صحيفة المثقف

ميثاق العسر: فرية قبر المختار عند المحدّثين النوري والقمّي!!

يبدو أنّ جهود المحدّث عبّاس القمّي وأستاذه الكبير المحدّث النوري في مواجهة الخرافة تمدّدت إلى مديات كبيرة وعميقة جدّاً، لكنّ المؤسف إنّ الستار أُسدل على هذه الجهود لأسباب يبدو إنّها تتّكأ في الغالب على قاعدة التسامح في أدلّة الخرافة والمراقد، وهي قاعدة دارّة ماليّاً ومعنويّاً، ومعروفة ومعمول بها في حوزاتنا العلميّة المعاصرة وإن لم يصرّح الأعلام بها أو أظهروا خلافها. وقد طرحنا في المقال السابق نموذجاً من جهود المرحوم القمّي التي أظهرت عدم وجود عينٍ ولا أثرٍ لحديث الكساء بصيغته المشهورة والمنشورة والمقروءة في الكتب الحديثيّة المعتبرة، وساتناول اليوم نموذجاً آخر يتعلّق بقبر المختار بن أبي عبيدة الثقفي الملاصق لمسجد الكوفة، لنرى حقيقته وواقعيّته، لكن قبل ذلك نحتاج إلى إيجاز مقدّمة.

المعروف والمشهور: إنّ السلطان ناصر الدّين شاه القاجاري "1831ـ1896م" فوّض إلى الشيخ عبد الحسين الطّهراني [المعروف بشيخ العراقيّين والمتوفّى سنة: "1869م"] عمارة المشاهد في كربلاء والكاظمية وسامراء، وتذهيب القبّة في سامراء وبناء الصحن وزخرفته وتوسعة الحرم الحائري أيضاً‏، وهذا الشيخ يُعتبر أستاذ المحدّث النوري "1838ـ1903م" صاحب الكتاب المعروف: "مستدرك الوسائل"، وقد أطرى عليه الأخير أطراءً بالغاً أيضاً في خاتمة المستدرك، معبّراً عنه: «شيخي وأستاذي ومن إليه في العلوم‏ الشرعيّة استنادي، أفقه الفقهاء وأفضل العلماء... جاهد في الله في محو صولة المبتدعين، أقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات، صاحبته زماناً طويلاً إلى أن نعق بيني وبينه الغراب واتّخذ المضجع تحت التراب»([1]).

بعد وضوح هذه المقدّمة الموجزة دعونا نقرأ رواية موثّقة ومسندة رواها المحدّث القمّي عن أستاذه المحدّث النوري مباشرة حول قبر المختار بن أبي عبيدة الثقفي المعروف في الكوفة، حيث قال ما ترجمته وما بين قوسين إيضاح منّي: «بعث أحد كبار التجّار القاجاريّين مبلغاً يقرب من: "400 تومان" [وكان مبلغاً كبيراً في وقتها] إلى... فقيه عصره وعلّامة دهره الشيخ عبد الحسين الطهراني [المعروف بشيخ العراقيّين]؛ لغرض تعيين قبر المختار بن أبي عبيدة الثقفي وتحديد مكانه، فأخبرهم الشيخ إنّ قبره غير معلوم ودعاهم إلى صرف المبلغ في مورد آخر، لكنّ هذا التّاجر أصرّ على صرفه في هذا المجال، فاضطرّ المرحوم الشيخ الطهراني إلى الفحص والمتابعة، وقد كنت أنا في خدمته في تلك الفترة [والكلام لازال للمحدّث النوري]، لكنّه لم يجد أيّ ذكر لذلك غير عبارة ابن نما [وهو من أعلام القرن السابع]، فأعرض عن متابعة الموضوع». وعلى هذا الأساس لا يرى المحدّث القمّي "1877ـ1940م" صاحب مفاتيح الجنان إيّ صحّة لقبر المختار المعروف في الكوفة، ويراه من قبيل كثير من القبور التي يتصوّر عامّة النّاس صحّتها، مع إن الواقع خلاف ذلك([2]).

ومّما تقدّم يتّضح لكم الحال في القصص والأساطير المشهورة والمنشورة في خصوص تحديد قبر المختار، والتي جاء بعضها في أمثال: "تاريخ الكوفة" للسيّد حسين البراقي "1845ـ 1914م" مع إضافات المرحوم السيّد محمد صادق بحر العلوم "1897ـ 1979م"([3])، وتناقلتها المواقع التّابعة للعتبات المقدّسة والمرجعيّات الدينيّة أيضاً؛ حيث أُدّعي بأن شيخ العراقيّين الطهراني لمّا يأس من العثور على قبر المختار انتهى إليه عن السيّد رضا بحر العلوم إنّ والده السيّد مهدي كان إذا اجتاز على الزاوية الشرقيّة بجنب الحائط القبلي من مسجد الكوفة حيث يعرف قبره الآن يقول: لنقرأ سورة الفاتحة للمختار فيقرأها، فأمر الشيخ بحفر الموضع فظهرت صخرة منقوش عليها: هذا قبر المختار بن أبي عبيدة الثقفي، فعلّم المكان قبراً له!!!، فمثل هذه القصص والأساطير تكذّبها الرواية ذات السند الأعلائي التي رواها المحدّث النوري عن أستاذه شيخ العراقيّين الطهراني الذي صاحبه فترة طويلة حتّى وفاته، ومن غير المعقول أن تحدث مثل هذه الحادثة الجليّة والواضحة ولا يعلم النوري بحصولها وهو التلميذ المقرّب الذي رافقه حتّى وفاته، لكنّها الصخرة المعروفة التي تُلجم أفق الباحثين بشكل متكرّر في أمثال هذه الأمور؛ فكلّما أرادوا قمع النابهين قالوا لهم: لقد وجد فلان عالم أو عابد صخرة كتب عليها هذا قبر فلان أو فلانة، وللمنتفعين في إيجاد هذه الصخرة شؤون وشؤون([4]).

 

..........................

([1]) خاتمة مستدرك الوسائل: ج2، ص114.

([2]) هديّة الزائرين: ص278.

([3]) تاريخ الكوفة: ص85.

([4]) 11 نوفمبر، 2016.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم