صحيفة المثقف

عدنان المشيمش: التشبيه في شعر قاسم عبد الهادي السواد

adnan almshamshلعل الكثيرين يعرفون الشاعر المرحوم قاسم السواد كاتبا مسرحيا ومخرجا ومقدم برنامج في تلفزيون البصرة  لكن غاب عن اذهان المهتمين بالادب ان السواد شاعر ايضا يكتب الشعر العامي والفصيح سواء أكان شعر تفعيلة ام عمود وله في ذلك تجارب مميزة غير انه لم يطبع قبل وفاته ديوانا بشعر التفعيلة والعمود بل  نشر مجموعة عنوانها " طيور المساء تسافر في الصيف" وجميع نصوصها من قصائد النثر وهذا يدل على ان شاعرنا يواكب تطور الساحة الادبية ويؤمن بالتجديد فلا يقف عند نمط معين يصرف موهبته اليه فقط.

وقد لفت نظري في هذه المجموعة صور الشاعر التي رسم بها ملامح التنومة وشط العرب والبصرة في مختلف الصيغ البيانية واخص  ومنها مسالة التشبيه عنده التي توقفت عندها في مقالي هذا . ان ما نسميه نحن العرب تشبيها بليغا اي من دون أداتي التشبيه " كان ، الكاف " بين المشبه والمشبه به، هو ما يطلق عليه النقاد الاوربيون استعارة او يدرجونه ضمن الاستعارة ذلك الأسلوب البلاغي الذي اهتم به الشاعر السواد  كقوله التالي:

اعلم ان خزامى الارض

خرافات

والإبقاء عليها ريح صماء

يجعل شاعرنا الخزامى  خرافات وديمومة الخزامى ريح مصابة بالخرس وفي هذا تعريض الى قصر عمر الخزامى كأنه غير موجود خرافة وكان الشعراء أسلافنا الذين تغنوا فيه ترنموا بالخرافات في حين شبه الشاعر ديمومة الخزامي بالخرس أنهما تشبيهان يتعلقان بمفردة واحدة كاننا امام تشبيه منشطر او تشبيه عنقودي  حاول الشاعر من خلاله ان يبحث عن شيء اخر ذي ديمومة وإذا به في نهاية القصيدة يكشف عنه :

ثم استقر في رباك مشرئبا

ونجده. في تشبيه اخر يقول:

ان افتعال الرحيل

على ماتم الأسفار

هو محض هراء

الرحيل يتحول وفق التشبيه البليغ الى هراء حقيقي لكن ذلك لا يتم الا عبر الجملة المعترضة متى نفتعل الرحيل؟ حين نحاصر ولا نجد منفذا للهرب بدليل ماتم الأسفار لان السفر بحد ذاته اغتراب فهو أشبه بنعي بذلك ينفي الرحيل كينونة الشخص ويلغي وجوده  فلا نعجب بعد هذا حين نطالع تشبيها اخر نجد فيه الشاعر يعتز من أعماقه بالمكان ضمن إطار الطبيعة التي يعايشها :

يقينا ان المسافة بين النخلة

وبين الكرمة

هي المسافة بين البصرة وبيني

تشبيه بليغ اخر مركب اختفت منه اداة التشبيه الكاف هناك بعد مكاني بين شيئين  متعلقين بالطبيعة التي عايشها الشاعر هما النخلة والكرمة النخلة رمز الانسان في العراق والدالة على تاريخية والكرمة التي تنمو أسفل النخلة لتستظل بظلها لتحتمي بها من فرط الحر او لنقل ليست هناك من مسافة بين الكرمة والنخلة حيث في جانب الصورة الاخر نجد طرفين اخرين هما إلانا والبصرة  تشبيه أطرافه أربعة تتداخل فيما بينها، ثم في ختام القصيدة يتشعب الشاعر في تثليث المشبه وتثنية المشبه به:

المسافة بيني وبين النوارس والأقحوان

هي المسافة بين بغداد وامتدادالدهور

التشبيه الاول مكاني بحت علاقة النخلة بالكرمة والشاعر بالبصرة ثم وجدنا ان هناك إلانا والنوارس والأقحوان ثلاثة أطراف اثنان متحركتان  وواحد ثابت لياتي المشبه به ضمن علاقة زمنكانية هي بغداد والزمان حيث من هذا التشبيه نستطلع تاريخ بغداد بأفراحه ومآسيه وفق زمن مفتوح لا حد له.

وقد يكون التشبيه جزءا دالا على الكل  كما في التصوير التالي:

فأحمل يدي ولوح لهم لان الاصابع

مفاتيح عشقي الذي لن يضيع

لم تكن أصابع الشاعر  نفسه فحسب بل أصبحت دالة على أعماقه انها مفاتيح حب أبدي وهنا اختار الشاعر كلمة عشق وهو في قصيدة نثر لا تتقيد بوزن لكن العشق ارقى مرتبة من الحب والعشق يعنى بالروح ، وفي تشبيه اخر يخاطب الأنثى عبر كلمة اعلمي التي يتعدى عملها الى اكثر من مفعول:

اعلمي ان حصار التكهنات

سيل سيجرف دورتنا

عند احتقان الشفاه

الذي أراه بعد تأملي هذا المقطع ان الشاعر لايترك التشبيه ينتهي نهاية ضيقة اذ يجعله يتفرع مثل نهر يصبح في النهاية دلتا ذات شعب ان التكهنات في حالة حصارها تتحول الى سيل،  اي منا يمكن ان يحدد تكهناته  للموقف الواحد للمشكلة الواحدة في  اكثر من توقع، هذه التوقعات تتحول الى سيل جارف في حال حصارها لتصبح كلاما تردده الشفاه، وفي قصيدة الدخان يقول:

لا ترم شجرة بحجر

لان تساقط الثمار

على ارض موغلة في العشق

امتداد للخطيئة

يبدو المقطع السابق كحكمة يوجهها شيخ طاعن في السن لطفل غر غير ان انعام  النظر في التشبيه يجعلنا نستنتج ان العشق يعني السمو والفاكهة هي ثمرة العشق فالأحجار هي خطايا تثقل عشقنا الالهي وتشده الى الارض  ماذا لو قلنا  لا ترم شجرة بحجر لان تساقط الثمار امتداد للخطيئة . ان الجملة المعترضة توسطت المشبه والمشبه به لتضيق المسافة العمودية بين ثمر الشجرة والأرض بالتالي تتحق الفائدة المرجوة من التشبيه والمعنى الصوفي والروحي الفلسفي العميق عبر الكلمات المعترضة.

ونجد الشاعر يهتم بالتشبيه البليغ في قصيدة اخرى عنوانها الاحتراق:

فطيف سحابة عند اختلاج الزهور

مسافة ارض بيني وبين الصحو

محور التشبيه البليغ اعلاه هو العطش. ان الزهور تختلج عندما تعطش مثلنا حين تختلج العبرات بصدورنا بعد ذلك ندخل في تركيب اخر للتشبيه من خلال المشبه به هو الارض التي يقف عليها الشاعر  والمسافة التي تبعده عن الصحو فمن خلال تركيبة التشبيه أراد الشاعر ان يلمح الى عطشه هو للأرض وعلاقته بها.

ان  المرحوم السواد رسم في مجموعته " طيور المساء تسافر في الصيف" بيئته التي عاشها فعكس عليها وصفه الدقيق الحي ليجعلها تنطق على لسانه  والتشبيه الذي نحن بصدد الحديث عنه يعد احدى الأدوات التي لجأ اليها الشاعر في رسم صوره  واظنه نجح في تقديم صور شعرية جميلة لمدينته التي عاش امالها وآلامها .

 

عدنان المشيمش

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم