صحيفة المثقف

كمال الهردي: كتاب (الله) لعباس محمود العقاد محطة عبقرية لفهم الذات الإلهية

kamal alhardiرحلة روحية ممتعة هي تلك التي يقضيها المتفيء للظلال الوارفة في حنايا كتاب العقاد (الله)، إذ تناول بالبحث والاستقصاء فكرة الذات الإلهية وتنوع الفهوم البشرية لتلك المسألة منذ بزوغ فجر التاريخ وحتى اللحظة. ولملامسة معنى من معاني الذات الإلهية فقد بوب العقاد كتابه جاعلا فصوله إطلالات على الحضارات والفلسفات التي عنيت بمحاوﻻت درك كنه الذات الإلهية، فشرح كاتبا :

1. مفهوم الذات الإلهية في الحضارة اليونانية: قبل عصر الفلسفة كان تاريخ العقيدة في بلاد اليونان حافل بأنواع متعددة من العقائد البدائية، إذ عبدوا أسلافهم وأعضاء التناسل ومظاهر الطبيعة، وقد مزجوا تلك العبارات بطلاسم السحر والشعوذة. وبعد عصر الفلسفة اليونانية ظلوا يدينون بالوثنية التي كانوا يدينون بها قبل الميلاد بعدة قرون، غير أن (اكسينوفون) المولود بآسيا الصغرى قبل الميلاد بنحو ستة قرون كان أول من نقل إلى الإغريق فكرة الإله الواحد المنزه عن الأشباه والنظائر، وفسر عبادة الأشباه بفكرة القرب من الذات، فمثلا الإنسان الأسود يتمثل الرب أسود بينما ﻻ يراه كذلك الأبيض.

2. مفهوم الذات الإلهية في حضارة بابل: الحضارة البابلية كان لها كهانات وأساطير متعددة بحسب الأسر المالكة التي كانت (شمرية) ثم أصبحت (سامية) والتي بدورها صارت فرقا شتى في الجزيرة العربية من الجنوب إلى الشمال. وكانت الأرباب عندهم هي الأسلاف الذين قضوا في الحروب فغابت ملامحهم الإنسانية وتحولوا إلى ظواهر كونية كالأفلاك والكواكب، فمردوخ مثلا هو إله الحرب وقد صار كوكب المريخ. وعلى الرغم من أن الساميون والشمريون قد اتفقوا على الأرباب الكبرى مثل إله النور وإله الحب إلا أنه لم يؤثر عنهم إيمان بعالم آخر أو بيوم للحساب والجزاء. فمن اجترأ على فعل محرم أو قصر في الصلوات والقرابين تجزيه الآلهة على ذنبه بمرض أو خسارة في مال أو بنين أو أقارب. وهكذا فإن كل مصيبة هي ذنب مقترف أو فريضة منسية أو حث على طلب الغفران.

3. مفهوم الذات الإلهية في حضارة  فارس: قام زراذشت - صاحب الشريعة القومية في بلاد فارس وأرفع الأعلام شأنا بين دعاة المجوسية - بتقديم فكرة الإله على أنقاض الوثنية، وجعل الخير المحض من صفات الله ونزل بإله الشر إلى ما دون منزلة المساواة بينه وبين الإله الأعلى، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب. وقد حرم زراذشت عبادة الأصنام والأوثان، وقدس النار على أنها هي أصفى وأطهر العناصر المخلوقة. كما قال بأن الأرواح العلوية كلها أرواح صافية ﻻ تشاب بالتجسيد.

4. مفهوم الذات الإلهية في حضارة الصين: دان التاريخ الصيني العقدي بالكثير من العبادات كعقائد البوذية والمجوسية والإسلام والمسيحية إلا أن أكثر أشكال العبادة شيوعا وذيوعا هي عبادة أرواح الأسلاف والأبطال حيث يتزلفونهم بتقديم القرابين من أغذية وأشربة وأكسية وطيوب. أما الخير والشر عندهم هو ما يرضي الأسلاف أو يسخطهم من أعمال الأبناء. وقد امتزجت عندهم عبادة الأسلاف بعبادة العناصر الطبيعية كالشمس والقمر والكواكب والسحب والرياح إلا أن أكبرها هو إله السماء ويليه إله الشمس فبقية عناصر الطبيعة. هذا مع اعتقادهم بأن إله السماء هو الذي يصرف الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل إنسان مجرى حياته الذي ﻻ يحيد عنه.

5. مفهوم الذات الإلهية في الحضارة الهندية: اشتملت الديانة الهندية القديمة على أنواع شتى من الآلهة تمثلت في قوى الطبيعية وفي وحدة الوجود والحلول وتناسخ الأرواح ؛ فعبدوا الحيوان على اعتباره جدا قديما أو صديقا عائدا. ثم تخلفت عبادة الحيوان حتى آمنوا بأن الله يتجلى في كل موجود أو يخص بعض الأحياء بالحلول، لكنهم خلصوا كما خلص غيرهم من هذه العبادات إلى الإيمان بالإله الواحد وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه.

6. الفلسفة وفكرة الذات الإلهية : لم تخل فلسفة قط من فكرة دينية في أساسها أو في مضامينها، وﻻ استثناء في ذلك حتى لأكبرهم وأقدرهم وهم سقراط وأفلاطون وأرسطو. فمباحث أفلاطون العلمية والفلسفية لم تخرجه من سلطان الفكرة الدينية في القول بالهيولي والحركة الأولى. فلولا الإيمان بالخالق والمخلوق والروح والجسد لما خلص أرسطو إلى الصورة والمادة والتفريق بين العقل والهيولي. وكما قال أبو الحكماء طاليس - كما قالت الأديان من قبله - بأن الماء أصل كل شيء، وأن الروح تحرك المادة، فما من متحرك إلا وهو ذو روح أو منقاد لذي روح إذ ﻻ يستطيع المغناطيس مثلا أن يجذب برادة الحديد إلا بروح فيه.

7. الأديان السماوية : نزلت الكتب السماوية لتحد من عناء الإنسان في بحثه عن ماهية الخالق عز وجل. وقالت بالتالي :

أ. الأحدية : ليس كمثله شيء.

ب. الواحدية : ليس متعدد بالاثنينية أو التجزئة.

ج. مطلق العلم

د. مطلق القدرة

ه. حكيم سميع بصير متكلم مريد

و. له كل صفات الجمال والجلال والكمال

8. التصوف وفكرة الذات الإلهية : التصوف إذا بلغ مرتبة التأصل والابتكار حق أن نسميه ب (العبقرية الدينية)، وهي ملكة يستعد لها آحاد من الناس وﻻ تشيع في الجماعات. والتصوف الذي يجلو أدران النفس ويصقل مرآة القلب يسمح لصاحبه بالتحليق في معارج الروح ليرى ما ﻻ يراه الناس من عظمة الخالق وبديع صنعه (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) النجم. والعين ﻻ ترى ذاتها إلا بمرآة، ومخلوقاته سبحانه مرآته. والتصوف رحلة روحية تقوم على عبادة الحب (يحبهم ويحبونه) لأن الحب هو أقصر الطرق للوصول إلى الغايات والنهايات. وتاريخ التصوف يروي لنا عن أقطاب تصوف صار كل منهم أمثولة في عبادات الحب والوله بالمحبوب. ومن أولئك الأقطاب المشهور والمغمور، ورب مغمور أعلى منزلة من مشهور .

 

كمال الهردي - كاتب وروائي يمني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم