صحيفة المثقف

خالد جواد شبيل: أمم فقيرة تنهض ونحن نتقهقر! (2-2)

khalidjawad shbaylقِف في "مِنىً" واهتف بمزدَحم القبائل والوفودِ

حِجّوا فلستم بالغين بحجكم شرف الهنودِ

حَجّوا إلى استقلالهم وحَججتمُ خوف الوعيدِ

فعبادةُ الأحرار أشرفُ من إطاعاتِ العبيدِ

 للشاعر صالح الجعفري النجفي قالها قبل أكثر من سبعين عاماً في النجف!

***

غادرت كامبوديا براً نحو فيتنام الطريق البري كان أحسن ما مشيناه، قطعناه في حوالي ثلاث ساعات الى الحدود، لم تأخر سوى نصف ساعة من تحصل على التأشيرة مسبقاً، وصلنا مدينة هوشي منة (سايغون) بنحو ساعتين ونصف الساعة الطريق معبد والحافلة جيدة..ليس مهمتي أن أصف هذه المدينة الآسرة، تجمع بين الطراز الفيتنامي والفرنسي..

 زرت متحف القائد هوشي منه ذا البناية الأنيقة المطلة على النهر(الميكونغ)؛ كانت حياة هذا الإنسان المنسلخ من عائلته الثرية مدهشة في بساطتها مناضلاً ورئيساً، خرجت مفكراً لماذا لم يتهيأ لنا قادة في نصف زهده وربع إخلاصه لوطنه وعقيدته الثورية التي تفاني من أجلها لتنفيذ أفكاره على نفسه وعلى الواقع؟؟!!

وكما يقول الغربيون " باي وي" سأمر سريعا جداً على أهم ما شاهدت في سايغون! متحف الحرب العدوانية، هكذا كان اسم المتحف، ثم جُعل اسمه  متحف بقايا الحرب war remnants  museum    للتخفيف من وقع التسمية الأولى على السائحين الغربيين! وفي هذا المتحف شاهدت مافعله الاستعماران الفرنسي ثم الأمريكي من شنائع، يعفّ القلم من ذكرها من مقاصل إلى ادوات تعذيب جهنمية، ومن يُرِد أن يطّلع على رأي الشباب الغربيين على ما دونوه في السجل سيشعر بارتياح، كتبت أحدى الشابات" أشعر بالخزي من كوني أمريكية"، وآخر " تمنيت لو لم أولد أمريكياً" وكتب فرنسي أو فرنسية " مذ شاهدت الجرائم رثيت للشرف الفرنسي!"...

ذهبت الى السفارة اللاووسية القريبة من المتحف، وتحصلت على التأشيرة بعشر دقائق، وأمضيت ربع ساعة أستمع للقنصل الذي راح يشرح عن بلاده ومعوقات نهوضها ومشكلة الألغام التي  تصيب الرعاة، وتحرم المزارعين من أخصب الأراضي الزراعية! وختم كلامه نحن نخوض حرباً ثانية هي حرب سلمية من أجل البناء..

زرت أنفاق كوجي الشهيرة وغرفة العمليات السرية  الكامنة وسط غابة تكسوها أوراق الأشجار، حيث تنفتح لك أبواب سرية ومخابىء بلمح البصر! واطلعنا على أفخاخ مُهلكة نُصبت للعدو..وأكلنا من الطعام الذي كان يستخدمه الثوار، قوامه الأرز والبطاطا الحلوة! ثم قطعت ثلاثين متراً في هذه الأنفاق وأظنها كانت خمسين، كانت تجربة خاصة جداً أن تكون ثائراً فيتنامياً لمدة ساعة أو أكثر.

لم يعجبني في مدينة هوشيمنه الموتورسايكلات التي تنفث سمومها والتي يبلغ عددها مليوني موتور سايكل، مما تجعل الهواء في المركز ملوثا! ولكن الطعام الفيتنامي لذيذ، ولهم مشروب البيرة الرخيصة المصنوعة من الأرز ويسمى "فو"، أما المشروب الوطني فهو يُشبه الفودكا مصنوع من الأرز أيضاً، ويكون غالياً عندما تشتري قنينة وقد نقع بها افعوان او أكثر والسعر يعتمد على نوع الأفاعي وبالضرورة على حجم القنينة التي ينتصب فيها الأفعوان، وأغلاها ذات الكوبرا والكنغ كوبرا. فهم يعتقدون بأن الأفاعي في المشروب أو المأكول تمنح متناولها صحة وقوة جنسية كبيرة!! وللفيتناميين قهوتهم اللذيذة التي يحضرها ويفلترها الزبون بنفسه وهو جالس فتزيد الجلسة إمتاعا!

***

غادرت الى مدينة هوّ Hue، عن طريق الساحل المطل على بحر الصين الجنوبي، وبين مدينتي هوي آن و هوَ كان الطريق جبلياً ضيقا وكانت الحافلة تسير على حافة الطريق المطلة على البحر  في ارتفاع شاهق ورغم الخوف من انزلاق الحافلة كان المنظر خلاباً.. أمضيت نهاري في هذه المدينة التأريخية المسيجة أرقب حياة الناس وكأنني واحد من رجال مسلسل ماركوبولو! ثم واصلت طريقي نحو لاو باو (باب لاووس) المركز الحدودي، استغرق الطريق منها الى مدينة سافانا كيث اللاووسية حوالي عشر ساعات في طريق ترابي، وكانت الأراضي من نوع السافانا، مملة، لم نتوقف سوى مرة واحدة، معظم الركاب كانوا من العمال اللاوسيين الذين يشتغلون في فيتنام، كنت الوحيد الأجنبي!

المدينة جميلة جداً استأجرت دراجة هوائية للتمتع بمناظر المدينة وشاطيء نهر الميكونغ حيث المطاعم التي تقدم لحم الكلاب البرية مشوياً، وأخرى تشوي السحالى(*) (أبو بريص)، البيض ذا الأجنة،  وكل شيء يقدم مع البيرة اللاوسية الشهيرة "بيرلاو" أو "تايغر بير" هناك معبر حدودي ينقل الراكبين الى تايلند الضفة الأخرى! وهناك حانوت فري ديوتي(سوق حرة)، كما يوجد مطعم فرنسي صغير كان ضالتي!!أمضيت ليلة تعشيت في بيت جعله صاحبه الفرنسي المتزوج من لاووسية مطعما وبارأ ومركز معلومات! مدينة سافاناكيت مدينة المعابد، فهي مدينة لاووسية صرفة والناس جد لطفاء!

غادرتها بعد يومين نحو فيانتيان العاصمة.. كان الطريق حديث التعبيد، وتتوقف السيارة للاستراحة والباعة يقدمون دجاجاً مشويا وأسماكاً، وسحالى مع نوع من الأرز في أكياس صغيرة يشبه لب الصمون يسمى الأررز المتلاصق Sticky Rice وهو لذيذ ومُشبع يؤكل مع الدجاج والسمك والسحالى باليد ولا يلتصق بها لأنه متماسك وهو عماد غذاء المزارعين حيث يمنح طاقة كبيرة يؤكل في لاووس وفي المناطق المحاددة لها من تايلندا في منطقة إيسان!

هذه مدينة فيان تيان العاصمة العتيدة والمنافسة تاريخياً لمدينة لوانبرابنغ. تقع على الضفة اليسرى من نهر الميكونغ أما اليمنى فهي تايلندا، وهذا النهر العملاق هو الحد الفاصل بين البلدين..

عندما زرتها لأول مرة قبل خمس عشرة سنة، بدت العاصمة قرية كبيرة قليل من شوارعها مبلط، الكورنيش على النهر غير مبلط وهناك مقاهي في الهواء الطلق، فيها ثانوية جيدة البناء ومكتبة ذات طراز فرنسي، والعاصمة هي مدينة المعابد الجميلة وفيها المتحف البوذي الشهير سيساكيت، والمتحف الوطني بسيط للغاية في بناية هرمة ومحتوياته هي ملصقات وصور تحكي النضال الأسطوري لشعب لاوس، بقيادة منظمة باتيت لاو(بلاد لاوس) الثورية الشيوعية التي خاضت نضالاً مسلحاً ضد الفرنسيين، وضد الملكيين من عملاء السي آي أيه الأمريكية من أثنية "همونغ" الرجعية، حتى حققت استقلالها التام عام 1975.. وفيها السوق الشهير (سو) والبارك الذي يتوسطه بناية أو النصب الوطني، وفيها الباغودا، وهو نصب مخروطي له أهمية تاريخية دينية، تأتي قدسية الباغودا من اعتقاد كونها حامية المدينة!

زرت لاوس بعد زيارتي الأول أربع مرات، كما زرت مدينة لوانباربنغ في الشمال، وهي مدينة رومانسية هادئة اشتهرت بسوقها الليلي ومعابدها التأريخية..

آخر زيارة لي قبل اسبوعين، أصبحت لاوس مربوطة بتايلند عن طريق جسر الصداقة بمساعة منظمة آسيان، والطريق الترابي أصبح معبدأ المدينة مذهلة من حيث التصميم الحديث مع المحافظة على الطابع القديم، لم تجد فيها معالم الفقر، السياحة واحدة من الموارد الهامة، فهي تصدر الطاقة الكهربائية لجيرانها الصين، تايلند وفيتنام، وهي مدت السكك الحديد على أربع خطوط تشكل شبكة هامة للنقل،ويسجل البنك الدولي للاوس بانها اسرع دول شرق آسيا نمواً..

النظام السياسي الماركسي اللينيني، عمق الممارسات الديمقراطية، فالرئيس ينتخب من قبل الجمعية الوطنية لخمس سنوات، والدستور عدل عام 2003 لصالح حرية الشعب وضمان ممارساته الديمقراطية مما حسن صورة لاوس في مجال حقوق الإنسان، استطاعت لاوس ان تقطع شوطاً هاماً في مكافحة الفساد، وجعل النظام الإداري شفافاً.. لقد حسنت لاوس من علاقاتها مع دول الجوار لاسيما فيتنام والصين وتايلاندا، ولها علاقات هامة مع استراليا واليابان والسويد وفرنسا والهند، وانضمت إلى آسيان عام 1997 واستفادت من تنفيذ مشاريع هامة، وبدأت اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة منذ 1998... لاوس التي لا تملك ساحلاً بحرياً في طريق النمو المتسارع.

إذهبو إلى لاوس الفقيرة المعدمة التي لا تمتلك قطرة بترول، لتروا أين اصبحت وأين اصبحنا؟!

أين نحن بلد الثروات من لاوس؟!

 

خالد جواد شبيل

رام كم هنغ 13 ك2 يناير 2017

.....................

(*) لابد للسائح من احترام ثقافات الشعوب، السحالى والعقارب والحشرات... تُربى في حقول خاصة تكاثر، وهي تعتبير من اللذائذ واباع بأسعار عالية نسبياً.. الأفاعي والجرذان تصطاد في حقول الأرز وتعتبر هي الأخرى من الأطايب حيث تطبخ بطرق خاصة وتتبل بأعشاب وأفاويه ملائمة.. الكلاب البرية تصطاد من الغابات وأسعارها أغلى من بقية الحيوانات.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم