صحيفة المثقف

زهرا خصخوصي: أتنفّس دلالك

MM80عيناه لا تَقرّان..

نظراته تجول كتائه بين البيد والعتمة..

المدفأة تشرق بالرّماد.. الفنجان الوحيد على المنضدة القريبة منها يتلمّظ بقايا قهوة جفّت وما خبت ريحها..

تضجّ ساقاه بوهن شديد فيرتمي على المقعد المزدوج المفجوع منذ شهر يُعانقه شال وشاح حزين..

تتعالى في نبضه نواحات الوجع ويشتدّ صليل نبال الحنين..

تمتدّ يده إلى الوشاح تدنيه من وجهه.. تغرق شفتاه المحمومتان في مخمله تلثمه، تسقي مقلتاه جذور خمائل وصال كانت تعرّش في نسيجه..

يرتجف خافقه.. يدسّ وجهه في الوشاح أكثر فأكثر يرتضع بقايا عطر وبقايا فرح كان...

يُغمض عينيه فرارا من جحافل الذّكرى. يضجّ المكان بهمساتهما...

يسدّ أذنيه بإصبعيه. تتهادى في نبضه ضحكاتها حوريّة فردوسيّة...

يمتطيه حنين بلا بوصلة.. ويُسلم روحه إلى دفّة حزن دفين..

عاشقين كانا..فرّا من أتون الحرب إلى هذه القرية الجبليّة..

في المعبد الصّغير تزوّجا.. تلا شيخ بعض التّراتيل وقادهما إلى فندق صغير في جوف الغابة..

ألفت الغابة خطاهما وأحلامهما..

ذاك المساء..

ثملا بفوح الرّبيع وترانيم أجنحة الفراش تناجي الزّهر..

افترشا عشبا نديّا تحت سنديانة عجوز.. على صدره ألقت بجذعها، إلى رأسها أسند ذقنه، يثمله عطر شعرها وتُغرقها كلمات نزاريّة ينتقيها لها من كتاب بين يديه في يَمّ وَلَه..

فجأة اضطربت الغصون..

ارتجفت وريقات الشّجر..

نزّت ضروع السّماء رذاذا..

شعر نادر بارتجافات منى.. امتدّت يده إلى وجهها فألفى وجنتيها قطعة جليد..

لفّ حولها ذراعيه فتململت في حضنه وهي تهمس:

_ لنَعُد قبل اشتداد العاصفة..

رفع عينيه إلى السّماء كخبير وأجابها بصوت يحاكي همسها:

_إنّها غيمة عابرة حبيبتي..

وتأمّل نظراتها الوجلة مبتسما وتابع يقول:

_حدّثني صاحب الفندق عن كوخ صغير في الممرّ الخلفيّ، قد نكتريه منه بدل الغرفة الضّيّقة، هلمّي نحتمي به..

انتصب واقفا يجذبها من يدها فانجذبت إليه كخيط حرير، رقيقة، مرهفة.. لفّها بذراعيه كعصفورة مقرورة، وتقدّما خطوات إلى الأمام ثمّ انعرج بها يسارا، فلاحَ لهما كوخ صغيريجثو عند أقدام أشجار صرو، ولجاه مفتونين بروعة بساطته..

_كأنّه مُخصّص لشخص واحد..

تمتمت..

_بل كأنّه ينتظرنا..

ردّد ضاحكا وهو يسرع إلى مدفأة يُلقمها قٌطيعات خشب تناثرت بجانبها، ويرشّ عليها بقايا وقود جاد بها دنّ مُهمَل..

حين تعانقت ألسنة اللّهب التفت إليها، كأمير القصص الخرافيّة، تُضيء ابتسامته الولهةُ وجهَها المكسوَّ فرحا..

شعر بحرارة المدفأة والرّوح فرفعها إليه كطفلة وأخذا يتأرجحان في دورات متتابعة وقهقهاتهما تسري بالكون نحو عذب الوجود..

سحب وشاحها المبتلّ وألقاه على ظهر مقعد خشبيّ مزدوج يمتدّ كأريكة، وانبرى يعدّ يعدّ قهوة..

سمعها تهمس: عسى فرحنا يدوم.. عسانا ندوم..

هوى عليها يقبّلها وهو يردّد:

_سيدوم فرحنا يا مُناي.. سندوم.. ما نجونا من شظايا الحرب وويلات الطّريق إلّا لنمتدّ ترنيمة وله وفرح..

ساد صمت عذب وهما يرتشفان القهوة السّاخنة من الفنجان الوحيد في الكوخ وأنامله تتخلّل جدائلها النّديّة..

تمتمت: توقّف المطر..

همس: وحلّ اللّيل..

جفلت.. ردّدت:" هل سنبيت هنا؟"

همس: بل سنعود إلى غرفتنا.. الغابة آمنة والبدر مكتمل..

شهقت وهما يدلفان خارج الكوخ وقد ترمّدت فيه المدفأة:" ما أجمل البدر.."

ردّد نادر:" إنّه مثقَل بالاشتياق إلى سمر العشّاق، أرهبته أصوات الحرب والخراب وصدّته الجدران الإسمنتيّة عن مجالسهم.."

قاطعه صوت خرير.. همست منى :"جدول ..؟"

فأجابها نادر:" بل نهر رقراق.. ينساب من ثغر الجبل حالما.. يقول صاحب الفندق "إنّه مُبارك".."

ثمّ سألها متحمّسا:" أنعرّج عليه..؟"

_اللّيل.. الغابة..؟

ردّدت وجلة..

_لا تخافي حبيبتي.. القرية والغابة آمنان ليلا كالنّهار.. ضياء البدر هزم الدّجى.. والنّهر يضجّ بحُبَيباته وهي تتلاحق في سباق طفوليّ يتوق بعضها إلى ضمّ بعضها، وتُسكره همسات الدّلال.."

_طوبى لزوجي الشّاعر..

همست منى في جذل وهي تتأبّط ذراعه أكثر..فوشوش لها نادر:"أنا شاعر عاشق أتنفّس دلالك..."وانعرج بها نحو ممرّ منحدر، وبين الفينة والأخرى تتقافز خطاهما بين البرك الصّغيرة وقهقهات الوله..

_أغمضي عينيك... 

_لماذا؟

_سأقودك إلى محراب الخلود.. سنلجه حافيين فتخفّفي... خطوة..

_خطوتان..

_ثلاث خطوات..

_باااردة...

يشعر نادر بقشعريرة تسري في جسد مُنى فيضمّها إليه ويهمس:"افتحي عينيك الآن.."

سطح النّهر لُجين ينسكب عليه شوق البدر سبائك من حرير.. تشهق مُنى:" ما أرقّه.."

يهمس نادر:"ما أجملك.."

بحركة طفوليّة تغترف بعض ماء ترشّ به وجهه، ينثني ليحاكيها فتفرّ منه، يلاحقها وهما يتقاذفان بزخّات الماء.

ماء النّهر يعلو ويعلو وهما عنه لاهيان..

النّهر ثمل بهما..

الغاب ثمل بهما..

وهما ثملان بالوله واللّيل والبدر والماء..

دويّ هائل يدكّ سفح الجبل.. وهما عنه لاهيان..

رآها تختفي تحت الماء. ارتعد خوفا..

عاد رأسها يرتفع فابتسم.. صاح:" أرعبتني.."

عادت تختفي وتَبين.. ثمّ رآها بعيدة عنه تُلوّح بيديها..

 خالها تمازحه، اندفع إليها، فهاله حجم الدّفق وعمق النّهر..

نادى:" منى.. توقّفي.."

ما سمع غير هدير النّهر وقد علا مدّه.. اندفع خلف حبيبته المتلاشية أمامه كبقايا سحابة..

في غرفة من غرف المستشفى فتح عينيه..

 وحيدا مثقلا بكدمات النّهر صاح:" أينها..؟"

أجابه صوت كالصّدى:" رحلت.."

يفتح نادر عينين مغرورقتين فقدا وصوت يتناهى إليه متسائلا :" هل نرحل..؟"

تمتدّ يده إلى خدّه تسحق لؤلؤة الوجع وهويتذكّر صاحب الفندق الذي رافقه إلى الكوخ بحثا عن شال عروسه وعن كتاب كان يقرؤه لها قبل المطر..

 

الكاتبة: زهرا خصخوصي / تونس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم