صحيفة المثقف

تحرّر المرأة التّونسيّة أدبيّا تفرّد أم تمرّد؟.. رواية "تماسّ" لعروسيّة النّالوتي نموذجا

تصدير: "نحن جيل المأساة وجيل الخلاص معا، إذا لم نعمل ولم نعدّ ونستعدّ فلا أمل لنا بمحو وصمة العار التي يحملها كلّ منّا" .. محمود المسعدي

                        

مدخل:

من رحم مكابدة أوجاع الجور على حرّيّة الوجود الإنسانيّ فعلا وفكرا واختيارات وأحلاما انبجست حركات التّحرّر في التّاريخ البشريّ.

والتّحرّر لغويّا مصدر من الفعل الثّلاثيّ المضاعف المزيد "تحرّر" ومن معانيه نجد:

  • تَحَرَّرَ العَبْدُ مِنْ حَيَاةِ العُبُودِيَّةِ : صَارَ حُرّاً
  • تَحَرَّرَ الشَّعْبُ مِنَ الاِسْتِعْمَارِ : تَخَلَّصَ مِنْهُ
  • تَحَرَّرَ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ أَوِ الْتِزاَمٍ : نَفَضَ يَدَهُ

_____________معجم المعاني

و تحرَّر من التَّقاليد: لم يلتزم بها(قاموس المعجم الوسيط)

وهي معاني تُجمع كلّها على التّخلّص من موجود سائد تأسيسا لمنشود يتوق المتحرّر إلى أن يسود..

وقد مثّل"تحرّر المرأة التّونسيّة" شاغلا من شواغل الفكر التّونسيّ، مُذْ ثمل بالتّوق إلى التّحرّر من ربقة الاستعمار وبات يرى في كلّ ما يعرقل نهضة الوطن من كبوته الموجعة أسْرا يكبّله، في سعي منه إلى فكّ كلّ قيد يحول بينها وبين الوجود الفعّال الموازي لوجود الرّجل كشريكين في النّهوض بالوجود الإنسانيّ.

لكنّه في مَبحثي هذا / "تحرّر المرأة التّونسيّة أدبيّا" يقترن بالأدب، هذا المجال السّامي المنبثق من جِرابات قرائح شاءت أن تتفرّد دَفْقًا ممتعا يصوّر الموجود وفي ثناياه يدسّ بذور المنشود فتتناثر إلينا أحلاما ومُنًى بها نمرّ على حُساكة الواقع حُفاةً ونحنُ نترنّم بأعذب أهازيج آفاق الخُطى..

و"تحرّر المرأة التّونسيّة أدبيّا تفرّدٌ أم تمرّدٌ..؟" مُساءلةٌلانتثارات دفق القرائح النّسويّة المبدعة في وطن أبى إلّا أن يكون رَحِمًا خصيبا جوّادا بكلّ جمال يعانق

ذُرى الألق في مسار لا يَشذّ عن الحركة الأدبيّة العربيّة والعالميّة، ولا يخرج عن دَيْدَن الوجود الإنسانيّ عامّةً المتأسّس على التّجدّد مع نهاية كلّ موجة تتهاوى على شاطئ الفعل ناثرةً زَبدًا أو ساقيةً غَرْسا يُبشّر بلذيذ الثَّمَر..

وقد ارتأيتُ في مَبحثي المُسائل هذا أن أعتمد أُنموذجا لتميّز المرأة التّونسيّة أدبيّا هو أدب عروسيّة النّالوتي متمثّلا في روايتها "تماسّ" الصّادرة عام 1995 والتي اُعتُبرت من بين أفضل مائة رواية عربيّة.

وهذا الاعتماد لن يكون وقفة نقديّة معرّفَةً بالمبدعة، منقّبة عن خصائص الإبداع في نتاجاتها الأدبيّة بل تقفّيا لتمظهرات التّحرّر الأدبيّ فيها وتأمّلَ وجوده إن كان تفرّدا في خضمّ الإبداعات الأدبيّة أم مجرّد نزعة متمرّدة على السّائد الأدبيّ ارتدادا على الموروث وتوقا إلى القطع معه.. عساني بهذا الجهد أُنير بعض زوايا ظلّت مُعتمةً في الوجود الأدبيّ المبدع لهذه العلامة الوضّاءة التي تحمل مع كثير من المبدعين والمبدعات مِشعل التّعريف بالواقع الأدبيّ التّونسيّ المائز الذي لايزال يحتاج إلى الكثير من الجهود الحاثيةِ تُرابَ الجهل العربيّ به عن تِبره النّفيس..

 

"تماسّ" روايةٌ بحرٌ متزاحمةٌ دُرره النّفيسة

تصدير: "نكتب فقط وبكلّ بساطة لنقول شكّنا وريبتنا وفي نفس اللّحظة نبتدع ألف خدعة لرتْق الفِتَق طلبا لوهم التّماسك..".. عروسيّة النّالوتي/ تماسّ ص64

كما باتت خطى المرأة في الأدب العربيّ سرديًّا منذ القرن العشرين تترسّخ كحضور لا يقلّ مداه عن خطى الرّجل فيه، فإنّ الأدب السّرديّ التّونسيّ قد عرف دَفْقَ قرائح نَسَويّة إليه، ظلّ يشهد تناميا كمًّا وكَيْفًا لا يخفى على كلّ متابع للشّأن الثّقافيّ.

لذلك يبدو انتقاء أثر ما للاشتغال عليه كنموذج لتحرّر المرأة التّونسيّة أدبيّا في سياق المدوّنة الإبداعيّة التّونسيّة  ضربا من المغامرة التي قد تفتح ألف باب للاحتجاج.. لكنّني لا أنتقي رواية "تماسّ" للأديبة عروسيّة النّالوتي انقيادا لذائقة فرديّة بل اقتداءً بتقييم نقديّ عربيّ عدّها واحدة من أفضل مائة رواية عربيّة، وما عُدّت كذلك لولا توفّرها على مقوّمات فنّيّة جعلتها تتفرّد.

إنّنا مُذْ نلج عالم "تماسّ" الرّوائيّ تتكشّف لنا خباياها النّفيسة التي جعلتها تنال ذلك الشّرف، وإنّها لخبايا أساسها تفرّدٌ في معانقة فنّ الكتابة الرّوائيّة وسَبْكٌ مخصوص لجدائل الإبداع فيه وطنيّا، وإنّها لخبايا تهبنا نفسَها منذ عتبة الرّواية أي عنوانِها بمَهر بسيط هيّنٍ هو مساءلةُ اللّفظ والبناء والقولِ عن ماهيّاتها ومشروعيّة حضورها ذاك..

 

1/ العنوان "تماس" نبراس تحرّر:

تماسّ مصدر من الفعل المزيد تماسّ، على وزن تفاعل الدّال على المشاركة في إنجاز الحدث، وجذره ثلاثيّ مضعّف هو (م،س،س) بمعنى لمس فالتّماس تلامس دون تداخل أو احتواء يهيمن به أحد الطرفين على الآخر.

و إنّنا إذ نُسائل العنوان عن دلالته ونحن نوغل في  بحر الرّواية "تماسّ" نقف مذهولين أمام التّحرّر من عقال الواقعيّة السّرديّة في فنّ الرّواية لحدّ يدفعنا إلى التّساؤل عن مشروعيّة هذه العَنْوَنَةِ.

ذلك أنّ هذه الرّواية تكشف لنا عمّا يلي:

-الرّواية ضمّت روايتين: روايةِ حكاية زينب حسّان أُسريّا وعاطفيّا وعمليّا بقلم الرّاوي الأُسِّ، وروايةِ ذات الحكاية من زوايا أخرى، كأنّها أعْتَمت على الرّاوي الأُسِّ، بقلم شخصيّة زينب حسّان ذاتها، بطلتها تحمل ذات الإسم "زينب"لكن بلقب آخر(عبد الجبّار) هو اللّقب الثّاني للشّخصيّة الأُسِّ، وبطلها الشّريك يحمل اسم صلاح بدل محمود اسما مُوارِبًا يُضلِّل القارئ ويهديه في آن.

حكايتان تتماسّان دون تداخل تنهض كلّ واحدة برواية قسم من حكاية زينب حسّان عبد الجبّار مُضيئة ما بان منها وما أَعْتَمَ على شريكها البطل محمود

وعلى سلوكها الواعي المدروس، يتماسّ فيها الواقع والحلم، والوعي

واللّاوعي، والمفصَح عنه والمكتوم، تماسّا يتحرّر من منهج الواقعيّة الذي يكون الرّاوي الأُسُّ فيه هو الإِلَهَ العليم بالبواطن، الكاشف للأسرار جاعلا الشّخصيّات بين يديه دمًى تتحرّك مساراتُ أفعالها كما شاء لها، تماسّا يحرّر تلك الشّخصيّات ويجعلها تحمل على عاتقها رواية ما أخفاه الرّاوي من حكايتها بقلمها مُرْتئِيةً له عنوانًا "سراد لفلول الذّاكرة" عنوانا مُثقلا بحضور المُغيّب في الذّات البشريّة كَرْهًا بسبب النِّسيان أو طوْعا بسبب التّناسي  والقفز على نتوءاتٍ في الرّوح مُؤلمٌ الحفرُ في جراحاتها.

فتماسّ العنوان، يرزح بحِمل التّحرّر الفنّي، تونسيّا، من الواقعيّة تفرّدا في نسج الرّواية بقريحة أنثى اغترفت من من رياح التّوق إلى كلّ إبداع ينحت خطى صاحبه في جدار صرح الأدب العربيّ والإنسانيّ.

لامست الحكاية الأولى الحكاية الثّانية في بوحهما بثنايا درب وجود الشّخصيّة الأُسِّ، ولامست فيها تسمية الشّخصيّة "زينب"، الرّواية الأمّ لفن الرّواية في الأدب العربي وشخصيّتها البطلة "زينب" للدكتور الرّاحل محمّد حسين هيكل، في إشارة من المبدعة عروسيّة النّالوتي إلى أنّ روايتها الأيقونة ذي من جلباب الواقعيّة الأمّ تنبجس بكل ما تحمله من خصوصيّة وتفرّد دون تمرّد يقطع مع الأصول الأدبيّة إيمانا بأنّ النّموّ والازدهار لا يتحقّقان دون تواشُجٍ مع القديم

وإن امتدّ الزّمن الفاصل بينهما. وتماسّت الرّواية في منهجها السّرديّ مع منهج النّسبيّة في الأدب الذي تجسّد في "رباعيّات الإسكندريّة" للكاتب البريطاني لورانس داريل.

وكإضاءة معرفيّة تذكيرا وتفسيرا، أعود إلى مفهوم النّسبيّة في الأدب الذي انبثق أوّلا عن الفكر الفلسفي في قول أفلاطون:" تظهر الأشياء لي، كما توجد بالنسبة لي، وتظهر الأشياء للآخرين، كما توجد بالنسبة لهم"

[فالنسبية تقرّر أنه لا يوجد هناك حقيقة موضوعية، فما أراه هو الحقيقة بالنسبة لي، وما تراه هو الحقيقة بالنسبة لك، فلا يوجد خطأ.

وفي النسبية مقياس السلوك هو ذواتنا، فما هو الحق والعدل في عين شخص ربما لا يكون حقاً وعدلاً في عين شخص آخر. ولا أحد يستطيع أن يزعم أنه هو على الحق والصواب أو الحقيقة المطلقة. والاختلاف في الحقائق يعود إلى اختلاف الرؤية والوضع الملائم للشخص.

النسبية هي وضع فلسفي يرى كل وجهات النظر أنها صحيحة شرعية متساوية، فكل الحقائق نسبية إلى الفرد. وهذا يعني أن كل الأوضاع الأخلاقية، وكل الأنظمة الدينية، وكل الأشكال الأدبية، وكل الحركات السياسية هي حقائق نسبية للفرد]. (مبارك عامر بقنه/نقض المذهب النّسبي/صيد الفوائد)

ثمّ انبثق ثانيا عن الفكر العلمي في نظريّة النّسبيّة العامّة للعالم التي قدّمها العالم الفيزيائيّ الشّهير ألبرت أينشتين سنة1915، والّتي يقول عنها الأستاذ علاء الدّين السّيّد:" مثل هذه النّظريّة الغريبة سرعان ما التقطتْها أيدي الروائيّين والفنّانين وعقولهم لتتحوّل سريعًا إلى أعمال أدبيّة وفنّية ألهمت العالم وغيّرت من نظرته للكون ككلّ. بل إنّ البعض بدأ يضع قوانين لمن يسافر عبر الزّمن وخاض الكثير في فلسلفة هل يؤثّر المسافر إلى الماضي في الحاضر والمستقبل أم أن السّفر عبر الزّمن لا يكون إلّا إلى الأمام فقط، أم أنّه لا يمكن السّفر عبر الزّمن بالفعل لكن يمكن رؤية المستقبل".(موقع ساسه)

هذه النّسبيّة التي تجلّى حضورها في رواية "تماسّ" منذ العنوان حيث تتشابك الحكايا والرّؤى والشّخوص فلا نظفر بيقين تماما كما تاه فكر الشّخصيّة محمود في الفصل الأخير منها فغادر المكان إلى لا مكان محدّد، كانت قد سكنت رباعيّات الإسكندريّة التي يقول عنها كاتبها لورانس داريل:"الرّواية هي رقصة رباعيّة الأبعاد، قصيدة نسبيّة، إنها الميتافيزيقا الشرقية والغربية تتقابلان في نقطة بشكل مثير للاهتمام، هذا لا يبدو معقولا بطريقة ما، ولكن مع ذلك فالمهندسين الرئيسيين لهذا التقابل كانا آينشتاين وفرويد. آينشتاين هاجم العالم وفرويد هاجم فكرة الأنا المستقرّة وبالتّالي بدأت الشّخصيّة تظهر".

وإنّه لعَمري ما يتجلّى من خلال تكليف الكاتبة عروسيّة النّالوتي في روايتها ذي "تماسّ" شخصيّتها زينب برواية زوايا من حكايتها في رواية منفصلة بعنوان مختلف "سراد لفلول الذّاكرة" تتماسّ مع حكايتها التي يرويها الرّاوي في "تماسّ" الأُسّ، فتتحرّر الشّخصيّة من مجرّد الفعل أحداثا إلى الفعل روايةً.

وكاتبتنا إذ تتماسّ روايتها ورباعيّات الإسكندريّة للكاتب البريطاني لورانس داريل تتفرّد في بيئتها الإبداعيّة التّونسيّة وتتحرّر من المناهج الأدبيّة السّائدة من واقعيّة أولى وواقعيّة جديدة وذهنيّة وجوديّة لكنّها لا تتمرّد على مبدإ التّفاعل بين القرائح من أجل إثراء المدوّنة الإبداعيّة الإنسانيّة، هذا التّفاعل الذي يقول عنه داريل نفسه:" الكتابة نفسها تجعلك تنمو، وأنت تنمّي الكتابة، وفي النّهاية تحصل على حسّ زئبقيّ يجعلك تستخدم كل شيء سرقته بحسّ شخصيّ مختلف وهو يخصّك، وبالتّالي يكون لديك القدرة على ردّ الدَّيْن بفائدة قليلة، وهذا هو الشّيء الشّريف الوحيد الذي على الكاتب فعله".

 

2/"تماسّ" متن متفرّد:

ألفنا أن نقرأ الرّواية ونتتبّع نسيجها اللّغويّ وبناءها العلائقيّ وسيْرُورَتها الحدثيّة ونسائلها لنظفر بدلالاتها، لكنّنا في الرّواية البذخة "تماسّ"للمبدعة عروسيّة النّالوتي، كما أسلفنا الوصف قبْلًا، نُلفي الكاتبة تَهِبُنا في منهج متفرّد دفق قريحة يبوح لنا بأسراره دون تعصّ ويُفصح لنا عمّ يثقل جراباته دون تمنّع، لذلك لا يغيب عن كلّ قارئ أن يدرك أنّها روايةٌ وعاءٌ حمّالٌ لشتّى صنوف القول والتي حصرتها في هذا المبحث في ما يلي:

*قول في السّياسة:

ركنت الكاتبة راحلةَ الحكايتين في "تماسّ" في الزاوية الزّمنيّة الخاصّة بحرب الخليج الأولى فما لاحقت أحداثها تترصّدها بعدسة حروفها فقط بل جعلت شخصيّاتها تتحاور حولها فتبوح زينب بمواقف المواطن العربيّ منها وهي تردّد:"حديث وأحداث واللّحم البشريّ يُصلى على نار موقدة "( ص23 )،ثمّ صادحة بحنق عميق على التّهاوى العربي قائلة:"لا ينفعنا اليوم مبدأ " تكاثروا تكاثروا " نسل واهن ضعيف لا يفلح إلاّ في أكل بعضه البعض حين يجوع " (ص47)

 

*قول في المجتمع :

كخبير في علم الإجتماع تقف الشّخصيّة "زينب " في الزّاوية متأمّلةً الوجودَ الإجتماعيّ للمواطن التّونسيّ خاصّة، والعربيّ عموما، ثمّ مدركة استنتاجا هو الأقربُ وصفًا إلى الحقيقة الإجتماعيّة وهي تقول:" إنّنا يا صلاح لم نمتط الزّمن لننتقل بسلام من عهد البداوة إلى  عهد المدنيّة. لقد انقذفنا في متاهة المعاصرة انقذافا على ظهورنا أكياس التّرحال وفي وجداننا مشاهد الصّحراء العربيّة، نحنّ –مازلنا – إلى ضرب الخيام في أرض اللّه الواسعة. وإن ضاقت بنا الأرض نضرب الخيام في المدينة ذاتها بل أصل بناياتها الإسمنتيّة. خيامنا على ظهورنا ونحن في عُقر المدن الجديدة لا ننوي الإقامة وإن أقمنا ".

وفي موضع آخر من الرّواية تتجاوز الكاتبة وصف المجتمع وتحليله إلى مجادلةِ مؤسّس على الاجتماع نفسه عبد الرّحمان بن خلدون على لسان بطلتها، دوما، زينب وهي تجعلها تقول:

"ماذا لوكان ابن خلدون قد أخطأ في عزْي نشأة الأمم وازدهارها إلى توتّر العصبيّة القبليّة؟ وماذا لو كان المحرّك الأساسيّ في الإنسان لتحقيق الفعل هوشدّة "الحسد" تتلوها شدّة "طمع" فشدّة "حقد"تنتهي ب"الشّماتة"" (ص82)

وفي موضع آخر تحاوره قائلة:"من أين لنا أن نُعمل العقل في النّقل... يا ابن خلدون ونحن بين عقول هاجرت وأخرى ارتدّت واستقالت والأخرى بين هذه وتلك ينهشها الألم لأنّها تفهم ولكن لا قدرة لها على هذا الجحيم "ص(50)، واضعة الملح على الجرح حتّى تنِزّ منه كلُّ تقيّحاته وتعلو صرخات وجع المجتمع المكتومةُ.

 

*قول في النّفس البشريّة :

عروسيّة النّالوتي روائيّة اختارت أن تكون الأنثى التي تكتب عن الأنثى عساها تكون إلى أغوار نفسها أقربَ ولترانيم روحها أفهمَ، وإن كان هذا  في حدّ ذاته تحرّرا من باتْريكيّة الكتابة التي كانت سائدة منذ انبثاق فن الرواية في الأدب العربيّ..

إلا أنّ كاتبتنا توغل في تحرّرها ذاك لتفتح في إحدى زوايا الرواية مجلسا يسبر أغوار نفس المرأة وشخصيّةُ زينب تبحر في حوار باطني قائلة:"في الحقيقة نحن لم نتغيّر كثيرا... مازلنا نحمل " نساء البيت" في تركيبة تفكيرنا... رغم تغيّر السّحنات والهيئات والمشاغل مُخَضْرَمات في كلّ شيء. في عواطفنا... في لباسنا... في تفكيرنا.. في هندسة بيوتنا وطرق تأثيثها... في علاقتاتنا بأجسادنا وأرواحنا... مشتّتات بين تيّار العصر وبين ما يعشّش في الداخل من قديم "العوائد" نتحرك في الشّوارع مُثقَلات النّفس بصناديق الماضي وحقائب الحاضر " (ص 78)

إنّه قول يكشف تحرّر الواقعيّة لدى عروسيّة النّالوتي من العَرض والوصف إلى التّحليل الفكريّ والتّفسير "السّوسيو-كولوجي" في حلّة لغويّة سرديّة لا تثقل الرّواية ولا تجنح بها عن الجمال والعذوبة المتفرّدين.

وهو كان قول قد سبقه تعريج طفيف على النّفس البشريّة عموما مرّة على لسان الرّاوي قائلا:"إثنان لا يعرفان الشّفقة ولا الرّحمة بالإنسان.. الحبّ وخلوّ القلب منه"(ص35)، ومرّة على لسان شخصيّة صلاح إذ يقول:"أهمّ شيء هو أن نلتقي نحن وقبل أيٍّ كان بأنفسنا عبر ما نقول ونصنع"(ص35)، كحكمة تقذف بها إلى القارئ عساها تكون منطلقا لتغيير ما اعوجّ من مسارات النّفوس..

وما اكتفت الكاتبة بذلك بل طوّعت وصف الطّبيعة للثّورة على نشاز سلوك الإنسان عن بهائها وهو يتعلّق بالألم والحزن كرضيع لا يشبع وضروع الكون بالبهجة مثقلة، فنجدها تقول:" كان مهرجان الألوان في الحديقة يقول إنّ السّعادة ممكنة وإنّ الجمال مبذول في سخاء... فأين العطب إذن؟ لمَ يستكثر البشر الفرحةَ على أنفسهم فيصرفون بقيّة الوقت في التّكفير عنها بجلد الذّات وتعطيل بهجتها وكأنّ حقيقة الإنسان الوحيدة هي كَدَرُه الصّميميّ الذي لا يداوِر".

هكذا.. في جمال تقديم وعذوبة لغة وروعة تطويع لمقوّمات فنّ الرّواية تلج بنا الكاتبة عروسيّة النّالوتي أغوار النّفس فتصفها وتحلّلها وتستنتج في أسلوب تقريريّ تارة واستفهاميّ إنكاريّ طورا مستفزّة فينا مَلَكة التّأمّل العقليّ لنفوسنا حتّى لا تعتم بعض زواياها اللّاواعية فينا أكثر فتزحف على وجودنا الواعي وتعقل أجنحة الأمل فيه وتعطّل مسار الفعل الإنسانيّ المائز في هذا الكون..

 

*قول في الهويّة:

ما غفلت الكاتبة المبدعة عروسيّة النّالوتي عن همّ حارق يشغل المواطن العربيّ المعاصر في روايتها تماسّ، هو همّ الوجل من تلاشي الهويّة وحيرته أمام اندثار ملامحها في التّبعيّة السّياسيّة لأحلام الغرب وطموحاته تفريطًا في أرضٍ وما فيها من عِرض.. فأفسحت له في مجلسها السّرديّ مقاما ووفّرت له من قِرى القول إداما، فنجدها تنطق شخصيّتها الأسّ زينبَ فتقول:"كيف تسقط منّا الهويّة هكذا دفعة واحدة؟ ! كأنْ لم يكن للإنسان دخل مرير في نحتها وصقل نتوءاتها وتعبئة فراغاتها المجحفة والوقوف على شكوكها وانتصاباتها في وجه الشّكّ والالتباس. كيف يضيع أمنه وتفرّ منه سكينته التي تربّت على يديه منذ إعلانه البدئيّ عن حلوله في هذه الدّنيا..."

إنّه قول منه تفوح رائحة الوجع وترمُّدِ الحلم في مجامر الحيرة والتّيهِ خلف أسئلة حارقة يضجّ بها الفكر وتنصهر في أتونها الرّوح، في فنّ روائيّ تحرّر من تصوير المعاناة عبر السّرد أو الوصف إلى جعل الحوار بها ناطقا صادحا فتفرّدَ إذ على التّقنين التّقليديّ لأحد أسس الرّواية تمرّدَ.

 

*قول في الكتابة:

هو ما يسمّيه النّقّاد "الكلام عن الكلام داخل الكلام". وهو منهج أسّس له الكاتب الرّوائيّ التّونسيّ فرج الحوار في روايته "البحر والموت والجرذ" في حركة تمرّد على كون الكتابة القصصيّة أو الرّوائيّة حقل اتّباع وتطبيق للشّروط النّقديّة فقط، وجعلها مجلسا للقول في فنّ الكتابة ذاتها..

وكاتبتنا المبدعة عروسيّة النّالوتي وإن تقفّت خطى مبدعنا فرج الحوار هذه إلّا أنّها نسجت منهجها الخاصّ في تحميل روايتها "تماسّ" فما جعلت الحوار حمّالا لذاك الكلام عن الكلام بل جعلته من رحم الحدث والوصف ينبجس والرّاوي يرصد حركات الشّخصيّة محمود وهو يقف مشدوها أمام كتاب زينب حسّان عبد الجبّار "سراد لفلول الذّاكرة" مصدوما بالتّقاطع  من حيث العنونةُ بينه وبين كتابه الشّعريّ "فلول الذّاكرة"، فيقول (أي الرّاوي):"كان يعرف أنّ للكتابة منطق آخر يجوّز لها أن تستلف وجها من هذا وسُحنة من ذاك وحكاية تُختَلَق من مجموع أوهام وأحلام واستيهامات تتقاطع مع نُتَف من حكايات النّاس مع النّاس وحكايات الكتّاب معها في نسق قد يُوهم بأنّها حدثت فعلا بذاك الشّكل دون غيره. ولكنّه يدري أيضا أنّ خلف النّصّ يكمن نصّ آخر، يُساوِق الأوّل ولا يُقرَأ إلّا من طرف صاحبه لأنّه نصّ لا يهمّ الآخرين"(ص122)

ما أروعَه تعريفا للكتابة وما أبلغه.. وما أروعه تفرّدا في تحرير النّصّ من استقراءات محكومة بقواعد علم النّقد وآليّات علم التّأويل ليرفرف دفق القرائح في زئبقيّة سامية خارج حدود كلّ محاصرة لمقاصده الدّفينة ودلالاته العميقة تدّعي الإدراك الفيصل لكلّ ما ينبض به النّصّ متجاهلة أنّه خَلْقُ كاتبه وهو الوحيد العليم بكلّ أسراره..

وإنّنا، ونحن نظفر من الرّاوي بهذا التّعريف للكتابة في الفصل الأخير من الرّواية، نتذكّر أنّنا في بدايتها قد اصطدمنا بتساؤلات عن كُنهها (أي الكتابة) قذفت بها الكاتبة إلينا على لسان شخصيّة صلاح وهو يقول:" ألا تكون الكلمة في آخر الأمرر هي التي صنعتنا وبعثتنا من سُبات طينة هشّة؟[....] هل نحن حقّا من خلق الكلمة..؟ أم تُرى هي التي شكّلت وجودنا فقالتنا؟"

فتبدو لنا نهاية الرّواية حمّالة لإجابة عن تلك الحيرة، حيرة الأديب المفكّر وهو يقف حائرا أمام مرآة قريحته يسائلها عن أسرار دفقها مأتًى وغاياتٍ، بنسيج سرديّ يجعل تماسّ الحكايتين مطيّة لإدراك ذاك الجواب المعرّف بالكتابة المُجلي لعتمة الحيرة، في منهج متفرّد لرواية لعلّها الوحيدة التي زخرت بكلّ هذا البذخ وتحرّرت من جمود السّرد الشّهرزاديّ للحكايات..

 

*قول في المرأة:

"تماسّ" هي رواية امرأة كتبتها امرأة(عروسيّة النّالوتي) تروي حكاية امرأة (زينب حسّان) تحبّر زوايا من حكايتها كامرأة أخرى تتماسّ معها دون أن تتماهيا(زينب عبد الجبّار.. ثلاث نساء يجتمعن في الأثر الأدبيّ هذا نسجًا وانتساجًا. فلا غَرْوَ أن يزخر بِقَوْل في المرأة تلجه الكاتبة من زاوية الابنة الرّافضة لشكل وجود أمّها، زوجةً، تائقةً إلى التّحرّر منه قائلةً:"لا أريد أن أكون شبيهة أمّي"(ص78)، بما للأمومة من معاني الانتماء، توقًا إلى التّحرّر من كلّ قيود تراها تكبّل مسيرتها في الوجود وهي التي تُضمر في نفسها إصرارها ،كتجلّ لإصرار الكثير من النّساء، على الظّفر بمنشودها قائلة في موضع سابق:"لابدّ لزينب عبد الجبّار أن تتحامل على نفسها، لابدّ أن تستمدّ من الخراب الذي يسكنها القدرة على الحبّ ! لا يمكن لهذا الخواء أن يتواصل"(ص64).. إنّه الرّغبة الجامحة في التّمرّد على الموجود تأسيسا لمنشود تمسي فيه المرأة المثقلة ذاكرتها بحِكَم عهود الاضطهاد القديمة المتجدّدة، مرفرفةَ نحو ذُرى أماني عهود قد تأتي لخّصها قولها:"أنا هي أنا: زينب عبد الجبّار حصيلة الهزائم القديمة التي كانت ولم أكن، ومشروع الأحلام المتوثّبة التي أعيش ولم ألمس".

كما فتحت الكاتبة في روايتها، من زاوية المثقّفة المُرهصَة بهموم الواقع، جرحا لا يني ينزف هو جرح المرأة المهمَّشَة المُضطَهَدة فتصفها وهي تفارق الحياة أبلغَ وصف قائلة:"جاءت الحياة طفلةً تسأل لماذا فلم يجبها أحد. وهاهي الان تفارقها وهي طفلة مضروبة في صميم طفولتها ترفع في وجه الدّنيا نفس السّؤال"(ص103)، لتدوّي "تماسّ" بصرخات وجع ملايين النّساء اللّاتي أتين إلى الحياة كَرْهًا ويعشنها قهرا وكَدَرا حتّى يغيّبَهنّ النّسيان، تونسيّا وعربيّا وإنسانيّا، رغم كلّ رماح المثقّفين التي تحاول أن تذبّ عنهنّ "تتّار" هذا الواقع..

وما غفلت مبدعتنا عروسيّة النّالوتي في أيقونتها الرّوائيّة "تماسّ" عن زاوية تطلّ منها على المرأة العاشقة، خارج مدار العرف والعادة والدّين، رجلا التقى بحوّائه وتزوّجها، فنكأت جراحها وكشفت خيبة نبضها الولِه وهي تردّد:"فكّرت زينب[...] أن تذهب إلى صلاحٍ.. أن تندسّ في حضنه، أن تبكي كلّ أوجاعها بين ذراعيه، أن ينفي بحرارة جسمه كلّ سمات الموت والوحشة التي سكنتها [...] لكنّها كانت تدري أنّه الآن ينام في حضن الزّوجة-الأمّ وغدا يستفيق ليحضن الابنة الحبيبة وأنّها لا تعدو أن تكون سوى حضن ثالث زائد عن الضّرورة الملحّة"(ص96).. وإن لم تكن ذي العاشقة خارج المباح تدري فهاهي كاتبتنا بروعة الحرف ودقّة الوصف وعمق التّعرية الموجعة تهبها منارة تحمي مركبها التّائه من صخور الواقع الشّرسة..

إنّنا ونحن نقرأ هذه الرّواية قراءة المسائل المتبصّر نقف مذهولين أمام غصونها المثقلة برُطب تفرّد متْنٍ عجيب يزخر بصنوف القول في ما لم نعهد الرّواية تقوله كما قيل كمّا وكيفًا في نزعة تحرّر لا تحمل تمرّدا وإن تضمّنت دعوة إليه وتوقا إلى حداثة مكتملة لا "خيام" فيها ولا "نساء البيت" ولا انصياع لغير تشكّلات دفق القريحة كبوّابة منفتحة على إبداع بلا حدود يثري المدوّنة الرّوائيّة العربيّة ويُسهم في عرض المشاكل وعلاجها..

 

2/ تماسّ نسيج لغويّ متحرّر:

منذ الفصل الأوّل من رواية "تماسّ"، بل منذ صفحاتها الأولى تأسرنا الدّهشة ونحن نُبحر في لغة شعريّة تنهل من الأبراخيليا الأرسطيّة والبيان القرآنيّ مفعمةً بالبلاغة عبِقَةً بالمجاز والاستعارات والتّكثيف بعيدا عن الإسهاب الذي نعهده في فنّ الرّواية، تحرّرا منه لكن دون إخلال بمقوّماته الأسّ، تفرّدا في نحت الخطى الإبداعيّة وتمرّدا على أحد ضوابط الكتابة التّقليديّة التي تمتدّ من الواقعيّة الأولى. فنحن نقرأ:"كان وهو يمرّر "الكريم" على ظهرها قد فاجأ أصابعه مرارا تتريّث في حركتها من حين لآخر وتتملّى العلامات الهاربة فتخترقه تيّارات قابضة، مبهمة، عنيفة... يتفصّد لها الجبين عرقا خفيفا... وينسى في دوّامة اللّحظة العاصفة أنّه على شاطئ ممتدّ وممتلئ بأعين تدور في محاجرها على الرّمل... ولكنّ الإعصار سرعان ما يمرّ ويعود السّطح ليغمر الأعماق فتستعيد الأصابع نشاطها العصريّ المتحضّر وكأنّ شيئا لم يحدث"(صص18-19)، فيسكننا انتشاء وطرب يذكّرني بقول أستاذنا الرّاحل عبد الرّحمان الكبلوطي في ملتقى الأدباء الشّبّان بالمرسى سنة1998 تفاعلا مع نصّ قصصيّ :" والله لولا خجل من العمر لرقصتُ طربا.."، ونتأمّل هذه الفقرة القصيرة فنجدها قد أوجزت وصفا وسردا قد تمتدّ الكتابة فيهما لصفحات لو تخلّصنا من التّكثيف وسمّينا الأشياء بمسمّياتها ورسمنا المشاهد بعناصرها الظّاهرة كما هي بكلّ دقّة وتفصيل، فنستسلم للذّة  سحر اللّغة ومنها نظلّ نستزيد.

ومبدعتنا تدرك أنّها بلغتها الشّعريّة هذه تفعل في قرّائها فعل السّحر فنجدها في صفحة لاحقة تُحمّل شخصيّة صلاح وعيَها بدهشتنا أمام هذا الجمال البيانيّ الفاتن فتجعله يقول:"من أين يأتي هذا السّحر السّاكن داخل الأجراس البعيدة-القريبة ولمَ توقظ فينا اللّغة ما عشناه وما لم نعشه وكأنّنا في يوم من الأيّام قد كُنّاه؟".

إنّه الوعي بمنهج الكتابة والإيمان به واعتناقه مذهبا أدبيّا قديمَ العهد طمرته ارتحالات الأدب لكنّه عاد ليتجدّد في قرائح تونسيّة رجاليّة مثل الرّاحل محمود المسعدي وفرج الحوار، لتحرّره الكاتنبة عروسيّة النّالوتي من الهيمنة الذّكوريّة فتتفرّد به قريحتها الرّوائيّة في الأدب النّسائيّ من بنات جيلها ممن عاصرنها كتابةً حتى لأأواخر القرن العشرين، جاعلةً القارئ وهو يتنقّل في خميلة بلاغتها الابراخيليّة وبيانها القرآنيّ من زهرة إلى أخرى ينتشي بالصّور ويثمل فلا يكفّ عن ترديد عباراتها مثل هذه التي تصف ضعف شخصيّة صلاح أمام وابل التّوق إلى زينب قائلة:"كان يحسّ الغصونَ تُدكّ... والجسور تتهاوى ومن ركام الحجارة تندفع أسراب الطّير الأبابيل بأجنحة من نار تضطرب في كلّ اتّجاه تقبض على مصارين الحشا وتدفع بمرجل الدّماء إلى الغليان والفوران"(ص41)

فهل لنا أمام تحرّر اللّغة هذا وتفرّده في رواية "تماسّ" ألّا نثمل ونستزيد ثمّ لا نكتفي منه..؟

إنّنا بعد هذا الكشف النّفيس نستطيع أن نفهم مقاصد الدّكتور يوسف الصّدّيق وهو يقدّم للرّواية "تماسّ" حيث نُلفيه يقول:"أوّل خصم تناديه كتابة عروسيّة النّالوتي لتصارعه هو ذلك الفَغْرُ الدّاحس الذي مازال قدرَ اللّسان العربيّ المبين، القاصمَ بين سماء النّصّ العربيّ المجيد العتيق وبين رَبْع خالٍ إلّا من واحات أشتات، حيث تيه النّصّ العربيّ اليوم بحثا عن ذاته وعن تعريف وافٍ لظمئه ومُقبل مَعينه"(مقدّمة تماس/دار الجنوب 1995)

 

الخاتمة:

أختم مبحثي هذا بما يستقبلنا في رواية "تماسّ"/ طبعة دار الجنوب1995 وهي المقولة التّالية: "لعلّ الكتابة ليست إلّا فعل رجولة حتّى وإن أنت على الأنوثة كتبتَ[....] فإذا رُمْتَ أن تتجنّب تبعات [هذا الطّرح] لك أن تُعلن أنّ لا فرق عندك بين الأنوثة والذّكورة سواء في الكتابة أو في غيرها من الأعمال"(جان فرنسوا ليوطار/أوائل وثنيّة صص213-214).

هي كلمات لا تساوي بين الرّجل والمرأة في الإبداع تتحدّاها المبدعة عروسيّة النّالوتي في روايتها "تماسّ" وفي نسقها الأدبيّ عامّة وهي تعلن التّحرّر من باتريكيّة الإبداع، وهي ووإن التزمت بالواقعيّة توسّلا باللّهجة العامّيّة وتحديد زمن تاريخيّ للأحداث هو حرب الخليج الأولى واستحضار اللغة الفرنسيّة وهي تنطق شخصيّة الزّوجة الفرنسيّة، فقد تمرّدت عليه بتحرير اللّغة من الإسهاب وامتطاء صهوة المنهج البلاغيّ المجازيّ المفرز تكثيفا، الدّافق بشعريّة السّرد التي تمثّل اليوم أُسّا من أسس القصّة القصيرة جدّا سليلة فنّ القصّ.

هو تفرّد بتمرّد لا يقطع مع الجذور لخّصته كاتبتنا بقولها في الرّواية:"أين الحدود بين تخوم الأجداد والأحفاد؟"(ص39)، في اعتراف موقن بأنّ غايتها أن تَسِمَ تحرّرها ذاك بالتّفرّد دون تمرّد جائر يجتثّ جذور السّائد الأدبيّ ويقطع معها..

إنّ المبدعة عروسيّة النّالوتي وهي تقول على لسان بطلة روايتها الجامحة زينب:"أنا هنا.. وجود وعلامة وهويّة أستند إلى يقيني كما تعلّمت الصّخور أن تستند إلى الجبال النّافية للهزيمة"، تُعلن وجودها الأدبيّ المتفرّد في سيرورة الأدب التّونسيّ متحرّرةً من من عقدة "احتكار الرّجال لبوادر الإبداع"، ومن قاعدة الواقعيّة "الرّواية إسهاب أو لا تكون"،ومن اعتقاد أدبيّ يفصل السّرد عن صنوف الفكر الأخرى، مرتقيةً بفنّ الرّواية إلى ذُرى الاتّساع لكلّ قول كما الأفق الرّحب تتعانق فيه الأرض والسّماء ويتماهى فيه البحر والفضاء ومنه تنبجس العتمة والضّياء..

إنّ تحرّر المرأة أدبيّا من خلال أدب عروسيّة النّالوتي متمثّلا في الرّواية "تماسّ" هو مشروع مشروع، فهو مشروع كتابة تعانق جمال اللّغة وتَسَعُ أكثر من موضوع وتتّسع لأكثر من حكاية، وإن تقلّص عدد الشّخصيّات والأمكنة والأزمنة، في قالب روائيّ تتعالق فيه المواضيع وتتماسّ الحكايات دون أن تتّخذ شكل الأطباق الصّينيّة تكون الواحدة للأخرى أُمًّا من رحمها تنبجس أو نَبعا منها تمتدّ ساقيةً أو جدولا.. وهو مشروع مشروعيّتُه مستمَدَّةٌ من أنّ الأدب كالبحر متجدّد دائما لا تظلّ في أعماقه إلّا الدّرر ولا يشمخ فيه إلّا المرجان ليزيداه نفاسةً، وهو متحرّر كالموج يظلّ هادرا ليلفظ الزَّبَد والعوالقَ ويعودَ إلى الأعماق بأنفاس وجود جديدة، وأنّ المبدع يحمل رسالة الخلق والتّجديد كما يقول لورانس داريل:" نحن جميعا، في كل عصر نحاول كفنّانين، نحارب ككتيبة عسكريّة على جبهة خارجيّة. الأفراد والشّخصيّات العابرة تكون أشياء عَرَضية بالنسبة للهجوم الكبير وما نفعله نحن الفنّانون هو محاولة لنجتمع في نوع من الاستعارة الكوزمولوجية في فترة الزّمن التي نعيشها. عندما يقوم الفنّان بذلك بشكل كامل ومرضي فهو يخلق أزمة الشّكل. الفنّانون يتبعونه فورا ويصبحون غير راضين على الأشكال الموجودة ويحاولون خلق أو اتباع الأشكال الجديدة"،وأنّ تحرّر المرأة التّونسيّة، سليلةَ علّيسةَ والكاهنةَ والجازيةَ الهلاليّةَ، دَأْبُه في الأدب كسائر المجالات الأخرى تفرّدٌ ينطوي على تمرّد، تفرّدُ منهج وتمرّد على واقع اجتماعيّ سائد تكابد فيه المرأة السّلطةَ الباتريكيّة منزليّا حيث الكلمةُ الفيصلُ للذّكر، وعاطفيّا حيث الحبّ إلى دائرة الزّواج أو لا يكون، وأدبيّا حيث مغامرةُ التّحرّر تجديدا وتغييرا مرهونة بمبادرة قرائح الذّكور كأنّ عمليّة الإبداع غزوةٌ يتزعّمها الرّجال بينما تظلّ النّساء حُرماتٍ خلف الخدور متواريةً..

أخيرا، ولا آخر للقول في هذا المبحث، هكذا تكلّمت عروسيّة النّالوتي في روايتها "تماسّ" فبنت رواية بهندسة متفرّدة عمّا اعتدنا، وأنطقت الشّخصيّات بغير ما ألفنا، وألبست السّرد كساء لغويّا غير ما عهدنا، وألقمتنا مَنًّا وسلوى اعتقدنا أنّهما من غير السّماء لا يتنزّلان إلينا، ونثرت في أواخر القرن العشرين بذورَ إبداع روائيّ تونسيّ في شعريّة السّرد يرفل وقد خِلْنا لِزَمن أنّ الشّعريّة لغير القصيد لا تلين ونحمد اللّه أنْ كان وهمًا ما خِلْنا، ووهبتنا روايةَ تنضح بهموم المرأة والمثقّف والعاشق والعربيّ، هويّةً ووجودا، والإنسانِ سيّدا للفعل لكنّه يظلّ يضرب في ثناياه على غير هدى..

الرّواية "تماسّ" أنموذج من أدب الكاتبة المبدعة عروسيّة النّالوتي المتفرّد ونموذج لحركة تحرّر أدبيّ نسائيّ في تونس بدأت باسقاتها تجود برُطَبها مع أواخر القرن الماضي سردا وشعرا. ولعلّي في هذا المجال أقف إجلالا لدفق قريحة الشّاعرة آمال موسى القائلة:"المرأة عندما تكتب تستعمل أدوات وتُضفي هندستها الخاصّة على معمار اللّغة"، الصّادحةِ بحلم التّحرّر والتّفرّد في آن بإنشادها:

لمَ لا أصبح سرّ الماء

لم لا أكون أنثاه

أنتظره في الجرّة

حتّى قدوم الصّيف..؟"

وإنّي أقول: لا تنتظري الصّيف شاعرتنا.. فذا ربيع إبداعنا أزهر وأثمر وتناثرت بذوره فينا في تحرّر يتوق إلى تفرّد لا يقطع مع مدوّنتنا الإبداعيّة وإن على بعض عُمُدها تمرّد.. إذ الإبداع تحرّرٌ من الثّبات مجاراةً لحركة الكون في خلق متجدّد وإضافة ثريّة مثرية أو لا يكون...

 

زهرة خصخوصي/تونس (جانفي 2017)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم