صحيفة المثقف

فاروق مواسي: سلطة الفرزدق وتسلطه أحيانًا على شعر غيره

faroq mawasiعرفت عن الفرزدق أنه حفظ القرآن وهو صغير، بعد أن التقى عليًا كرم الله وجهه، وسمعه وهو يطلب من أبيه أن يحفِّظه القرآن.

 قيل فيه "لولا الفرزدق لضاع ثلث اللغة"، ثم تابعناه في نقائضه ومعاركه الشعرية  مع جرير الذي كان يغرف من بحر، وكان الفرزدق ينحِت من صخر. (عن الجملة المأثورة هذه انظر كتابي "دراسات أدبية وقراءات بحثية"- ج1، ص 188.)

وسأختم مقالتي بمزاياه ورفعة شأنه.

لكني لم أكن أعرف أن له سطوة على الشعراء، يغير عليهم، ويستأثر بشعر غيره مما يجد فيه المعنى الذي يرومه ويستحسنه.

إليكم بعض ذلك مما جمعته من المصادر:

قدم الفرزدق إلى المدينة، فمرّ بجماعة من الناس قد وقفوا على جميل بثينة وهو ينشدهم شعره، فوصل إلى قوله:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

فصاح به الفرزدق، وقال: "أنا أحقّ بهذا البيت منك"....ثم أدخله في شعره الذي يهجو فيه جريرًا.

وقد ورد في (العمدة) لابن رشيق أن الفرزدق سأل جميلاً:

متى كان الملُك في بني عُذْرة؟ إنما هو في مُضَر، وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره. وقد زعم بعض الرواة  أن الفرزدق قال لجميل: تجافَ لي عنه، فتجافى جميل، ومثل هذا يسمى (إغارة).

(ابن رشيق: العمدة، ج2، ص 269)

بحثت في ديوان جميل (جمع وتحقيق د. حسين نصار) فوجدت البيت في فائيته الطويلة، ص 139.

كما ورد البيت على أنه لجميل في (الأغاني- ج9، ص 385- دار الفكر):

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

وفي رواية أخرى:

نسير أمام الناس والناس خلفنا ... فإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

وفي (تاج العروس) "أوبأنا" بمعنى أشرنا.

وجاء في (الأغاني- ج2، ص 262-263):

مرّ الفرزدق بابن ميّادة، والناس حوله، وهو ينشد:

لو ان جميع الناس كانوا بتلعة *** وجئت بجدِّي ظالم وابن ظالم

لظلّت رقاب الناس خاضعة لنا ***  سجودًا على أقدامنا بالجماجم

فقال له الفرزدق:

"أنت يابن أبرد صاحب هذه الصفة! كذبت والله، وكذب من سمع ذلك ولم يكذّبك....ثم أقبل على  راويته وقال له: اضممهما!" وقد غير الفرزدق في عجز البيت الأول ذاكرًا اسم جدّه هو، فقال:

لو ان جميع الناس كانوا بتلعة *** وجئت بجدّي دارمٍ وابن دارم

وفي رواية أخرى قال له الفرزدق:

"يابن الفارسية، أما والله لتدعَنَّه لي أو لأنبشن أمك في قبرها، فقال له ابن ميادة: خذه لا بارك الله لك فيه!

(الأغاني ج21، ص 288).

...

ويقال إن الفرزدق سرق بيت حسان بن حنظلة وضمّه إلى شعره، فغير فيه طفيفًا:

أحلامنا تزن الجبال رزانة  *** ويزيد جاهلنا على الجهال

(حماسة أبي تمام- التبريزي، ج2، ص 298)

أخذه الفرزدق وغيّر في العجز:

ويفوق جاهلنا فعال الجُهَّل

كما أن الفرزدق "لطش" أبياتًا لشاعر اسمه الشمردل (انظر الأغاني ج1، 324، 328).

يبدو لي أن الفرزدق كان مخوف الجانب، يحسب له الشعراء كل حساب، وكان لا يرى في اغتصاب الشعر عيبًا، وروي على لسانه أنه قال:

"خير السرقة ما لايجب فيه القطع"- أي قطع اليد، فكأن سرقة الشعر عنده حلال.

يبدو لي أن جريرًا فطن إلى "اجتلاب" الفرزدق- أي استلحاقه أبياتًا ليست له، فقال يهجوه:

ستعلم من يكون أبوه قَينًا *** ومن كانت قصائده اجتلابا

يخصص ابن رشيق فصلاً في (العمدة) عن السرقات وما شاكلها، ويقول: "هو باب متسع جدًا، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه، وفيه أشياء غامضة إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأُخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفّل، وقد أتى الحاتمي في (حلية المحاضرة) بألقاب الاصطراف والاجتلاب والانتحال والاهتدام والإغارة والمرافدة والاستلحاق وكلها قريب من قريب..."- العمدة، ج2، ص 265.

ثمة كتب كثيرة تتحدث عن السرقات الشعرية، وممن تناول ذلك ابن سلاّم وابن طباطبا والقاضي الجرجاني، وابن وكيع، والحاتمي وابن الأثير وحازم القرطاجني، وصولاً إلى بدوي طبانة، فإلى دراسة علمية كتبها المختار حسني من المغرب ونشرها مؤخرًا في مجلة (عالم الفكر)- العدد سبتمبر 2016، ص 195- 235.

 

عود على بدء

لن تغير هذه السطوة أو الإغارة أو الاجتلاب على مكانة الفرزدق.

 فالفرزدق منبعه ثرّ، وهو يستقي شعره من النوابغ كما ذكر ذلك في نقيضته لجرير، ومطلعها:

إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتًا دعائمه أعز وأطول

فيقول فيها:

وَهَبَ القَصَائدَ لي النّوابغُ، إذْ مَضَوْا ***  وَأبُو يَزِيدَ وَذو القُرُوحِ وَجَرْوَلُ

وَالفَحْلُ عَلقَمَةُ الذي كانَتْ لَهُ  ***        حُلَلُ المُلُوكِ كَلامُهُ لا يُنحَلُ

وَأخو بَني قَيْسٍ، وَهُنّ قَتَلْنَهُ ***           وَمُهَلْهِلُ الشّعَرَاءِ ذاكَ الأوّلُ

وَالأعْشَيانِ، كِلاهُمَا، وَمُرَقِّشٌ ***          وَأخُو قُضَاعَةَ قَوْلُهُ يُتَمَثّلُ

وَأخُو بَني أسَدٍ عَبِيدٌ، إذْ مَضَى ***        وَأبُو دُؤادٍ قَوْلُهُ يُتَنَحّلُ

وَابْنَا أبي سُلْمَى زُهَيْرٌ وَابْنُهُ ***    وَابنُ الفُرَيعَةِ حِينَ جَدّ المِقْوَلُ

وَالجَعْفَرِيُّ، وَكَانَ بِشْرٌ قَبْلهُ ***     لي من قَصائِدِهِ الكِتابُ المُجمَلُ

دَفَعُوا إليّ كِتابَهُنّ وَصِيّةً ***      فَوَرِثْتُهُنّ كَأنّهُنّ الجَنْدَلُ

 قال الجاحظ: إن الفرزدق راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم.

 وقال يونس بن حبيب: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس.

(البيان والتبيين، ج1، ص 321.)

 لعل هذه الأسماء التي ذكرها الفرزدق في شعره دليل واضح كذلك على أن الشعر الجاهلي كان في أذهان الرواة والشعراء، وأنه ليس منتحلاً، وأن الشعراء كانوا حقيقة- وليس كما ذهب طه حسين ومن قبله مرغليوث في التشكك بصحة وجودهم. 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم