صحيفة المثقف

خالد جواد شبيل: أمم فقيرة تنهض ونحن نتقهقر! (1-2)

khalidjawad shbaylأمتي هل لك بين الأممِ   ***     مِنبر للسيف أو للقلمِ

أتلقاك وطرفي مطرقٌ *** خجلاً من أمسك المُنصرمِ

لا أدري كيف تسللت هذه الأبيات إلى مناهجنا المدرسية ورددناها ونحن صغار، في وقت كان الجميع يتغنى بالعروبة ومجدها المؤثل، وكيف "كان العراق في انتقال" جملة نسمعها في الراديو ونقرءوها في الصحف..والأبيات هي لشاعر جمع بين الرقة والحس الوطني الثوري وحسن السبك والسهولة مثلما جمع بين الغزل الرقيق والروح الثورية الوثّابة؛ وعن سلاسة أسلوبه الشعري الدافق وقدرته التعبيرية العالية يجعلني أن أصفه بأنه رائد الأسلوب الشعري المعروف ب "السهل الممتنع" .

 وقد عاش شاعرنا طالب كيمياء في لندن وباريس فتعمق إحساسه بأن بلداننا متخلفة وأدرك بأن المكاشفة بالتخلف هي الخطوة التي تحثنا على النهوض، أما التشدق بالأمجاد والتباهي بحاضر لا يني يسوء فهو الكارثة.. ثم يستمر عمر أبو ريشة (1910-1990) في قصيدته التي قوامها اثنان وعشرون بيتاً حتى يصل قبل الختام الى بيته الآسر:

لا يُلام الذئبُ في عدوانه *** إن يكُ الراعي عدوَ الغنمِ

ولم يكُ هذا الشاعر يقول الشعر الحماسي وحسب، بل كان مناضلاً تصدى للاستعمار الفرنسي في بلده سوريا وطورد واعتقل.. ثم ليصبح سفيراً لبلاده سوريا. وتعمق الإحساس عنده بالفارق بين الغرب وبيننا؛ قال قصيدته هذه في ثلاثينات القرن الماضي، فما عساه أن يقول لو كان بيننا الآن؟!!

***

حين كتبت سلسلة مقالات عن رحلاتي إلى اليابان ثم كوريا، والتي كتب لي عنها الكثيرون مبدين اهتمامهم بالتجربتين متوسمين أن نأخذ من دروس البلدين اللذين مزقتهما الحروب ليغدوا في طليعة الدول المتقدمة -عدا رفيقاً قديماً- غمز قناتي متسائلاً بإسلوب أعتبره بريئاً وفق قول بوذا في إحدى وصاياه الثماني: أنْ اَحسنوا الظن!، وكان التساؤل عمّا إذا غيرت قناعاتي اليسارية "المتطرفة" واقتربت من "الليبرالية" وأظنه ترفق بي مشكوراً حين لم يقل الرأسمالية فلطّفها بالليبرالية!

وحيث أن عماد التطور أي تطور هو الاقتصاد بمفهوميه كثروة economy والاقتصاد كعلم  economics فمثلما لا توجد ثروة رأسمالية ولا اشتراكية كذلك لا يوجد اقتصاد كعلم رأسمالي ولا اشتراكي تماماً كالفيزياء فلا هناك فيزياء رأسمالية ولا فيزياء اشتراكية! وإنما هناك أجراءات وقوانين للاقتصاد تكون رأسمالية حين يحتكر رأس المال فئة قليلة من أربابه تسخر الثروات لصالحها على حساب منتجي الثروات وهم العمال.. واشتراكية حين تستثمر الثروات لصالح عموم الشعب لا سيما العمال.. كما لا يوجد جدار خرساني سميك بين الاشتراكية والرأسمالية، فهناك بلدان رأسمالية طبقت كثيراً من الإجراءات الاشتراكية كالسويد مثلاً؛ والعكس صحيح حين اضطرت روسيا السوفيتية المتطلعة للاشتراكية أن تطبق السياسة الاقتصادية الجديدة NEP بعد سنوات الحرب التي 1919-1922  حين أرْختِ الدولة قبضتها الحديدية على الاقتصاد وسمحت بمنحىً رأسماليًّ فرضته مرحلة "شيوعية الحرب" .. بل وتم تطبيق ذلك في دول "اشتراكية" مثل الصين التى سمحت بادخال الرساميل الأجنبية وطبقت جزئيا قوانين السوق، والى حد ما فيتنام ولاووس ما سمح بنمو اقتصادي هام ساهم بالتطور الشامل للبلد.. وعلى هذا سيكون تناولي من خلال رحلاتي الى كمبوديا ولاووس اللتين زرتهما بمدد متقاربة ثلاث زيارات تفصلها نحو خمس سنين ما يمكنني من رصد عيانيّ للتطور، وسأرجىء تناول تطور فيتنام وسنغافورة إلى وقت آخر.

***

دخلت كمبوديا عام 2001 لأول مرة قادماً من تايلندا، وكان كل الراكبين من الغربيين في ميني باس  أو مايعرف ب"فان" قطعنا قرابة ثلاث ساعات ونصف حتى نقطة عبور الحدود بويبت، وهي بناية صغيرة، الأرض ترابية تذروها الرياح، ودخلنا بلداً بدا الفارق بينه وبين البلد الذي غادرناه كبيراً جداً، وكانت المرحلة الأولى من الرحلة هو التوقف في مدينة سيام ريب، حيث استقللنا حافلة ثقيلة السير بسبب وعورة الطرق حتى وصلنا هدفنا عند الغروب، حيث كانت تتوقف الحافلة لشراء الطعام والموز والماء، أما المطاعم البدائية الصغيرة فلم يجروء أحد على شراء الطعام منها!! اشتريت موزاً من بنت ملحاحة: "مستل بانانا" وعندما سألتها عن اسمها قالت: إلهام، أما بائعة الماء التي تحفظ سورة الفاتحة فاسمها فاطمة! إنهم من مسلمي الخمير أو الجان(بالجيم المعجمة بالثلاث) استغرقت الرحلة حوالي سبع ساعات لكثرة التوقف غير المبرر حيث تصبح الاستراحة لنصف ساعة أحيانا ساعة كاملة، وحين نحاول الدفع بالدولار يرفض الباعة لانهم لا يعرفون هذه العملة الغريبة!..

ومدينة سيام ريب التي سنبيت فيها ليلتين، مدينة عريقة ذات آثار هامة وهي أنغكوروات وتعني بلغة الخمير مدينة المعابد ، وهي رئة تتنفس منها كامبوديا التي ليس لها حظ في بحر إلا إطلالة بسيطة على خليج تايلندا، والتي تدر عليها مورد سياحي كبير، ومن أجل أهميتها هذه التأريخية والسياحية تنازعت عليها تايلندا تريد ضمها وما زال النزاع لم يحسم! والغريب إن معنى سيام ريب يعني بلغة الخمير هزيمة تايلندا.

كانت ملامح الحياة الفرنسية في سيام ريب واضحة من خلال فندقها غراند اوتيل ذي المعمار الفرنسي وكذلك توفر الخبز الفرنسي والمعجنات الفرنسية من قبيل الكرواسان والمادلين! ولكن الطعام الكمبودي هو الشائع ومنه أكل أجنّة الدجاج في بيوضها مسلوقة حيث رأيتهم يلتهمونها التهاماً مع أصوات تلذذ ويحتسون معها الجعة (تايغر بير) أو خمور الأرز التي تشتهر بها هذه المدينة تأريخياً، وحين تعجبت وسألت صديقي المسلم التايلندي م.ط.  قال نأكلها حلالاً وهي لذيذة ونصحني أن أجربها فأبيت، ولهم أطباقهم النباتية والحيوانية الأخرى الغريبة!

كنت في السيارة الفان قد جاورني شاب بلجيكي استاذ موسيقى وصديقته أستاذة الفرنسية وكان حظها في الركوب جهة الشمس، فترجتني إن أتنازل لها عن مقعدي بسبب صداع تسبب من الشمس فوافقت عن طيب خاطر وهكذا امتدت بيننا أسباب المودة التي تنعقد بين المسافرين، وهكذا اخترنا اوتيلا غرفة لي وغرفة لهما متجاورتين، وحجزنا تكتك لكي يأخذنا في يوم كامل الى مدينة المعابد انغكور وات، وشكا لي بأنهما لما يستطيعا سحب مبلغ من المصرف الآلي ATM وقد حجزا لليوم الثاني لحوالة مستعجلة تصلهما من مصرفهما فأرادا قرضا بمبلغ ليس كبير وتلطفا في أن استلم منهما ضمانة وأذكر أنها ساعة ثمينة فأعطيتهما ما يحتاجان ورفضت أن أستلم أي ضمان، وقد وثقت هذه القضية صداقتنا.. وهكذا زرنا المدينة سوية، نتقاسم ما نصرف..

تبعد مدينة المعابد 5كم من سيام ريب والدخول للمدينة بأجور: أذكر كان 20 دولاراً لليوم الواحد ولليومين ثلاثين ولمدة أسبوع أربعين أو خمسين.. وكان مشروعنا ليوم واحد.. وقد أطلقنا سراح سائق التكتوك على أن يأتينا قبل الغروب.

 كان منظر شروق الشمس على مجمع المعابد وأبراجه ساحراً للغاية ونُبهنا ألا ندخل من المساحة المعشبة من الحديقة لاحتمال وجود الأفاعي الخطيرة الكامنة..كانت هذه المدينة عاصمة لأمبراطورية الخمير، يتألف المعبد من قسمين: الأقدم وهو الهندوسي وتحديدا معبد الإله شيفا وما حوله من تماثيل وهياكل، ولا يعرف على وجه الدقة بدايته التأريخية.. ثم المعابد البوذية التي تختلف عن الطراز الهندوسي من حيث المعمار والتماثيل والمجسمات التي تخص بوذا ثم قاعات وهياكل والتي بدأت منذ دخلت البوذية بلاد الخمير في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن أكثر المناظر دهشة تلك الشجرة المعمرة التي اسبرت جذورها في الجُدُر الصخرية للمعبد وظلت تتحدى الزمن من مئات السنين والتي شغف السائحون بتصويرها..

ومما يلفت النظر أن البوذية لم تجبَّ ما قبلها فحافظت على التماثيل الهندوسية والهياكل كأحسن ما تكون المحافظة وفقاً لمبدأ التعايش لدى البوذية مع مختلف الديانات السابقة واللاحقة!

كانت أكثر المزارات مشقة ومتعة في آن هو صعود الأبراج والحذر الشديد من الانزلاق بسبب الصخور الملساء، وكانت هناك متعة التسلق من خلال الجدران الخارجية اعتماداً على المسافات البينية والحزوز بين الصخور وهي مهمة ليست سهلة، ولكنها ممتعة وتمنح المتسلق ثقة بالنفس وتعزز روح التحدي!

في اليوم الثاني افترقنا حيث ذهب الأصدقاء الى منتجع ساحلي وواصلت الرحلة إلى فنوم بنه العاصمة الكمبودية.. استقللنا الحافلة في الصباح الباكر والركاب لفوا حوائجهم وتلثموا بالقناعات، حيث مثار النقع خلف السيارة مردوده غبار طحيني احمر يدخل السيارة والجو حار وشعور حاد بالغثيان.. قطعنا المسافة بعشر ساعات أو أكثر حيث وصلنا عند الخامسة عصراً!

وفنوبنه العاصمة سميت باسم أقدم معبد فيها يدعى معبد التل شيد في أواسط القرن الرابع عشر وما زال قائماً واصبحت عاصمة مزدهرة ابتداء من الحقبة الكولونيالية الفرنسية بدء من عام الاحتلال الفرنسي 1870، وهي مطبوعة بالمعمار الفرنسي ولازالت الأجبان والخمور والخبز الفرنسي متوفراً في الأسواق والمطاعم! تقع على نهر الميكونغ أشهرأنهر آسيا وهو يقابل الدانوب في أوربا لأنه يمر بعدة دول، ومن عجائب هذا النهر أنه يغير اتجاههه وفقاً لغزارة الأمطار فإذا كان المطر صبيباً في الغرب سار مجراه نحو الشرق والعكس صحيح! بلغت المدينة أوجها من الازدهار في العشرينات حتى سميت لؤلؤة الشرق، لازدهار أسواقها ودخول النقل بالسكك الحديد وبناء مطار، ناهيك عن النقل المائي عبر القنوات والأنهار..

كانت فنوبنة إبان السبعينات وخلال الحرب الأمريكية على فيتنام ملجأ للفارين الفيتناميين من جحيم الحرب، وفي هذه السنوات تحالف مقتلي الفيت كونغ مع الخمير الحمر، حيث وجهت ضربات موجعة لنظام فيتنام الجنوبية العميل حتى سقوط سايغون ودخول القوات الفيتنامية القصر الرئاسي..

أما فصائل الخمير الحمر في كمبوديا فاستولوا على السلطة وأسقطوا نظام الأمير نورودوم سيهانوك (1922-2012)..بقيادة بول بوت (1925-1998) الدموي الرهيب.. ومن لم يزُر متحف الإبادة الجماعية تول سيينغ، وهي مدرسة ثانوية قد تحولت إلى سجن ومركز قتل وتعذيب، ومن له قلب رهيف لا أنصحه بزيارة هذا المتحف الذي يعرض كيف تحولت قاعات الدراسة الى زنازين صغيرة حيث تعرض فيها وسائل التعذيب التي يعجز القلم عن وصف بشاعتها..لقد استهدف الموت الأسود ( أسم مجازي للطاعون) كل معارضي بول بوت من رفاقه الشيوعيين والمثقفين ورجال الدين بوذيين ومسلمين ومسيحيين ومن كل فئات الشعب، لقد وصف بالموت العشوائي! وأقول ثانية من لم يزر هذا المكان الشاهد الحي على حقبة الموت الذي طال ملايين(*) من الأبرياء ما أظنه عرف حقبة من تاريخ البشرية الحديث الأسود..

هناك غابة تبعد عن العاصمة حوالي عشرة كيلومترات، استاجرت دراجة نارية وسلكت طريقا مفضياً إليها، فماذا رأيت؟ رأيت حقل الموت وما هو بتعبير مجازي بل واقعي عملي حفر في شتى أرجاء الغابة المسيّجة تتدلى منها أطراف من عظام بشرية وجماجم، وملابس نسائية ورجالية وعباءات كهنة وبطاقات تعريف لأصحابها وأوراق شخصية وحقائب نسائية وووو.. الحفر صغيرة، الهدف منها فقط عرض نماذج، أما المدفون تحت الأرض فالعدد لا يمكن تقديره! ثم هناك بناية المتحف حيث صور ووثائق والأبشع أنك ترى في صناديق عرض زجاجية آلاف مؤلفة من الجماجم ضاقت بها الصناديق! وتستطيع أن ترى فلماً وثائقيا مفصلاً لما جرى..تدخل وتخرج ومعك سؤال لا يبرحك وتتمنى لو تبرحه: لماذا؟!!

سكنت في مركز المدينة المطل على البحيرة وهناك جامع جميل حيث المطاعم والطريق مازال ترابيا، دخلت الجامع وفوجئت بقطعان غنم ملأت ساحته الخارجية فسألت عن الأغنام قيل إنها ستكون اضحيات العيد الذي سيحل بعد ثلاثة أسابيع، وذكر لي أحدهم أن الجامع أنجز قبل شهور بفضل تبرعات جمعيات إسلامية ماليزية.. جلست في مطعم إسلامي وتعرفت على الإمام ومجموعة من المسلمين، نهضوا للصلاة..في اليوم الثاني وأنا راجع سمعت صوت ينادي من أحد الحوانيت: تفضل أستاذ، وإذا هو صوت أمام المسجد، والتفت وإذا صناديق البيرة علامة النمر قد رصفت رصفاًواحتلت جزء هاماً من الحانوت، فاستبشرت خيراً! ومما قال: لقد نسينا أخواننا العرب المسلمون!

هذه هي كمبوديا، بلد الفواكه والعطور والحرير والأحجار الكريمة.. وبلد الفقر حيث لا يمتلك هذا البلد قطرة بترول ويُعد مع جارته لاووس من أفقر دول آسيا..

ولكنني زرت هذا البلد زورتين بعد أول زيارة، أخرها قبل ثلاث سنوات، فرأيت ما أدهشني حقا، لقد عُبّدت كل الطرق الترابية وأصبح ما يقطع بسبع ساعات تقطعه بثلاث ساعات ونصف الساعة، وبنايات الحدود جميلة ومنظمة، الشعب يتكلم الإنكليزية بشكل رائع ويعد الأحسن في آسيا بعد الفلبين، التعليم تطور وبنايات المدارس حديثة وجيدة جداً، المطاعم نظيفة، هناك نهضة اقتصادية وصناعية حيث تطورت السياحة بشكل كبير، واستفادت من مساعدات منظمة آسيان وبنت مشاريع محترمة ... لم أستطع الاستدال على فندقي لا في سيام ريب ولا في فنوم بنه.. العمران وحسن التنظيم أمرٌ ملفت للغاية، الأسواق تعرض بضائعها بمنتهى الأناقة، كل هذا حدث بظرف اثنتي عشر سنة، فاين نحن من كمبوديا؟!!.

 

...............................

(*) يقدر عدد ضحايا حرب الإبادة بين مليون وثلاثة ملايين في بلد تعداده يومذاك ثمانية ملايين!

رام كم هنغ في الفاتح من عام 2017م

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم