صحيفة المثقف

كمال الهردي: كتاب البخلاء للجاحظ يكشف خبايا وخفايا عالم الشح!

kamal alhardiمن المفارقات العجيبة أن البخلاء ﻻ يرون أنفسهم بخلاء، والأغرب من ذلك أنهم يصمون المنفقين بالسفه والطيش، والأمر الأكثر غرابة على الإطلاق أن البخيل قد يجود في لحظة من لحظات طيشه وجنونه، وحين يثوب إلى رشده ويستفيق من سكرته يدخل مرحلة جلد الذات التي تنتهي بالتوبة النصوح من إنفاق المال !

أورد الجاحظ في كتابة (البخلاء) صنوف من البخلاء والتي ﻻ تنفك تثير خليط من الشعور بالدهشة والاشمئزاز من الحالة التي يرتضيها البخيل لنفسه دون أن يرى في ذلك بأس أو جريرة ! يجيب أحد البخلاء على أحد لائميه قائلا : العيب أن تعيب ما ليس بعيب، ويقول آخر : الكرم سفه وطيش، ويقول ثالث : المال أصل والعلم فرع، فبالمال تقوم النفوس وﻻ غنى لأحد عنه، أما العلم ففضيلة إن قام بها آحاد من الناس سقطت عن البقية، كما أنك تجد كثير من العلماء على أبواب الأغنياء ويندر الضد.

وﻻ يكتفي البخلاء بالاحتفاظ بفلسفتهم لأنفسهم بل ﻻ يجدون حرجا من نصح الغير ودعوته لفضيلة الشح قائلين : حرزوا نعمة المال بالحفظ ولا تعطبوها بالإنفاق، فالمال ركيزة الدار ؛ إن احتيج إليه استعمل، وإن استغني عنه فهو عدة. هذا فضلا عن أن الشحيح ﻻ يتورع عن إضفاء هالة من الفضيلة حول الشح تحت مسمى الحرص، كما يجد مبررا لحالة الحرمان التي يعيشها مدعيا أن حرمان نفسه من متع الحياة إنما هو مراس ودربة للنفس على الصبر والجلد، وأن حرمانه لذويه إنما هو لزرع فضيلة الإعتماد على الذات وليكونوا عصاميين. أما في حالة المرض وعدم التطبب فيعزو البخيل ذلك إلى تقوية مناعة الجسم بتحمل المرض. أما ارتداء الأسمال (الثياب الرثة والمتهالكة ) فذلك لدى البخيل زهد وورع وتواضع. وهكذا فإن الشحيح يرى الشح فضيلة واجبة التطبع.

وقد يتمادى البخلاء في تقديس الشح ليصلوا إلى تخوم الجنون والذي يسول لهم محاولة ادخار حواسهم ؛ فهذا يحاول التنفس من منخر واحد فقط، وذاك يجهد في الرؤية بعين واحدة، وثالث يضع إصبعه في أذن ليسمع بواحدة، ورابع يطلق زوجته المهدرة لطاقته، وهكذا دواليك.   

حالة الدنو الإنساني والسقوط الروحي المتمثلة في البخل والتي صورها الجاحظ في كتابه البخلاء تشي بأن الشح قد يكون في أفراد من قوم أو قد يكون صبغة عامة في قوم بسبب - وفقا للجاحظ - جواهر الماء والطين ؛ أي الطبع المتأصل في الأسلاف والذي ينتقل إلى الأخلاف.

ومن نوادر البخلاء أن بخيلا شكى إلى صديق له (بخيل أيضا) إسرافه قائلا:

- آكل ثلاث تمرات في اليوم والليلة، وأشعر بأني قد صرت من المسرفين المبذرين.

فأجاب الصديق:

- ولم ﻻ تخفض العدد إلى تمرتين أو واحدة؟

- ﻻ استطيع لأني أشعر بالجوع !

- ﻻ عليك يا صديقي، سأدلك على   طريقة أكل تمرتين فقط تشعرك بالشبع والامتلاء .

- اسعفني بها يا صديقي!

- كل التمر بنواه.

- وكيف يتسنى ذلك؟

- كل التمرة وابتلع نواتها.

وبعد شهر من أكل التمر بنواه، جاء البخيل مهرولا يشكو إلى صديقه انسداد قناته الإخراجية بسبب أنوية التمر. ضحك الصديق مردفا:

- ولماذا تريد إخراجهن؟ أنت لست بحاجة إلى إخراج نعمة وقرت في أحشائك !! هههه

وهكذا يبدو أن ترياق البخلاء هو مزيد من البخل حتى يستشرفوا براثن الموت فيدركوا عندها بأنهم على خطأ. يجدر القول بأن البخلاء هم أكثر الناس تعاسة وشقاء في الحياة، فهم يقضون حيواتهم في نصب مقيم جائعين، مرضى، شعث، غبر، من أجل وضع الدرهم على الدرهم ليأتي من يرثهم فينثر تلك الدراهم المصفوفة والدنانير الملفوفة شذر مذر !!

ليس هذا وحسب، بل إن أزواجهم تمقتهم، وأوﻻدهم يتمنون زوالهم، والأخلاق تلفظهم، والأديان تتبرهم، والألسن تسلقهم، والقلوب تلعنهم، ودود الأرض لن يجد ما يأكل فيهم، وبعد ذلك كله يحسبون أنهم يحسنون صنعا !!!

 

كمال الهردي: كاتب وروائي يمني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم