صحيفة المثقف

خالد جواد شبيل: سوانح بين الشاعر ابن الاحنف والدكتورة عاتكة الخزرجي

khalidjawad shbaylأبكي الذين أذاقوني مودتَهم – وكلما أيقظوني للهوى رقدوا

واستنهضوني إذا ما قمتُ منتهضاً – بثقل ما حمّلوني في الهوى قعدوا

جاروا عليّ ولم يوفوا بعهدهمو – قد  كنتُ أحسبهم يوفون إن وعدوا

هذا الشعر هو للشاعر العبّاسي العبّاس بن الأحنف، وإذا قيل أن الشعر مرآة صاحبه ويحمل بصمات فكره وعاطفته فإن القول ينطبق على ابن الأحنف، فهو شاعر الرِّقة والعاطفة المشبوبة الصادقة التي سكبها من كل جوانحه وجوارحه سكباً بصدق وعفوية وفنّية عالية ولغة سهلة خالية من الكلمات الغريبة والمبهمة، قارؤها ينساق وراءها (اللغة) انسياقاً ويُؤخذ بها أخذاً فلا يحتاج إلى معجم أو قاموس، هو شاعر بلغة النقد مطبوع لا تكلف عنده ولا زخرف لفظي ولا محسنات بديعية ولا ثقل ولا اعوجاج، لغتة تأخذ طريقها إلى مُهج سامعها فيهتز ويتعاطف مع قائلها!

 في هذه الأبيات وفي غيرها سنجد أن الشاعر جاءته البلاغة في أبسط صورها وهي " المقابلة البلاغية" التي تتعدى الجناس والطباق الى المقابلة بالعبارات الشعرية لا في الكلمات بل في المعاني أيضا..ثم تراه ينتقل بأزمنة الماضي والماضي البعيد التي تخدم معاناة الحاضر المتمثل ببقاء اللوعة وربما ديمومتها!

 والصوت؟ هامس دافىء على حروف متوائمة وأجراس كلمات معاتبة غير قاسية ترقُّ حانية على المسامع حيث تتعاقب القاف المقلقلة ، مع الهاء الخافته والحاء الحانية والسين المهسهسة  لتليّن الضاد الثقيلة والنتيجة خلطة نغمية ساحرة يتحسسها من يقرأ الأبيات بصوت عال..كل هذا على البحر البسيط الحزين..

قرأت أول مرة عن ابن الأحنف في كتاب الأدب العربي المقرر للسنة المنتهية من الثانوية الذي طالما كنت أقرأ به ضمن مطالعاتي الخارجية، فأُعجِبت به وبشعره كواحد من نماذج العصر العباسي الأول، واستقرت الأبيات أعلاه المنسوبة خطأ على الشبكة العنكبوتية لبشّار، فتمنيت أن أستزيد، وتحقق لي ما أريد بمقالات للشاعرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي، التي تذكره بإعجاب كبير في ما كتبت وما قالت فيه في مقابلاتها ومحاضراتها وهي أستاذة الأدب، ثم نعرف أن الدكتورة الشاعرة قد نالت الدكتوراه من السوربون وقامت بتحقيق ديوان العباس ابن الأحنف، فمن هو العباس بن الأحنف؟

ليس هناك من حسم في تاريخ ميلاده وحتى وفاته اكتنفها بعض الاختلاف ، وإن ذكر المؤرخون بأنه توفي في يوم وفاة النحوي الكوفي الكسائي وبناء على هذا يكون قد توفي وفق ما رجحه الذهبي في سير أعلام نبلائه ج9 سنة 189ه عن عمر قارب الستين..وقيل أنه من عرب خراسان وفد بغداد وبموهبته تقرب من هارون الرشيد ، وجالسه وأصبح من مقربيه يصاحبه حتى في رحلات الصيد وينشده الشعر، وبادله الرشيدُ الإعجابَ ونال عنده حظوة واحتراماً حسده عليه منافسوه من الشعراء.

 يُجمع كل من عرفه وذكره أمثال المبرِّد والجاحظ والبحتري والأصبهاني، بأنه إنسان شريف موسَر أنيق ترف، حلو الحديث، أشعر شعراء الغزل، لم يتكسب بالشعر قط، وبهذا يسقط الحجة عمّن يزعم أن الشعراء كلهم يتكسبون! فهو لم يمدح ذا سلطة أوجاه، ولم يكن مبتذلاً في شعره، بل سامياً في حبه، محترماً من قبل الجميع، وهو القائل في الحب:

وما الناسُ إلا العاشقون ذوو الهوى – ولا خيرَ فيمن لا يُحب ويَعشقُ

فمن هي معشوقته إذاً؟

لم يُنكر عشقه بل يذكره ويؤكده لكنه لم يُفصح عن حبيبته التي أصطلح عليها باسم جميل "فوْز" وفُسِّر بأنها كانت كثيرة الفوز في المسابقات!

فوز إذن لم يكن اسمها الحقيق لذا تراه يقول:

كتمتُ اسمَها كتمانَ من صان عِرضَها – وحاذر أن يفشو قبيح التسمُّعِ

فسمّيتُها فوزاً،ولو بحتُ باسمها – لَسمّيتُ باسمٍ هائلِ الذكرِ أشنعِ

 كان فخوراً بها يذكرها بخليط من الغزل الراقي والإجلال والعتاب فقد كان العاشق العذري في غير زمنه الإسلامي وإنما في العصر العباسي حين كان الغزل تشبيباً مادياً وفاضحاً في أحايين كثيرة!

لكن المحققة الدكتورة الخزرجي قد بحثت عن المعشوقة وتوصلت إلى أنها إحدى نساء البلاط العباسي، وعلى وجه التحديد عُلية بنت المهدي أخت هارون الرشيد ! فكيف لم تفطن له عيون العسس التي لا تفوتها أية نأمة أوحركة؟! ألم يذهب جعفر بن يحيى البرمكي الذي يقال أنه أحب العباسة أخت علية وهارون الرشيد الى الهاوية، ليس العاشق جعفرالبرمكي وحده وإنما كل البرامكة في نكبة اصطلح عليها بنكبة البرامكة! وسيتكرر العشق أيضا بعد قرنين في بلاط سيف الدولة حيث شغف الشاعرالمتنبي (303- 324ه) بأخت ممدوحه خولة، التي سارعت يدُ المنون باختطافها فرثاها عاشقها بقصيدة من أجمل مراثي الشعر العربي وقد كشف المستور في قصيدته:

يا أختَ خيرِ أخٍ يابنتَ خير أبِ – كناية بهما عن أشرف النَّسَبِ

إلى أن يقول بيته الخالد:

طوى الجزيرةَ جاءني خبرٌ – فزعت فيه بآمالي إلى الكذبِ

    ويبدو أن الرسول سعداً حذق المهنة وأدى المَهمّة وأخلص للعاشقيْن، فيمتنُّ منه الشاعر العاشق ابنُ الأحنف ويستزيده الأخبار حين يقول:

وحدثتني يا سًعْدُ عنها فزدتني – جنوناً فزدني من حديثك يا سعدُ

هواها هوىً لم يعرفِ القلبُ غيرَه – فليس له قَبْلٌ وليس له بَعدُ

وهناك بيت يدانيه لمحمود سامي البارودي  قرأته في "فن التقطيع الشعري" للدكتور صفاء خلوصي كشاهد عروضيّ على التصريع بالزيادة في الطويل (مفاعلن إلى مفاعيلن)  قاله البارودي في استقبال سعد زغلول رئيس الوفد المفاوض عند عودته من بريطانيا:

فيا سعدُ حدّثني بأخبار من مضوا – فأنت خبير بالأحاديث يا سعدُ

والبحر والتصريع هونفسه عند بن الأحنف إضافة إلى المعنى!

***

هناك كثير من المشتركات بين الشاعر ابن الأحنف وبين الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي التي جعلَتْها تختاره مادة لدراستها ونيل الدكتوراه ثم تقوم بتحقيق وتمحيص ديوانه، فالشاعرة الدكتورة كانت بمنتهى الأناقة في كل شيء في حديثها وفي شعرها وفي هندامها فقد كانت تصفف شَعرها بعناية بتسريحة فرنسية (ميز اون بليه)، وكانت ملابسها معظمها فرنسية تحسن اختيارها وحريصة على تناسق ألوانها، وكانت لها طريقة الإلقاء الأنيقة يشفع لها صوت موسيقي جميل النبرة تميزه بين مئين الأصوات يشد السامعين أكثر في إلقاء  الشعر، كانت متأدة في كل شيء في إلقائها كما في مشيتها، كانت حازمة.. كنت اراها كل يوم تمر في طريقها إلى موقف السيارات خلف قسم الكيمياء حيث تركن سيارتها، لم تكن الدكتورة جميلة جداً لكنها تحمل كثيراً من معاني الجمال..

سمعتها مراراً تلقي شعرها الصوفي وتتغزل بالذات الإلهية في كثير من اشعارها، كنت كباقي الشباب نتطلع للشواعر أن يبُحن بغزل أو بشيء من العاطفة، كنا نتمنى أن تتغزل هي وغيرها بشخص ما تحبه لنعرف عالم الحب لدى الشاعرة العاشقة فقد شبعنا من بوح الشعراء العشّاق وحفظنا أشعارهم، وشبعنا من الشعراء المتصوفة وعشقهم لله وها هي شاعرتنا تقول من قصيدة "بين يدي الله":

أحبك لو صحّ أن الهوى – تترجمه أحرفٌ او معانْ

أحبك للحبِّ لو أعربت – عن الحبِّ قافيةٌ أو بيان

أخال الهوى فوق ما في اللُّغى – أو أن اللغى دون ما في الْجَنان

أُحبك رباه فوق الهوى – أيا من به كنت والحبُّ كان

أحسُّ به في فؤادي هوىً – يعمّ الورى بين قاص ودان

عرفت بك الحب أنت الهوى – وفيك القصيد ومنك البيان

وأنت الجميل تُحب الجمال – فأنى تجليت كان افتتان

ومن الواضح أن القصيدة – وهي أطول- أقرب إالى المناجاة الدينية أوالصوفية، تتسم بلغة سهلة للغاية ذات عبارات شعرية خالية من التعقيد اللغوي خالية من الخيال شحيحة التصوير البلاغي ولكن تتسم بأناقة واضحة وهي تقترب أو تحاول ان تقترب من الخصائص الشعرية لشاعرها الاثير العباس ابن الأحنف.

لكنها تضاده تمام التضاد وهو الذي لم يمدح أحداً، حين تمتدح الرئيس الدكتاتور السابق بما لا أود أن اذكر ما قالت فيه.. الذكر الطيب للأستاذة الكبيرة والشاعرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي..

 

رام كم هنغ في 16ك1/ديسمبر 2016

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم