صحيفة المثقف

أحمد بوعود: الإمام عبد السلام ياسين وحوار الحداثة

إن الحداثة نمط عيش وعمل وتفكير، ظهرت بأوربا، تتميز بخصائص جعلت منها إله العصر. فقد تشكل المجتمع الحديث بفضل التقدم التكنولوجي والتصنيع، وبروز كثير من القيم كالديمقراطية والعلمنة والرأسمالية والعقلانية والفردية والكونية وغير ذلك. لكن أين هو الإنسان؟ أين هي حقوقه الروحية؟ أين هي القيم المؤطرة للعلاقات الإنسانية؟

 

1- القرآن مرجع الحوار ومنطلقه

إن الإنسان اليوم لا وقت لديه للتفكير في الدين والقضايا الدينية، فحياته كلها محاطة بالماديات، والهم الأكبر بالنسبة إليه هو أن يعيش أكثر. إنه، في نظر الإمام ياسين رحمه الله، لا جواب له عما سيصير إليه بعد الموت وأنه سيكافأ بعد وفاته عن حياته هاته أو سيعاقب. إنه لا يدري أن هناك رسلا أرسلهم الله لتنبيهه وتوجيهه وليستعد لما بعد الموت... هذه هي القضايا المعلقة عند الحداثة، وهي التي ينبغي أن تكون محل حوار وسؤال في نظر الإمام رحمه الله.

إن الجواب عن هذه الأسئلة يوجد في القرآن وحده. لكن، لماذا يعتبر المرجع الوحيد للإجابة؟

للإجابة عن هذا السؤال يحدد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله للقرآن ثلاث صفات أساسية:

 

- القرآن فرقان

ويعني هذا أن الفيصل بين إيمان الناس وكفرهم هو موقفهم من القرآن، وبه يفرق بين الحق والباطل، ومن لا يدخل تحت راية القرآن فهو تابع للباطل، وليس للحق. وإن كون القرآن فرقانا يعني أن يسود سيادة مطلقة. وقد استنتج هذه المعاني من قوله تعالى: ﴿تَبَارَ‌كَالَّذِي نَزَّلَ الْفُرْ‌قَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرً‌ا﴾ (الفرقان: 1).

وهذا التوصيف نجد له سندا في آراء المفسرين، القدامى منهم والمحدثين، كما عند ابن كثير رحمه الله، الذي وضح معنى الفرقان كونه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام.

 

- القرآن برهان

ومعنى كون القرآن برهانا "أن نحكم بكلام الله الأزلي على عقل البشر المخلوق العبد الخاضع لتطورات الزمان والمكان. معناه أن يجلس العقل مجلس التلميذ يستهدي الوحي ويستنير به. ومعنى كونه نورا مبينا، أن كلام الله هو المرجع، به يبرهن على الهدى والضلالة، على الصلاح والفساد، على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته"[1].

إن وصف القرآن بالبرهان تدل عليه الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْ‌هَانٌ مِّن رَّ‌بِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورً‌ا مُّبِينًا﴾(النساء: 174).

وينتقد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله دعوة الحداثيين إلى قراءة جديدة للقرآن الكريم بمناهج بشرية حديثة، فيخلص إلى أنهم ينزلون بالقرآن من مستوى ربانيته وقداسته إلى مستوى التفكير البشري، والرد على هؤلاء إنما يكون بالقرآن نفسه، لأنه هو البرهان على الخطأ والضلال.

 

- القرآن إحسان

يعني كون القرآن إحسانا "الاهتداء بالقرآن والاسترحام به والاستدلالبآياته الحكيمة وآيات الله في الكون لا يحق لنا منه نصيب إلا بمقدار مامعنا من إحسان. أي من تعلق بالله جل جلاله واستماع لكلامه مستحضرين منيخاطبنا وما يريد منا وما يريد بنا وإلى أي مصير يصيرنا. وبهذا يكون محورحياتنا هذا الموقف الإحساني، وتكون قبلتَنا الله جلت عظمته..."[2]. وهذا ما يُستنتج من قوله سبحانه: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِهُدًى وَرَ‌حْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ (لقمان: 2-3).

 

2- أسلمة الحداثة غاية الحوار

ربما كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله أول من استعمل عبارة "أسلمة الحداثة" في السبعينيات، وبعده انتشرت واستعملت من قبل آخرين. فماذا تعني؟

إن أسلمة الحداثة عند الإمام ياسين رحمه الله تعني أولا وقبل كل شيء تصحيح الفطرة التي انحرفت وشوهت بسبب المادية والجاهلية، هذه الفطرة التي عناها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ (سورةالروم:30  ) كما عناها النبي  صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِه"[3].

لكن، للأسف، فالحداثة مؤسسة على العقلانية والإنسانوية والمسلمة الدوابية، وبالتالي صار الإنسان الحديث واثقا كل الثقة في قدرة العقل على الحكم والقيادة. إنه يعتقد في نفسه فقط، ولا يؤمن إلا بنفسه وبما هو مادي تجريبي، ونتيجة لذلك، فهو لا يعرف من خلقه، بل تقنعه المسلمة الدوابية أنه خلق بالصدفة.

إن قضية تشويه الفطرة شكلت هدفا أساسيا لحوار الحداثة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله. والفطرة "كلمة قرآنية تدل على الأرضية النفسية للكائن البشري. هذه الفطرة، هذه الأنا الباطنية والطبيعة الأولية القبلية الكامنة في أعماق كل واحد منا، هي موطن الإيمان والثقة بالله. لكن إذا ما شوهها المحيط العائلي والبيئة الثقافية فلن تستعيد عافيتها إلا بالمبادرة الحانية لعمار المسجد"[4].

وتصحيح الفطرة يعني أن نبين للإنسان الحديث الطريقَ إلى الله خالقِه، ونقول له إن هناك حياة بعد الموت حيث سيجازى الجميع. وللقيام بهذا فقد دلنا الله تعالى على منهاج يقودنا إلى المقصدين الأعظمين: العدل والإحسان اللذين نجدهما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90).

 

- العدل

وهو إعطاء الحق لصاحبه.. وهو ضد الجور. وقد بينت مجموعة من الآيات أقسام العدل وفصلت مجالاته... وهو من أهم وظائف النبوة التي يمثلها قول الله عز وجل ﴿ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّـهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ ( الشورى:15)، فهذه الآية تمثل أساس بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهو إقامة العدل بين الناس في شتى المجالات لما كانوا يعيشونه من ظلم وفساد. وجميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية إنما جاءت لأجل تحقيق العدل.

  

- الإحسان

والإحسان هو الإتقان. ويشمل كذلك مجالات مختلفة، غير أننا نستطيع أن نحدد أعلى هذه المجالات وأصلها الذي عنه تتفرع المجالات الأخرى في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال جبريل عليه السلام عن الإحسان في الحديث: ''الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". وأدنى مراتب الإحسان ما في حديث الموطأ أن امرأة بغيا رأت كلبا يلهث من العطش يأكل الثرى، فنزعت خفها وأدلته في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها .

هذه المعاني والمراتب تعطينا في مجموعها مواصفات المؤمن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، تعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس، وحتى بالأشياء…

وعندما يسود الإحسان، فإن ذلك ضمان للمجتمع من مجموعة من الشرور والفتن، ذلك أن الإحسان، بما هو فضل وزيادة ومرتبة عليا في الدين والتقوى، معنى زائد على العدل، بل قد يحتويه.

  

3- التربية منهاج الحوار

يصف الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بالتربية بالحرفة فيقول: "حرفتنا التربية، هي وسيلتنا لتغيير الإنسان حتى يتبنى موقفا ونظرة وإرادة تتعالى على الظرفيات التاريخية، وتتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة التي تحيطنا بها سياسة المنزل الإقليمي الصغير، وذهنية الهوية التجزيئية"[5].

هذه التربية تبدأ من صحبة روحية؛ ذلك أن "الصحبة مفهوم مركزي في الإسلام ، والمسجد أمثل مكان للعثور على الصحبة المثلى"[6]. وهذه الصحبة يجمعها قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ (الحجرات: 9).

إنهم جسم واحد جمعهم الإيمان؛ ذاك الإيمان الذي يعرفه الحديث الشريف "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ".وتبدو قيمة الإيمان الاجتماعية التواصلية في حديثه صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِه"[7].

بالإضافة إلى الإيمان لا تتحقق التربية بدون علم، لأن العلم يحرس الإيمان ويحفظه. والعلم المطلوب أولا هو العلم بالله مصداقا لقوله تعال: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّـهُ ﴾ (محمد: 19). وهو أول حق ينبغي تلبيته للإنسان في زمن الحداثة. يقول الإمام رحمه الله: "أول حق للإنسان أن يعرف مغزى حياته ووجود خالقه، أما الحقوق الأخرى فتدور كلها حول هذا المحور. لذلك يجب أولا على كل مسلم يعيش في مجتمع مسلم أن يدعم هذا الحق"[8]. وهذا ما تفتقده الحداثة حتى ضاع الإنسان.

على العقل أن يجالس القرآن والداعيَ ويتلمذ له و"يسمع". فالسماع بهذا المعنى القرآني "هو مصدر العلم. ثم يتسرب الإيمان للقلب، ويتسع القلب ليكون وعاء صالحا لاستيعاب القرآن ورسالة القرآن". وبهذا يرتفع العقلاني من حضيض الغفلة إلى نور القرآن وإحسانه.

وخلاصة القول: إن حوار الحداثة عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله ليس حوارا سياسيا، وإن كان يتضمنه، وليس حوارا فكريا، وإن كان يتضمنه، ولكنه حوار عام شامل ينصب بالأساس حول الإنسان الذي ذهبت الفلسفات المعاصرة إلى القول إنه ضاع.

 

........................

[1]-عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة ص 19.

[2]- نفسه ص 25.

[3]- رواه مسلم.

[4]- عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة ص 203.

[5]- نفسه ص 325.

[6]- نفسه ص 241.

[7]- متفق عليه.

[8]- الإسلام والحداثة ص 238.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم