صحيفة المثقف

خالد جواد شبيل: لغة النقد الحداثي

khalidjawad shbayl كان أول موضوع قرأته في النقد هو مقالة كتبها الدكتور علي جواد الطاهر (1911-1996) في بداية الستينات في مجلة "المُعلّم الجديد" بعنوان "النقد سهل!"، ورغم أنني كنت يومها دون سن الحلم، إلا أن موضوعها الذي يحمل عنواناً "متهكماً" وأسلوب كاتبها الذي يجمع بين الجمال وحسن الإيقاع وجزالة وقوة التعبير ووضوح الأفكار قد أثرّ بي وجذبني لقراءة المزيد في هذا الضرب من الأدب. وبعد أن عرّف بالنقد وأهميته وشروطه، وكان من أهمها أن يكون الناقد ذا اطلاع واسع على الأدب وذا ذائقة سليمة مرهفة صقلتها وثقفتها القراءة الواعية لشتى ألوان الأدب وفنونه، وتتعداها الى شتى مجالات النشاط الإنساني لتعمق من سعة ثقافة الناقد الفاعلة.

 نجده من ناحية أخرى يؤكد على الأهمية التربوية للنقد في إشاعة القيم الجمالية وإزاحة القبح، ثم يؤكد على نزاهة الناقد في حكمه على النص، وألا يتأثر بالعلاقات الاجتماعية حتى ليفضل إلا تكون هناك أية علاقة شخصية بين الناقد والمنقود لكي لا ينعكس على الحكم النقدي، وزاد على أهمية أن يكون الناقد ملماً بلغة حيّة ليوسع مداركه ويُثري ثقافته ويواكب مجريات تطور الأدب والثقافة في العالم..

ولا شك أن ذلك كله يتطلب وضوح الرؤية وسلامة اللغة لكي تضمن للناقد الوقوف على لغة النص وتقويمها، كي لا يشيع اللحن ولكي لا يُفسد الذوق اللغوي أوينحرف القول عن غايته.. وبالرغم من أن هذه المقالة مضى عليها أكثر من نصف قرن إلا أنني أجدها تحتفظ بأهمية كبرى لحاجتنا القصوى إليها وإلى أخواتها بل إلى كل ما كتبه أستاذ النقد الراحل الكبير الدكتور علي جواد الطاهر، وزملاؤه الكبار.

***

وفي الحقيقة أن مسألة وضوح اللغة من الناحية السايكولوجية هو تعبير عن وضوح الأفكار وقوة إشعاعها؛ والاضطراب في اللغة هو الآخر يعبر عن اضطراب قائلها او كاتبها؛ بيد أن الغموض الفني الذي يستوقف القارىء ويجذبه ويشده إلى النص ويدفع به إلى استبطانه والوقوف على مكنوناته الفكرية والجمالية يكون محفزاً لتحريك الفهم وإنعام النظر فيه. وتاريخ الأدب يحدّثنا عن المجدد العبقري أبي تمّام (188-231ه/788-845م) الذي خرج عن تقليدية عمود الشعر إلى الغوص في المعاني، ما لم يحتمله معاصروه حتى أنه سئل ذالك السؤال الشهير ثم أجاب بذلك الجواب الأشهر والأبلغ والمُفحم معاً: لِمَ تقول ما لا يُفهَم؟ فأجاب: ولِمَ لا تَفهم ما يُقال؟!

ما أرمي إليه هو لا بدّ من التفريق بين الغموض الفني وبين الإبهام المستغلّق الذي بدأ يشيع ويطالعك أنى يممت ناظريك! وبالمُقابل هناك العبارات الإنشائية والتفخيم اللغوي التقليدي المكرر، وافتعال الخلاف الذي هو أقرب الى الصدى منه الى الصوت الذي يُستخدم لدى بعض الحابين على طريق النقد،  وهو ليس موضوعنا اليوم مؤمِلاً أن أقف عنده في مرة أخرى..

ويلجأ الفيلسوف المتصوف ابن سبعين (614-669ه/1217-1269م) في الكتابة أحياناً إلى استخدام رموز وألغاز، فيصبح كلامه مفككاً غير مسبوك؛ قال قاضي القضاة ابن دقيق العيد (625-702ه): "جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاماً تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته". (ويكيبيديا).

يروي الدكتور علي الوردي (1913-1995) في " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" في الفصل المتعلق بالشيخ أحمد الإحسائي (1166-1241ه)، أنه سئل من قبل أحد مريديه: متى يظهر الحجة (عج)؟ فقال: يظهر إذا اتصلت باء البينونة بكاف الكينونه، فمن فهِم جازاه الله....!

وفي الخمسينات أصدر بعض المثقفين في مصر بياناً عن "الأدب والثورة" وهو بيان يلزم الأدب بخدمة الثورة والجماهير الكادحة مبشراً وداعياً الى "الواقعية الأشتراكية"! وقد ردّ على البيان الدكتور طه حسين (1889-1973) في كتابه الهام "مستقبل الثقافة في مصر" رامياً المثقفين بالإبهام والغموض، مقتبساً كثيراً من العبارات التي سلط عليها جام غضبه لأنها ترطن ولا تُفصح، والحق أن الدكتور طه حسين كان محقّا بما ناقش ونقد..

ومع بزوغ عصر الحداثة وما بعد الحداثة وما جادت به من اتجاهات نقدية من البنيوية وما بعدها والتفكيكية التي فتحت أبوابها علينا ترجمات لبنانية، وما بشّر به أدباء يحسنون لغات الغرب ولا يحسنون الترجمة في الأعم؛ وإذا نجد بعض نقّادنا وجدوا بها ملاذاً يسمح لهم أن يصولوا ويجولوا فيزيدوا المبهم إبهاماً ويبتدعوا مصطلحات وتراكيب لا دلالة لها ولا معنى.. تماماً بمثل ما وجد الماشون على طريق الشعر حبواً في قصيدة النثر ملاذاً لتتفتق القرائح عن عبارات شعرية لاشعورية لا يبلغ مرامها إلا من أتوا بسلطان علم عظيم! وهكذا خلق هذا النوع من "الشعر" نقده، وهكذا شجّع هذا النوع من "النقد" شعره، فأصبح إبهاماً فوق إبهام. وفي الحقيقة أن هذا الإبهام لا ينفع الطرفين ولا يستفيد منه القارىء ويعرض عنه ويصدّ أيما صدود، لأنه يخدع باللغة ويعطي فهماً أن الشعر الجيد هو جيد بلغته المبهمة وهنا تكون الخديعة! لأجل هذا شاع هذا النوع من النصوص الهابطة حين لقي من يروّج له ويسوّقه..

أحسب أن الانفتاح على ثقافة الغرب والشرق أمر بالغ الأهمية وهو يعنينا شئنا أم أبينا فالمثاقفة هي من سمات عصر ثورة الاتصال بل هي من محصلاتها، فلابدّ من الوقوف على الأهم النافع الذي يغني ثقافتنا ويوّسع من آفاقنا الابداعية، فلم تعد هناك جدران اسمنتية بين الشعوب وثقافاتها..على ألا نغرق سوقنا الثقافية بالمستورد وأن نكون مبدعين في ما يَفِدنا لا مقلدين تقليداً أعمى!

ولكي لا يكون كلامنا مُرسلاً فلا بد من أمثلة، في كتابه " مقالات في النقد الأدبي"، للناقد الأكاديمي الدكتور محمد مصطفى هدّارة (1930-1997)، تعرض في نقده الى ظاهرة الغموض والإبهام، وأخذ عينة من كتاب زميله الناقد الدكتور مصطفي ناصف (1922-2008) " الصورة الأدبية"، التي لا شك ستخدم جوهر موضوعنا ومن أمثلة ما جاء في كتاب ناصف: " إن مذهب امتزاج الذات والموضوع ينبغي أن يتناول بحذر من أجل أن نكون تمييزات معينة، وفي خلال تكوينها نأذن بالتغاضي نها لبعض الأغراض" ثم يقتبس د. هدّارة من موضع آخر من كتاب د.ناصف: " فالتجربة الاساسية متميزة من التأثيرات التي تحاك في أعصابنا وأنفسنا، وإنما هي بصيرة تتم بفضل الخيال، ومن المهم أن نتذكر أن هذه الحركة الخيالية لا يمكن أن تختصر في تأثيرات متعلقة بالجهاز العصبي" أكتفي بهذا، ولي أن أعقب أن سبب هذا الإبهام هو أن النصوص مترجمة ترجمة حرفية الأمر الذي غمرها بغموض أقرب إلى العجمة.

قبل أيام قليلة كنت أقرأ لناقدين نشرا في موقع رصين، مقالتين متقاربتين زماناً ومكانا، وكنت متابعاً الأستاذين الكريمين منذ وقت غير قصير، فأجدهما ينشران ألغازاً وأحاجيَ بلغة مفتعلة مركّبة تركيباً متعسفاً لنصوص هي الأخرى غامضة فيزيدان الغموض غموضاً والإبهام إبهاماً، وينطبق ما قلناه أعلاه عليهما أكثر من غيرهما، من خداع القارىء باللغة واصطناع المصطلحات وإيهام القارىء بأنه هو النقد الذي يحتاج الى مدارك واسعة وذهن ثاقب لفهم الناقد والمنقود، ما يجعل كثيراً من القرّاء يصابون بالخيبة ويشكّون بقدراتهم الذهنية التي لا تقوى على فك طلاسم هذه النصوص، وتلك هي الطامة!

لا أريد أن أذكر اسميهما ولا عنواني المقالين كي لا أتهم بالشخصنة كما حصل معي ذات مرة حين تناولت مادة في نقد النقد متوجها لكاتب لا أعرف شخصه ولم أذكر حتى اسمه قط.

سأختار عيّنات عشوائية في نقد قصائد وتأويلها سأنقلها على طولها كي لا أتَهَم بالاجتزاء وبتر النص:

  "أن عملية تشكل وتشآكل الشيفرات الإيحائية والإنزياحية في عوالم شعرية (حذفت العنوان/خ) من شأنها أولا وأخيرا خلق حالة من حالات أمكانية المتغير الأسلوبي والدلالي في التعامل مع إطارية النص انطباعيا وقرائيا . لذا فأن جوهر شكل قراءة نصوصه الشعرية يسمح بصورة خاصة من أن نميز لدال جوهرا وشكلا كما تسمح الحالة القرائية لدى الشاعر من أن نميز للمدلول جوهرا وشكلا وبحسب هذه الكيفية المعيارية يمكننا أن نحدد بأن لمفهوم وفكرة قصيدة الشاعر ثمة معادلات تنوعية خاصة تتآلف مع نسيج المعنى الداخلي والخارجي الذي يحث بدوره على إيصال الوظيفة القصدية في أتون الدوال الى أقصى جهات مجموعة الوحدات المركبة في دائرة موضوعة النص".

ودونكم مقتبس آخر للكاتب ذاته في موضع آخر من المقالة:

"ندرج أستعمالي لمفهوم عنونة مقالنا ب (حذفت العنوان/خ) ضمن محاولة أن يستفهم القارىء من خلالها مفهوم النص الغائب وصولا الى الأهتداء بمفهوم اللامنظور في قصيدة الشاعر وهو مالم يتم من طرف الشاعر نفسه من حيز ممارسة إجرائية واضحة المحاور والدلالة في مواطن مسرح محددات دوال نصه وسلوكه . فالنص لدى الشاعر كان في طور الهجرة والانتقال من قصدية معنى ما الى معنى آخر . لذا وجدنا اللامنظور الموضوعي في القصيدة راح يكشف في الوقت نفسه عن دلالة محتمل المنظور نفسه وذلك من خلال صور ووقائع النص الخفية والغرائبية المنصهرة عبر وحدة متلاحمة على نحو أمتداد القصيدة بكاملها . وتتوالى النقاط والتقاطعات بالتشكيل عبر الفضاء النصي وصولا الى الصورة الفنائية التي أخذت تؤكدها هذه المقطعية التي يحتل مدلولها رقعة خاصية الخاص من سننية التحولات في أفق محور المحتمل المنظوري المجلى في أختيارية النص." . 

سأنتقل إلى ناقد آخر وسأقتطف منه ما يعبر عن لغته :

"ان الصورة التخييلية التي تعكس الكثير مما في ما وراء المكان \ داخله وخارجه \ تضفي بشقيها الواقعي، أو التخييلي فضاء صوريا لا يخلو من مقصدية مسبقة انطلاقا من بنية مكانية تكاد أن تكون هي الاهم في العملية الشعرية وما يترشح منها . ان الامكنة الضيقة والمحددة مكانيا اخذت اهتماما كبيرا من الشعراء لأنها – في بعض الاحيان - تعبر عن قلق وجودي (من الوجود) داخلي يعتري الشاعر لحظة الانقياد وراء تصوراته الشعرية او الفكرية وإزاء ما يحيط به ليصل بمنتجه الشعري الى اقصى طاقة تبليغية بواسطة اللغة المكثفة التي يبتدعها. هذا النوع من النزوع الشعري يحاول ان يؤسس لتحول تنقلي نوعي يذهب بالمتلقي من التركيز على حقل بصري او سمعي الى حقل ما بعدي يعتمد فائض الرؤية لبناء القصيدة. ".

ودونكم مقتطف آخر للناقد من المقالة ذاتها:

"ان احتواء الفارزة للغمام هو احتواء معنوي من اجل التواصل الفكري وكأن الشاعر يريد ان يقول لنا كيف نفسر غموض الاشياء بواسطة التوقف اللحظوي الذي تشترطه فوارز الحياة . ان الفارزة – هنا – دلالة عن الاستغناء عن بعض الكلام وتحويله الى احاسيس لا يمكن ان تترجمها الالفاظ الا عبر ما هو رؤيوي . لقد قدم – فلان/خ - نصا شعريا جميلا حلق بنا في سماوات لم تعرفها العصافير . انه نص مموسق طري يمتلك كل ادوات الابداع بمفهومها الحقيقي.".

 

أحسب أن الناقد الثاني أقل غموضاً وإبهاماً، وأن لغته أفصحت ما شاء لها أن تفصح، لكن المهم أن الناقد تجاوز الغموض في القصيدة حين استطاع و " فسر غموض الأشياء بواسطة التوقف اللحظوي الذي تشترطه فوارز الحياة.". لذلك استطاع بهذا أن يرى في النص: " نصاً شعرياً جميلاً حلق بنا في سماوات لم تعرفها العصافير". وليتني أملك جناحين لحلّقت أنا الآخر مع العصافير...

بقي لدي سؤال: لوكان الناقدان الكبيران طه حسين وعلي جواد الطاهر وغيرهما من الكبار أحياء، ترى ماذا سيقولان على هكذا نقد؟!

 

خالد جواد شبيل

رام كم هنغ في 9ك1/ديسمبر/2016

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم