطي به الولاية لملكي إسبانيا على كامل الأراضي التي يفتحانها بهذا المغرب ... وكان نفس البابا قد أصدر سنة 1494 عندما بدأ التفكير الجدي في احتلال المغرب العربي عهدا يبارك فيه الصليبية الإسبانية بإفريقيا . " 18 . كما أنه : " لم يكن للإسبان من هم إلا نقل الحرب إلى إفريقيا ... وإرغام العرب على اعتناق دين المسيح بواسطة السلاح " 19 . وبعد هذا يتحدثون عن قراصنة الجزائر والذين ما كانوا إلا مدافعين عن بلادهم ضد الغزاة الإسبان وهم من أرادوا فرض دينهم عليهم بقوة الحديد والنار .

ثم إن كل من الإسبان والبرتغاليين كانوا مؤمنين بأن التواجد العربي في الأندلس، ما هو إلا عملية احتلال أجنبي بغيض جثم على صدورهم ولمدة ثمانية قرون، ولهذا فهم قد كانوا متخوفين من أي عملية اجتياح ثانية لشبه جزيرة أيبيريا من قبل المسلمين وخصوصا المغاربة منهم، وهذا لكونهم الأقرب لهم ولكون المغاربة من ليبيا شرقا وإلى المغرب الأقصى غربا، كانوا هم حماة الأندلس مع المرابطين والموحدين ومن جاء بعدهم من السلالات . وعليه فهم كانوا ينظرون إلى المنطقة على أنها هي من احتلتهم وسوف تحتلهم من جديد، وخاصة في ظل فرار الموريسكيين إلى شمال إفريقيا واتخاذها كقاعدة انطلاق لإنقاذ إخوانهم في الدين أو لاسترجاع أرضهم . ونتيجة لكل هذا فقد شنت كل من البرتغال وإسبانيا حربا استباقية على المنطقة، وهذا للحيلولة دون أن تكون نقطة انطلاق لغزو جديد لهما . وهذا هو السياق الحقيقي للأحداث ولمّا رد المغاربة على اعتدائهما قالوا بأن مقاومتهم هذه قرصنة بحرية . 

ونحن هنا لا نتجنى عليهم وإنما نحن نعيد فقط ما رددته ألسنتهم هم، ودليلنا هنا هو ما جاء على لسان الملك البرتغالي يوحنا، والذي نقتطف كلامه هذا من كتاب المغرب العربي الكبير لشوقي عطا الله والذي جاء فيه : " وقد أعطت الحروب ضد العرب والمسلمين التي أشرنا إليها البرتغال دفعة دينية قوية بدليل أن الملك يوحنا والد الأمير هنري الذي عرف في الكتب باسم هنري الملاح صرح بأن الميدان الحقيقي الذي يكسب فيه أفراد البيت المالك الفخار هو ميدان الجهاد ضد المسلمين في المغرب، وإنه سيمنح أكبر وسام في بلاده وهو وسام السيد الأعظم لمن يجاهد في الميدان وكان هذا الشرف من نصيب هنري الابن الثالث للملك الذي تصدى لهذه المهمة، وكان إغداق الملك عليه بالرتب ومن دوافع استحقاقه بالمخاطر في سبيل تحقيق الهدف الذي أعلن عنه الملك " 20 .

إضافة إلى ما سبق فإن : " إن الشباب البرتغالي كان يعتقد بأن المسلمين إذا كانوا قد التجأوا من شبه جزيرة الأندلس إلى الشمال الإفريقي فإن الواجب يحتم على المسيحيين ألا يتركوهم ينعمون بالمقام هناك بل أن يتعقبوهم حيث وصلوا " 21 . ولمَا كل هذا الهم الذي يلازمهم كظلهم تجاه شمال إفريقيا، إنه لا همّ لهم سوى نشر المسيحية في هذه المنطقة : " كما كانت من أمنيات الأمير هنرى – وهذا كما صرح هو – أن يعمل عملا يتقرب به إلى الله عن طريق التبشير بالمسيحية الكاثوليكية في سواحل إفريقيا الشمالية وبين الوثنيين الأفريقيين " 22 . وهذه هي إحدى دوافع مجيئهم إلى هذه المنطقة والذي هو استعمار وغزو واحتلال لها واعتداء عليها لا فتح أو دفاع عن النفس . ونحن هنا نرفض أن ينعت التواجد الإسباني بمنطقة شمال إفريقيا على أنه فتح كالقول : " وواصل الإسبان فتوحهم في الجزائر فاستولوا على شرشال ... " 23 . وإنما الواجب هنا تسمية الأمور بمسمياتها فوجودهم ما هو إلا اعتداء وغزو واحتلال واغتصاب ولا شيء بدر منهم غير هذا .

كما لا يجب أن يغيب عن بالنا أبدا من أن حوض البحر المتوسط في تلك الفترة قد كان منطقة صراع دولي متعدد الأطراف، تشبه إلى حد كبير منطقة الشرق الأوسط اليوم، منطقة صراع مرير وهذا نتيجة لضعف الضفة الجنوبية منه . وفي المقابل اشتداد شوكة كل من إسبانيا والبرتغال . وشراهتهما غير المحدودة في التوسع وفي الاستلاء على الغنائم وعلى رأسها الذهب والفضة، وفي مقابل هذا نجد القوة العثمانية الناهضة والتي هي الأخرى لها طموحات إمبراطورية سياسية واقتصادية مماثلة وغير محدودة .

ولذلك وفي ظل هذا الصراع والذي هو صراع بقاء أو موت، فما أسهل على العدو من أن يشوه صورة خصمه ليجد مبررا للقضاء عليه . وهذا ما لاحظناه جميعا مع الوم أ ووصفها الاتحاد لسوفيتي سابقا بإمبراطورية الشر، ووصفها للمقاومة الفلسطينية وللأعمال الفدائية الفلسطينية بالإرهاب هي وحلفاؤها تماما كما كانت تنعت إسبانيا وحلفائها جهاد الجزائريين البحري خلال العهد العثماني . ووصف فرنسا الاستعمارية للمجاهدين الجزائريين ونعتهم بالفلاقة وبقطاع الطرق وباللصوص وبالخارجين عن القانون . ولو كانت المعركة بين المجاهدين الجزائريين والإسبان في القرن السادس عشر برية لوصفوهم هم الأخرون بنفس هذه النعوت . وهذا أمر معتاد فألمانيا النازية تصف المقاومة الفرنسية للغزو النازي بأنها إرهاب وأعمال تخريبية ضد القانون، وتصف المتعاملين معها من الفرنسيين بالأبطال وبالوطنيين وعندما تنهزم النازية فسوف يكون للمنتصر شأنا آخرا في التعامل مع المنهزمين .

ثم إن الدول الأوروبية ومعها كنيسة روما والتي أصبحت تحس بأنها في موقع قوة، وأن الرب قد غير ميزان القوة لصالحها لتدمر الكفار . ولهذا فقد دأبت القوى الأوروبية الناهضة على الاعتداء على الجزائر  ومن منا ينكر تلك السلسلة من الحملات والتي شنها عليها الإنجليز والإسبان والهولنديين وأساطيل جنوة والبندقية ومالطا وكان الفشل من نصيب هؤلاء جميعا . وبعد هذا نتحدث عن الاعتداءات الجزائرية على الشواطئ الأوروبية . إنها حقا لسخافة فعندما تكون الدول الأوروبية في موقف الضعف فإنها تستنجد بالبحرية الجزائرية، بل تمنحها القواعد العسكرية وتخلي المدن من سكانها كما حدث في ميناء طولون الفرنسي على عهد خير الدين بربروسا، والذي تحول إلى قاعدة بحرية جزائرية . وكل هذا لأن فرنسا في تلك الفترة قد كانت في موقف ضعف وتحتاج إلى البحرية الجزائرية في حربها ضد إسبانيا . وهم في نظرها هنا أبطال ومحررين، ولكن عندما تتغير موازين القوى لصالحهم فسيصبح الجزائريون فجأة قراصنة ولصوص بحر، إنها هنا النفعية والبراغماتية في أبشع صورها . ولهذا فأحكامهم في ما يخص وجهة نظرهم على الأعمال الحربية البحرية الجزائرية، لا تهمنا لأنها تنبع من المصالح ولا تحتكم إلى قواعد المنطق والعقل والقانون والعدالة .

إضافة إلى ما سبق نقول بأننا لم نذهب إليهم أبدا طمعا في ما عندهم، فأرض الجزائر هي من كانت تغريهم بالمجيء إليها، وهذا لكونها وكما تقول التوراة أرض تفيض عسلا ولبنا . ولذلك فقد شاهدنا الكثير من البحارة الأوروبيين يلجؤون إلى الجزائر ويعتنقون الإسلام هروبا من جحيم الفقر في أوروبا . ورغبة منهم وكما يقول المؤرخون في الثراء السريع، وهذا ما كان يتحقق لهم بمجرد انضمامهم إلى الأوجاق . كما أننا نجد في رد عباس فرحات على الطالب المالطي والذي قال له بأنه لو لا فرنسا لما أصبحت هكذا، فرد عليه ردا حاسما وهذا حينما قال له من أنه وقبل الاحتلال الفرنسي كان كل جزائري يمتلك حقله، وأن الاستعمار هو المسؤول عن بؤسنا، وكل هذا في معرض رده دوما على استفزاز ذلك الطالب المالطي وها هو يخاطبه قائلا : "  ولكن أنت هل يمكنك أن تقول لي ماذا كان آباؤك يفعلون في مالطة ؟ أليس البؤس هو من جعلهم يهاجرون إلى الجزائر ؟ " 24 .

ومن هنا نستنتج بأن الجزائر أرض الخيرات وأهلها لم يكونوا أهل فاقة وعوز حتى يحترفوا اللصوصية البرية أو البحرية ليعتاشوا منها، وإنما القضية أعمق من هذا بكثير . فهم كانوا يحاربون لأجل قضية نبيلة ألا وهي قضية العدالة للجميع وبمختلف أوجهها . وهذا ما كان يقلق طغاة العالم في تلك الفترة أي حكام إسبانيا والبرتغال والكاردينال خمينيس وزبانية عار إسبانيا والمسيحية، والمقصود هنا محاكم التفتيش الملعونة وسيئة الذكر . هذا ما كان يغيظهم فحتى سقراط العظيم أعتبر في يوم ما مفسدا لشباب أثينا والسيد المسيح ذاته أعتبر هو الآخر مجدفا . ولذلك فصوت الحق دائما يقلق وهذا ما كان يعاني منه الغرب نتيجة لنجاحات البحرية الجزائرية المتصدية لمشاريعهم العدوانية على أراضي الجزائر والمغرب وتونس وليبيا . ولذلك فقد جردوا علينا ذلك السيل من الحملات العدوانية والتي يعددها المؤرخون، وهذا بهدف القضاء على البحرية الجزائرية ووضع يدهم على خيرات الجزائر . ونحن نذكر هذه الحملات وكما جاءت في المراجع التاريخية، وهذا من دون أي تدخل منا فنجد مثلا :  حملة بيدرونا فاروا على المرسى الكبير 1505 م، وحملته على مسرغين 1507 م، و حملته على وهران 1509 م، و حملته على بجاية 1510  م، و حملته على عنابة 1510 م، وحملة ديبقود وفيرا على مدينة الجزائر في العام عام 1516 م،  وحملة أندري دوريا على شرشال في العام 1531 م . كما لا ننسى حملة شرلكان على الجزائر عام 1541 م والتي انتهت نهاية كاريثية . هذا مرورا بحملة 1601 ضد مدينة الجزائر العاصمة وإلى أن نصل إلى حملة اللورد إكسماوث في العام 1816 .

ترى لما كل هذا السيل من هذه الحملات التدميرية ضد الجزائر ؟؟، وهل كان المطلوب من الجزائريين أن يسلموا لهم الجزائر هدية على طبق من ذهب كما يقال . ولما قاومت البحرية الجزائرية غاراتهم تلك وبشكل مشروع فقد اعتبروا مقاومتها المشروعة لصوصية وقرصنة

 

بن امهيدي / الطارف الجزائر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم