صحيفة المثقف

عبد الجبار العبيدي: حقيقة الاسلام الغائبة (22): الوصايا العشر ووثيقة المدينة

abduljabar alobaydiالوصية لغةً: كلمة جاءت من الوصل الذي أدى الى وصلِ شيء بشيء أخر، وهي شكل من أشكال توزيع المال لقدرتهاعلى تحقيق العدالة الخاصة المتعلقة بأشخاص بعينهم .

والوصية أصطلاحاً: هي تمليك مضاف الى أخر ما بعد موت الموصي بها، اي جعلها له، سواءً كانت مالا او عقارا أو صفة أخرى.

لم تأتِ الوصايا العشر في القرآن الكريم على سبيل العضة والأعتبار، بل جاءت كلها منفصلة ومتصلة ومُفصلة في تقديم العقل على النقل، وعدم تمييع الولاء للنص على العادة والتقليد، فجاءت قراءة معاصرة ونظرة جديدة للتعامل الانساني في مجتمع ضاعت فيه القيم وترجح الباطل على الحق .

لقد عرضت هذه الوصايا العظيمة وجهة نظرها الجديدة في المعرفة والتشريع والاخلاق بآيات حدية غير قابلة للتسويف، حتى اعتبرها البعض هي العمود الفقري للعقيدة الاسلامية، فهي بحق تستحق ادخالها في المنهج الدراسي لتعليم الطلبة الحقوق والواجبات التي أمنت بها وطبقتها المدنية الحاضرة.

فأين المسلمين اليوم من التطبيق ... ولماذا أضاعوها ؟

والوصايا تختلف بأنواعها منها وصايا المال، او الأنابة، أو الأستخلاف، وهي ملزمة في التنفيذ، لكونها جاءت بآيات حدية واجبة الألزام،، يقول الحق: " لا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به " اي فرضها عليكم، لأن الوصية من الله انما هي فرض، (ابن منظور، لسان العرب، كلمة وصية)، لذا كانت الوصايا من الآيات الحدية التي لا تهاون فيها بالمطلق، فهي القَسم، وهياليمين، فألى اي مدى كان الألتزام بها واقعاً.. من قبل من أقسموا عليها وخانوا الوطن والوصية والقسم ؟؟

ان الوصايا العشرة التي وردت في القرآن في سورة الانعام في الآيات المقدسىة ( 151- 153) . هي دستور الأخلاق العامة، وهي رأس التقوى الاجتماعية، لدرجة انها جاءت منفصلة ، كل وصية مستقلة عن الأخرى. واذا تابعتها بدقة تجدها تُكَون القرآن كله وما يهدف اليه من اصلاح حال الأنسانية..؟ وليكن في علمنا ان الوصايا لم تكن جديدة في القرآن وان جاءت بصفة الوضوح والالتزام البين، فقد جاءت في الديانات التي سبقت الاسلام بشكل متناثر ومقتضب، لكنها في الاسلام جاءت خلاصة لأحداث وتجارب الشعوب السابقة..؟

ففي الوصية الاولى:

" الا تشركوا به شيئاَ "، ولم يقل سبحانه وتعالى: لا تكفروا به شيئاً، ليستثني العرب من الكفر، ويصفهم بالمشركين.لان النص القرآني جاء ثابتاً في نصه، ومتحركاً في المعنى، ولا ثبات فيه.فالعرب كانوا مشركين في ناحيتين ظاهرية في عبادة الاصنام، وباطنية في شرك الربوبية.من هنا ربط الله الشرك بالثبات، والتوحيد بالتطور، ليمنحنا قانونا موضوعيا في رؤية الحق حين جمع الكفر والشرك في آية واحدة، يقول الحق:" قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، غافر 84". .وتتشابه الوصية عند المسيحية بنفس المعنى حين تنهي عن الشرك والعبادة الصنمية، واحترام العبادة التي يستحقها الله وحده للمخلوق.

وفي الوصية الثانية:

"وفي الوالدين أحساناً": الآية الكريمة فصلت بين التوجه البشري والأنساني، ففي حياة الطفل الاولى تبدأ الرعاية به بشرية (حيوانية ) وفي الكبر حين يبدأ الانسان الطفل با لأحساس يحس بوالديه أحساساً انسانياً لأدامة الألتصاق به حتى لا ينساه كما تنسى البهائم أولادها، فالقول والتصرف هنا ينتقل الى مرحلة الأنسنة لأدراك الجانبين الحسي والانساني بينهما:" ولا تقل لهما أُفٍ ولا تنهرهما "، والآية موجهة للطرفين الولد والوالدين، الاسراء 23.

هنا اراد الله ان يميز بين التصرف البشري والتصرف الانساني بينهما، اي وضعهُما ضمن قانون التطور والتقدم وليس بالضرورة ان يكون الولد صورة طبق الأصل لوالديه، لان كل منهما اصبح يحمل صفة مغايرة للأخر ويعيش في زمان مختلف، وهاتان الناحيتان مفقودتان في المملكة الحيوانية.

وفي الديانة المسيحية جاء نص الوصية بالاحسان العام لكل الناس وليست تحديدا بالوالدين حصرا، تصورأنجيلي وقرآني سايكولوجي دقيق .

يقول الأمام علي (ع) في نهج البلاغة:" علموا أولادكم فقد خلقوا لزمان غير زمانكم، النهج الوصايا 24 "

وفي الوصية الثالثة والخامسة:

والثالثة تقول:" ولا تقتلوا أولادكم من املاق نحن نرزقهم واياهم،

والخامسة: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق. الوصيتان جاءتا مترابطتان حين بدءتا بكلمة ولا تقتلوأ .

كل المفارقة ان في الوصية الثالثة جاء التحريم في قتل النفس مطلقا، اما في الوصية الخامسة فقد جاء قتل النفس دون التحريم المطلق، لكن النص سمح بقتل النفس بشرط الحق: (الا بالحق).

وهنا تجسد الفرق الجوهري بين الوصيتين، لأن الحق في القرآن مطلق.

الوصية الرابعة : "ولاتقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن "، خص منها ثلاثة انواع من الفواحش هي: زنى المحارم، وزنى اللواط، والزنى العام.اما الفواحش الباطنة فهي استخدام الزوج للزوجة استخداما مخالفا أثناء الحيض لما أمر الله به ( فأذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، البقرة 222) هذا النوع من المخالطة الجنسية اعتبرت في النص فاحشة باطنة غير جائزة الحدوث.

فكيف نوازن بين هذا النص القرآني الكريم، وما ملكت أيمانكم...؟

الوصية السادسة: "ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي احسن حتى يبلغ اشده".هذه الوصية جاءت مفسرة بالنص في (سورة النساء الآية 2، 3، 6 )، وفي هذه الوصية تفصيل واضح في حقوق الطفل اليتيم على من يكون وصياً عليه بأعتباره لم يبلغ الحُلم، لحفظ حقوقه حتى يبلغ الحلم، لتنطبق عليه شروط الوصاية لتحقيق مبدأ الحق المطلق.

الوصية السابعة: "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً الا وسعها". هذه الوصية من الوصايا المهمة جدا في تثبيت حقوق الناس في العلاقات الانتاجية والتعاقدية وتتمثل في المواصفات الوزنية والحجمية، وجعل المواصفات الموضوعة لكل سلعة هي المقياس في اجازتها وكذلك الوظيفية لمن يملك كاءتها ومقدرتها..لذا وضعت الدول الحضارية اليوم مراكز للتقييس والنوعية لحفظ حقوق الناس من الغش والتزييف والوظيفة..وان تتقدم هذه المواصفات مع تقدم المعرفة لأدخال كل جديد فيها حفظا للمصالح العامة وحسب الدقة المتوفرة في التنفيذ.

الوصية الثامنة:"واذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى".وتشمل الوصية تحريم حالة التزوير، وابعاد العواطف والأهواء في الحكم لكون الحق في الاسلام مطلق، والموضوعية المادية، وهي الصدق والعدل المبني على البينات. وهي صفات التقوى كما جاء في النص:" وتمت كلمة ربك صدقا وعدلاً". كما في قوله الحق؟.

الوصية التاسعة: "وبعهد الله أوفوا " وتمثل هذه الوصية الدستور الاخلاقي المهني للمجتمع .هنا جاء القسم اجباريا على من تعهد اليه مهنة أو وظيفة في الدولة، فبدون القسم تمنع الوظيفة لمن يتسلمها. لكن الاهم ان حنث اليمين يعتبر باطلا على من يمارسه ولا يجوز ان يعفى مرتكبه بتعمد من المسائلة القانونية، كسرقة المال العام والمحاباة في الوظيفة والعمل وخيانة الوطن والتردد في تقديم الواجب الوطني والانساني، التوبة43، 121 .

الوصية العاشرة: " وهذ ا سراطي مستقيماً...." وهو أشتراط التقوى في الوصايا السابقة والألتزام بها دون خللٍ في التعمد. فالصوم والصلاة والحج والزكاة واجبات لا تعني ان كل القائمين عليها هم من التقاة، لذا يجب محاربة ومسائلة كل من يخرج عن خط الاستقامة في التعامل العام والخاص.

هنا جاءت الوصايا جميعها بصفة الآيات الحدية التي لا تُخالف.:"الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر والحافظون لحدود الله، التوبة 112". وجاءت وثيقة المدينة تطبيقا لها. لكن الواقع بعد دولة الرسول، اهملت الوصايا والوثيقة معا وساد حكم الناس بقانون القوة لا قوة القانون ولا زلنا الى اليوم... ونحن بعيدون عن العدل والحق والقانون..؟وهذا هو سبب تأخر وتخلف امة العرب والمسلمين.

فكيف اجاز من يحكمون في الوطن العربي الخروج على الفرقان العظيم في هذه الوصايا، وهم يدعون تمثيل الشريعة والتشريع الاسلامي كما يدعون، والدستور في كل دول الاسلام ينص في مادته الأولى على ان:

الأسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساسي للتشريع"." والقرآن يقول:

"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، المائدة 44".

 

وثيقة المديننة:

سماها الفقهاء دستور الجماعة الاسلامية، صدرت في المدينة لبيان حقوق وواجبات الامة في السراء والضراء، والوثيقة نصت على ان:

الرسول، أمين هذه الأمة الجديدة، وسماها الرسول (ص) بوثيقة الصراط المستقيم، تيمنا بالوصية العاشرة للقرآن الكريم أقرت الوثيقة:حقوق الامة في الحقوق والواجبات، والتكافل فيما بينها، وأقرت مسئولية الدفاع الداخلي والخارجي عليها، وحرمت الوثيقة الأقتتال بين أفراد الأمة دون تحديد، واقر ت تحديد مسئولية الدولة عن حقوق الناس، وضبط سلوك الحاكم.

غيرت الوثيقة المفاهيم الخاطئة المتوارثة في حكم الأمة قبل الاسلام، ونقلتها الى حكم العقل والعلم والحرية والقانون وأحترام أنسانية الأنسان، لكنها لم تطبق عبر كل الزمن الطويل..؟.

وتعتبر الوثيقة نقلة متطورة في حكم الناس.لكن الوثيقة بعد الرسول (ص) لم تلقى التطبيق، وعتم عليها ولا زالت الى اليوم في طي الكتمان، لأنها تتعارض وحكم السلطان الغاشم . فلا ندري جاء الاسلام لمن للحاكم ورجل الدين ... أم لكل الناس ... والله آله الناس؟

الحكم بموجب النص الديني مدني ولا علاقة لمؤسسة الدين فيه بالمطلق، والقانون متغير بمرور الزمن، والتغيير يكون لصالح الانسان، لقد حان الوقت للتخلي عن التعصب الباطل من قبل مؤسسة الدين التي خلقت لنا الطائفية والمذهبية والفتاوى دون تحديد، ويجب الأعتراف بأن الحقيقة الدينية التي حكمتنا كل هذا الزمن الطويل بقوانين الأنكماش والتخلف ...تتغير وتتطور وليست هي مطلقة ومنقوشة فوق حجر..

فالتاريخ موجود، والاصل مكتوب ..لماذا هذا الذي نحن فيه اليوم من اهمال الأصل والتاريخ ...؟

أنظر: د. محمد شحرور في كتابه الموسوم: الكتاب والقرآن ، ص492 وما بعدها...

احمد حميد الله: الوثائق السياسية للعهد النبوي، دار الأرشاد بيروت 1969.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم