صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: بين التاريخ والتاريخية

yousri abdulganiمعنى التاريخ: التاريخ في اللغة العربية يعني الزمن، وبيان الوقت، وإثبات الواقعة الجديدة .

يقول السخاوي في كتابه: " الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ": التاريخ في اللغة يعني الإعلام بالوقت .. يقال: أرخت الكتاب، وورخته .. أي بينت وقت أو موعد كتابته .

وقال الجوهري في معجمه (الصحاح): التاريخ تعريف بالوقت، والتوريخ مثله .. يقال: أرخت وورخت .

وفي المعجم الوجيز (مادة أرخ) نجد: أرخ الكتاب أي حدد تاريخه، وأرخ للحادث أي فصل تاريخه، وحدد وقته .

والتاريخ هو جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، ويصدق على الفرد والمجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية، وعلى الإجمال فإن التاريخ هو تسجيل الأحوال والأحداث والظواهر التاريخية .

وقيل: إن اشتقاق الكلمة جاء من (الأرخ) بفتح الهمزة وكسرها، وهي أنثى بقر الوحش، لأنه شيء حدث كما يحدث المولد .

هذا، وقد فرق العلامة / الأصمعي بين لغتين، فقال: إن تميم تقول: ورخت الكتاب توريخاً، أما قيس فتقول: أرخت الكتاب تأريخاً .

وهذا يؤكد لنا أن الكلمة عربية الأصل (صريحة العروبة)، يقول أبو الفرج قدامة بن جعفر في كتابه (الخراج): تاريخ كل شئ آخره ووقته الذي ينتهي إليه زمنه، ومنه قيل: لفلان تاريخ قومه .. إما لكون المنتهى إليه في شرف قومه كما قال المطرزي، وذلك بالنظر لإضافة الأمور الجديدة من كره أو فخر أو نحوها إليه، وإما لكونه ذاكراً للأخبار وما شاكلها .

وقيل أيضاً أن الكلمة ليست عربية صريحة، بل هي معربة عن كلمة (ماء روز) الفارسية (ماء تعني القمر، وروز تعني اليوم) أي بداية اليوم من ظهور الهلال .

وفي (المصباح المنير) للفيومي ما يؤكد ذلك، إذ يعتبر: " التاريخ باليالي، لأن الليل عند العرب سابق على النهار لأنهم كانوا أميين لا يحسنون الكتابة، ولم يعرفوا حساب غيرهم من الأمم، فتمسكوا بظهور الهلال، وإنما يظهر بالليل فجعلوه ابتداء التاريخ ."

أما في اللغات الأوربية، فالكلمة مأخوذة من الأصل اليوناني Historia ، ومعناها: البحث والتقصي والمشاهدة، وقد اتخذها (هيرودت) اليوناني عنواناً لكتابه، فاستحدث بهذا ثورة في التأليف .

وقبل (هيرودت) كانت أعمال الكتاب القدامى تقتصر على القصص، ولكنه عني بالكشف عن الحقيقة، وما يتبعها من معان مما جعله إماماً للتاريخ .

وعليه فقد تحولت الأساطير على يد (هيرودت) إلى تاريخ علمي (إن جاز التعبير)، بل أصبح التاريخ في نظره دراسة اجتماعية تتميز عن دراسة الأساطير، أو دراسة حكومات تستند إلى سلطات السماء، على نحو ما قاله في مقدمته، من أن هدفه وصف أعمال البشر التي لن تنساها .

ويلاحظ أن الاختلاف بين اللغة العربية واللغة اليونانية التي أخذت عنها اللغات الأوربية، حول معنى التاريخ أو كلمته، ليس اختلافاً في الشكل، وإنما الاختلاف أكبر من الشكل، والذي اتضح في أسلوب الكتابة التاريخية عند الطرفين .

فعلى حين انتهت كتابة التاريخ عند العرب على أنها بيان أخبار الزمان، نجد أنه عند الأوربيين ينتهي بالإضافة إلى هذا إلى البحث والتقصي والمشاهدة، ولعل هذا يفسر لنا طابع كتابة التاريخ عند العرب الذي يقتصر في أغلبه على سرد الوقائع ورواية الأخبار دون الاهتمام بالتعرف على المنطق الذي وراء الوقائع، وطابعه عند الأوربيين الذي يعني فوق هذا تقصي الوقائع وتحليلها، وأثر ذلك في قيام منهج البحث وتطوير أدواته وبعد ذلك يمكن لنا القول بأن: ـ

التاريخ هو قصة الحوادث الماضية مع إرجاعها إلى أسبابها، وربطها بنتائجها من جهة وربط بعضها ببعض من جهة أخرى، ويفرق كثير من العلماء الألمان بين حوادث الماضي، ويطلقون عليها لفظ (الحوادث الماضية)، وبين نظرة العلماء إلى هذه الحوادث، ورأيهم فيها وربطهم لها بعضها ببعض، ويطلقون على ذلك الربط وذلك التحليل اسم (التاريخ أو القصة) .

لقد راع ابن خلدون في مقدمته ما وقع فيه المؤرخون قبله من أخطاء وأغلاط في سرد حوادث التاريخ من أمثال: الطبري والمسعودي وغيرهما، ولذلك اقترح إنشاء علم العمران البشري كي يستعين به المؤرخون ودارسوا التاريخ على تحاشي الوقوع في الخطأ .

ويرجع ابن خلدون الخطأ في التاريخ إلى عدة عوامل، منها: التشيع للآراء و التعصب للجنس، أو لشعب من الشعوب، ثم على وجه الخصوص إلى الجهل بطبائع العمران البشري، لأن لذلك العمران قواعد وأصولاً يسير عليها، فإذا خهلها المؤرخ لم يستطع أن يفرق بين الغث والثمين في نقله للأخبار، أما إذا تعلمها وعرفها فإنها ستكون بمثابة ميزان أو محك يستطيع عن طريقه اكتشاف الغلط في سرد الحوادث والأخبار، فابن خلدون إذن من العلماء الأوائل الذين وجهوا النظر إلى مهمة المؤرخ في سرد الأخبار، وكيف ينبغي له أن يقف موقفًا إيجابيًا مما يصله أو يقرأ عنه من حوادث وأخبار، فيفرق بين الصواب والخطأ فيه

وإذا كان ابن خلدون العالم العربي الشهير قد أنشأ علم العمران البشري ليكون مساعدًا للمؤرخ، فإن الفرنسي مونتسكيو كان يرى بالعكس أن دراسة المجتمع، وهي الدراسة التي عرفت فيما بعد بعلم الاجتماع، تستعين بالتاريخ كأداة لها لمعرفة النظم في أصولها وتطورها، وما طرأ عليها من تغيرات، فالتاريخ أداة يستعين بها علم الاجتماع

لقد عالج كثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع العلاقة بين التاريخ وعلم الاجتماع، وكلاهما يهتم بالوقائع الماضية، ولكن التاريخ يعالج تلك الوقائع من ناحية فرديتها، أي من حيث وقوعها في مكان معين وزمان أو تاريخ محدد، ناظرًا إليها على أنها وقائع فريدة، أو ما يطلق عليه الألمان اسم (فردية الحوادث التاريخية)، على حين ينظر إليها عالم الاجتماع على أنها وقائع متكررة، تحدث وتتكرر في مجتمعات كثيرة .

فالمؤرخ ينظر إلى التاريخ الفرنسي مثلاً على أنه لا يحوي إلا نابليون وحده، ولكن عالم الاجتماع يرى أن نابليون الأول هو نموذج معين من رجل له سلوك اجتماعي وسياسي خاص، ويتكرر وجوده في فرنسا وغير فرنسا في تواريخ وبقاع متعددة .

وفي هذا الشأن يقول: (بوبر) في كتابه: (التاريخ والفكر) الصادر سنة 1947 م " إن التاريخ يتميز باهتمامه بالحوادث الحقيقية والفردية أكثر من اهتمامه بالقوانين أو التعميمات التي تخضع لها هذه الحوادث" .

ويذهب (بول لاكومب) إلى أن التاريخ يدرس الحوادث بينما يدرس الاجتماع النظم، وتختلف الحوادث عن النظم، فالأولى تتميز بفرديتها وبأنها وحيدة، بينما الثانية هي وقائع متكررة في شتى العصور والمجتمعات متى تحققت الظروف المؤدية له .

 

ما الذي يقصد بالتاريخية ؟:

في ختام هذه الجزئية نحب أن نقف أمام مصطلح كثيرًا ما يردده أهل التاريخ ومعهم خبراء الدراسات الاجتماعية، نعني بهذا المصطلح (التاريخية)، ويمكن لنا أن نعرفه كالتالي: ـ

1 ـ هو بوجه عام: اتجاه يرمي إلى تفسير الأحداث وإلى إعطاء الأسبقية للأسباب التاريخية .

2 ـ التاريخية بوجه خاص: اتجاه يقول بأن الحقيقة خاضعة لسير التاريخ، بمعنى أنها تتطور مع التاريخ، دون قدرة منا على إدراك حقيقة مطلقة يتجه نحوها التطور التاريخي، فالظواهر الاجتماعية ليست سوى ظواهر تاريخية، وأن التنبؤ عن مستقبل الإنسانية هو الغاية الأساسية من علم الاجتماع .

وكان الماركسيون يؤكدون على أن التشريع واللغة، والأخلاق .. نتاج جماعي لا شعوري، ولا إرادي، لذا لا نفهمه إلا بواسطة دراسته دراسة تاريخية، فالبحث في الظواهر الاجتماعية من حيث نشوئها وتطورها لا يتم إلا في ضوء الظروف التاريخية، والجدل الدياليكتيكي الماركسي يعتبر الظاهرات من زاوية ترابطها الداخلي وتفاعل بعضها مع بعض، ولا توجد في العالم أحداث متفردة أو منفردة، وكل حدث يرتبط بأحداث أخرى، وهذا الترابط يحدث تاريخيًا، وفي ضوء الظروف التاريخية .

3 ـ تصعد هذه النزعة إلى فولتير وفيكو، وهي تقابل المذهب الطبيعي الذي يرد الأحداث والظواهر الفردية والاجتماعية إلى أسباب خاصة بها .

وفي رأينا الخاص: إن النزعة التاريخية بوجه عام فيها غلو وتحكم لا يقره المنطق السليم، كما لا يقره بأي حال من الأحوال منهج البحث العلمي، فالماضي يعين على فهم الحاضر، ولكن من العبث كل العبث أن يرد الحاضر إلى الماضي .

 

د. يسري عبد الغني عبد الله - باحث وخبير في التراث الثقافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم