صحيفة المثقف

ساسيات في شخصية المدرس

تصدير: (وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته) .. ابن خلدون

حينما نجيل النظر في الموروث الفكري التربوي، قديمه وحديثه، عربيِّه وعجميِّه، تجد الحديثَ عن موقع ووظيفةِ المدرس/ المعلم (المربي) في العملية التعلمية التعليمية، منثورا في كل الأدبيات والمتون التربوية التي تُـنظر للفعل التربوي والممارسة الصفية. ذلك أنه (المدرس) يمثل العنصر البشري المتحكم في صيرورة الإعداد والبناء والتنشئة بين الطفل/ المتلقي والمنهاج التربوي. فهو وحدَه القادرُ إما أن يُعطي معنى للتعلمات والمكتسبات والمهارات ومنظومة القيم، أو أن يجعل منها صَفوانا عليه تراب لا يُثمر نفعا ولا فائدة ولا سلوكا. بل إن كيمبول وايلز Kimball Wiles جعلَ المدرسَ هو الذي يضخُّ الحياة في المنهج وينعشُه:" ... والمدرسُ، إلى حد كبير، هو المنهج، فإذا تحسنت عملية التدريس أصبح المنهج أكثر صلاحية، وحين تُعدَّلُ برامج المدرسين، لكي يتمكنوا من استخدام مواهبهم بطريقة أفضل، تتحسن طريقتهم في التدريس، ويزدادُ المنهجُ  خصباً ودسامةُ"[1]. وإذا تماهى وتناغم طرفا العملية التعلمية التعليمية المرسِلُ/ المدرس، والرسالة/ المنهجُ والبرنامج اكتمل ثالوث الهرم التربوي وأصبح المرسَلُ إليه/ المعني بالمخرجات والنتائج/ التلميذُ متفاعلا مستثمرا موظفا منتجا . وتلك هي أقصى مرامي التوجهات والاختيارات التي تهدف إليه كل منظومة تربوية طموحة.

ونقِرُّ بدءاً ضرورة اعتبار عدة عوامل متضافرة ومندمجة تساعدُ على تحسين العملية التربوية وتطوير فعاليتها وتجويد مخرجاتها، إلا أن العمود الفقري لكل هذه العوامل يبقى في الموارد البشرية على مستوى هيئة التدريس أو القيادة الإدارية التربوية، التي تنعكس ظلالها على مستوى تنشيطٍ أمثلَ للتعلمات المقررة وتفعيلٍ أليقَ جذابٍ لأنشطة الحياة المدرسية المندمجة والموازية.

 

1 ــ في التحصيل والتعليم:

أ ــ التحصيل : فُطِـر الخلق على الاجتماع المفضي للتعاون والتكامل وتلبية الحاجات الغريزية التي بقضائها تتساكن الكائنات وتتواصل وتحقق الاستمرارية الفطرية وفق قواعد جماعية تمثل قوانين تمثل سلطة ناظمة لحياة الجماعة وحقوقها وواجباتها. وفي ظل تفاعل دينامية الجماعة يبرز الحس التعلمي والهاجس التحصيلي لدى الإنسان للتمكن من آليات إدراك الكون ومحيطه والعيش عليه براحة وهناء، قال عبد الرحمن ابن خلدون (ت808هـ)  في باب (في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري):" وذلك أن الإنسان قد شاركَـتْه جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء وغير ذلك، وإنما تميز عنها بالفكرِ الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيِّئِ لذلك التعاون. وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى، والعمل به، واتباع صلاح أُخراه. فهو مفكرٌ في ذلك كله دائما... فيكون  الفكرُ راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى مَن سبقه بعلمٍ أو زاد عليه بمعرفةٍ أو إدراكٍ... فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك، فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيئ التعليمُ من هذا . فقد تبين بذلك أن العلم والتعليمَ طبيعي في البشر"[2] .

كانت البداية من الغراب الذي جاء بإذن الباري تعالى إلى ابن آدم قاتل أخيه" ليُرِيَهٌ كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ أخيهِ، قَالَ: يا وَيْلَـتى أعَجَزْتُ أنْ أَكونَ مِثْـلَ هذا الغُرابِ"[3] أي علما ومهارة وذكاء في تغطية وإقبار آثار الفعلة الشنيعة. فكانت الآية الكريمة دالةً على أن التعلم والبحث حاجةٌ طبيعية مهما كان مصدر الإفادة والتعليم والتلقين.

إلا أن هذا التحصيل المُزوَّدَ بآليةِ التفكيرِ يتم عبر مسارين أساسيين: تعليم موَجه، وتعليم غير موجَّه (تعلُّم بالفطرة والممارسة).

بالنسبة للأول فالمقصود به كل تخطيط تربوي لأنشطة وتعلمات مقررة رسمية تناسب الذكاء اللغوي والعمري سواء للصغار بيداغوجيا أو للكبار أندرغوجيا؛ فالتعلم مدى الحياة يتوخى إعداد الصغار لمستقبلهم، كما يروم أيضا تعديل مسار التعلمات للكبار واكتساب كفايات ومهارات حياتية وفق مقاربة أندرغوجية ناجعة تساهم في تيسير سبل العيش الكريم والتوافق مع المستجدات التي تطرأ على حياة الكبار ممن فاتتهم فرص التعلم في الصبا...

أما التعليمُ غير الموجَّهِ فيُقصَدُ به الإغماسُ العفوي (المقصود من قبل المعلمين) في الوسط والبيئة والمحيط قصد التفاعل مع الأحداث واستنتاج المعطيات والمعارف المختصة بالحدث التواصلي، بحيث يتعلم الصغيرُ بالفطرة والممارسة  اللغةَ والمعارفَ وقيمَ الجماعة وأسلوبَ المحاورة ونمط الاجتماع والتعايش في ارتباط بالسياق والقرينة والمواجهة والتغذية الراجعة. وعطفا على ما سبق لابن خلدون نجده قد وُفِّق إلى حد كبير في تبسيط معنى" التعليم غير الموجَّه" حين تحدث عن طريقة اكتساب الطفل العربي اللغة، حيث قال:" فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطبتهم؛ وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبيُّ استعمالَ المفردات في معانيها...ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيّرت الألسن واللّغات من جيل إلى جيل وتعلّــمها العجم والأطفال. وهذا هو معنى ما تقُوله العامّة من أنّ اللّغة للعرب بالطّبع أي بالملكة الأولى الّتي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم"[4]

إن التحصيل والتعلم، إذن،  في مراحل التلقي يترنحان عبر مسارين تعلُّمِيَيْن متوازيين ومندمجين يُسْهمان معا في بناء الكفايات التي تُسعف المتعلم على حل المسائل البسيطة ومواجهة الوضعيات المعيشية المركبة .

ب ــ التعليم وشخصية المدرس: يتداخل فعلُ التعليم مع عملية التحصيل والتعلُّم؛ إلا أنه (التعليم) مرتبطٌ أساسا بشخصية المدرس/ الفاعل المركزي في العملية التعليمية التعلمية باعتباره راشدا متحكما في تنزيل مبادئ التربية والأسس البيداغوجية وديداكتيك المواد إبَّان الفعل والممارسة الصفية.

وحلَّقَ ابنُ منظور صاحبُ لسان العرب بمدلول التعليم إلى حدِّ معنى الإتقان حينما قال في مادة (ع ل م):" وعلِمَ الأمر وتَعَلَّمَهُ: أتقنَه. وتقول علِم وفَقِهَ أي تعلَّم وتفقَّه..."[5] ؛ ومنه كتاب أبي بكر أحمد الخطيب البغدادي (ت462هـ) الذي وسمه ب" الفقيه والمتفقِّه" في سِفرين، وهما مصطلحان متداولان باطراد في التراث العربي يعنيان المعلمَ والمتعلمَ. ولن يتسنَّى تحقيقُ الإتقانِ والتملكِ الجيدِ عند المتعلمين إلا إذا كان المدرسُ متملكا لأدبيات هذا الفن الصعب بلغة غوستاف لوبون ومتحكما في الكفايات المهنية ومتشبعا  بالقيم والمبادئ.

يقول غوستاف لوبون:" ويُعَّرفُ الأساتذة بالأشخاص الذين يُعلِّمون، فيجب أن يعرفوا كيف يُعلمون، بيد أنَّ التربية التي اتفـَـقَتْ لهم لم تُعلِّمهم هذا الفن الصعب قطُّ، وإن كانوا يَعْلمون أمورا كثيرة على ظهر القلب، لم تجدْ غير القليل منهم مَنْ يقدرُ على تعليم أمرٍ منها... ويَعْرِفُ هؤلاء الأساتذة كلَّ شيء خلا مهنتَهم، خلا الناحيةَ العمليةَ في مهنتهم، وليس الأمرُ كلُّهُ حشوَ أدمغة الشبان بسلعة من المسائل من غير أن تطلعهم على عِللِ الأشياء... فالحقُّ أن المناهجَ الجامعية لا تجعلُ من الأستاذ غيرَ فارسِ بيانٍ دقيقٍ، لا مربيا، فهي تُحدثُ فيه مزاجا نفسيا فاسدا إلى الغاية"[6].

مصطلح "التعليم" إذن مرتبط بالكيف أكثر مما هو مرتبط بالكم (الشحن المعرفي)، إنه وصفٌ لفعل تربوي منظم يقوم به الشخص المنتصب لهذه العملية المعقدة التي تحتاج إلى معارفَ وقدراتٍ ومهاراتٍ دقيقة، تسمح له بالقدرة على التخطيط والتنشيط والتقويم ومعالجة التعثرات وتدعيم منظومة القيم. وهكذا تصبح للتعلمات معنى عند المتعلم ويحصل التفاعل الإيجابي ويحدث التحصيل والتغيير وتتطور الملامح وتتناسق إيقاعات النمو ...

إن التقويماتِ المتعددةَ لمخرجات المنظومة التربوية، على تفاوت واختلاف بسيط بين الدول العربية، تؤشر بأسفٍ على تراجع مهول مخيف في مستوى التحصيل الدراسي وامتلاك الكفايات الأساس، ولاشك أنه مُخرَجٌ تربوي مرتبط بجملة من العوامل البيداغوجية والشروط السوسيوثقافية والثورة الرقمية. إلا أن عامل الموارد البشرية يبقى ضمن هذه المتغيرات المهمة، قطبَ رحى هذه العوامل وعمادَها الذي تتساندُ كل العوامل وتتوفرُ من أجل أن يستثمرها هو (المدرس) بالأساس ويضخ فيها الحياة على الوجه الأمثل، أو لا قدر الله يُميتها ويقتلها رتابة وضعفا بل وكُرها للمادة بخاصة وللحياة المدرسية بعامة.

يُشَبِّه سعيد مندريس عملَ المدرس بالمزارع، إلا أنهما يختلفان في جني الثمرة؛" فعملُ المدرس يشبه عمل المزارع الذي يغرس البذور، ولكنه يغرسها ويمضي دون أن يجنيَ هو تحديدا ما زرع، فحصادُه هو نتاجٌ للكل..."[7]، ودقيقٌ تخصيص التشبيه بالمزارع لما يكتنف شخصية هذا الأخير من معاني الصبر والتضحية والجَلَد والرعاية والمتابعة والتدقيق وتوفير العُدَّة قبل وأثناء وبعد عمليات الزراعة والتعامل مع التربة. إن التعليم إذن حرفةٌ ٌوصنعةٌ يجب أن تُسندَ للمَهرة من الخريجين الذين استفادوا من تكوين أساس متين، يؤهلهم لتنشيط التعلمات وفق مقاربات بيداغوجية فعالة. فما هي الأساسيات الضرورية في شخصية المدرس؟

يمكن أن نجعل هذه الأساسيات، التي نراها محوريةً في الانتفاع بوجوده والجودة في تدريسه والتأثير في محيطه، تتوزع ثلاثة أقطاب وهي على الترتيب التالي: قطب التخصص، وقطب التواصل، وقطب القيم.

 

2  - ضبط مادة التخصص: التحكم في المحتوى العلمي للمادة المُدَرَسَة

تُشكل مرحلة التكوين الجامعي بالنسبة للطالب الحلقة الأساسية في بناء المعرفة المنتمية لتخصصٍ أو مسلكٍ محدد، بعدما يكون قد تلقى دروسه في الثانوي التاهيلي في مواد متنوعة وفنون مختلفة. وتتميز المرحلة الجامعية باستواءِ الشخصية والانتسابِ الاختياري للمسلك الجامعي الذي يميل إليه الطالب، وقدرتِه على تنويع مصادر تلقي المعرفة التخصصية؛ واستثمارِ التكوين الذاتي الذي يلعب دورا مهما في ضبط أشتات العلوم المقررة وتثبيت المعارف وتمتين البناء المعرفي والقيمي لشخصية الطالب. وكلُّ تهاون وتقاعس يحصل في هذه المرحلة الدراسية الحساسة ينعكس سلبا على درجة الاكتساب والتحكم في  المادة، قواعدَ وأصولا ومفاهيمَ وتطبيقاتٍ ومهاراتٍ. إذ لا يتصور نجاحُ أي عملية تعليمية تعلمية في غياب تحكمٍ في أبجديات المادة المُدرسة وتعمق في المحتوى، وسيكون ذلك ضرب ٌمن العبث لا محالةَ.

إن أول أُسٍّ في معالمِ شخصية المدرس هو التحكم في المعارف الأساسية للمادة المُدرَّسةِ، بحيث لا يُقبل أي تعثر أو جهلٍ بالقواعد البسيطة والأولية التي تُعتبر عمادَ المقررات ومُدخلَ المعارفِ المرتبطة بالتخصص. وهو ما يمكن أن نجد له معنى في المقالة الخلدونية " في أن الصنائع لا بد لها من العلم". إن أي حِرفة كانت تحتاج لبنية معرفية نظرية تؤسس لبناء المهارة وحذق الصنعة والفن؛ فكيف بحرفة التدريس التي تعتني ببناء العقول وصناعة رجل الغد. ويُقصد بالمادة العلمية المعلومات التي تشكل نواة الدروس، والتي تصبو إلى تحقيقها الأهداف التعليمية المقررة، ويجب "أن تتناسب من الناحية الكمية مع مستوى التلاميذ الزمني والعقلي، وأن يقتصر المعلم حين إعدادها على المعلومات الأساسية دون التعرض للمعلومات الثانوية، وأن تكون مرنة بحيث تراعي الفروق الفردية بين التلاميذ وتُغطي أغلب القدرات"[8]

ويعتبر الكتاب الأبيض الإطار المرجعي الرسمي للمدرسين بخصوص تنظيم المحتويات المقررة في كل سنة دراسية والارتباط المحبك في تدرجها وتركيبها. وتضم دفتا الكتاب المدرسي العُدةَ المعرفية المنظمة التي تشكل التعاقدَ المبدئي والمَوْثقَ الرسمي الذي يجب الوفاء به، تحقيقا لمبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص بين الناشئة المغربية في كل الجهات. تقول الدكتورة أفنان نظير دروزه:" فالكتاب المدرسي المقرر كأحد عناصر المنهاج يجب أن يكون منظما في أفكاره، ومعلوماته، ومتسلسلا في مادته وأجزائه، بحيث يؤدي الدرس الأول إلى الثاني، والوحدة الأولى إلى الوحدة الثانية، والفصل الأول إلى الفصل الثاني، والصف الأول إلى الصف الثاني، وهكذا...إلى أن يتحقق الهدف المرغوبُ. وأن يكون غنيا بالمنشطات العقلية التي تساعد الطالب على التعلم. فالتنظيم هو الذي يؤدي إلى تحقيق الأهداف التعليمية التعلمية بأقصر وقت وجهد وتكلفة ٍ ممكنة"[9]. إن التحكم في المحتوى العلمي للمادة من لدن المدرس يجعله قادرا على هندسة تخطيطٍ للتعلمات وتجزيئِ المضامين التي تشكل وحدة واحدة، وتوزيعِها على حصص من أجل إرسائها لبنة لبنة؛ ومن ثمَّ برمجة تقويماتٍ تقيسُ نسبةَ الاكتساب ونوعية التعثرات ودرجتها. وعن طريقة تنظيم المحتوى المعرفي للدرس وكيفية تنشيطه يقول معروف زريق:" أما من جهة علاقة الطريقةِ بالمادة العلمية فيجب أن تقوم الطريقة بتوضيح الموضوع وشرحه للتلاميذ بشكل يجعلهم يفهمون ما ورد فيه من معلومات، ويقتنعون بها، ويتمثلونها بشكل قوي لتصبح فيما بعد جزءا من كيانهم وتساهم في بناء شخصياتهم، وذلك بأن تقوم الطريقة بتقسيم معلومات الدرس إلى مراحل متماسكة، كل مرحلة منها هي نتيجة للمرحلة السابقة ومقدمة للمرحلة اللاحقة... ويجب أن يكون انتقال الطريقة من عنصر لآخر ومن فكرة لأخرى بشكل طبيعي لا تكلف فيه ولا تعنت، وهذا من شأنه أن يجعل التلاميذ يصلون بأنفسهم إلى موضوع الدرس بشكل طبيعي تلقائي دون أن يفرضه المعلم عليهم فرضا"[10] .

إنني دائما أركز أثناء أداء مهامي في تكوين الأساتذة على قضية أراها محورية في شخص المدرس المبتدئ، وتتعلق بضرورة إعادة البحث والتدقيق في المحتوى المدرَّس مصطلحا ومضمونا، لأنني لاحظت أن الطالب الأستاذ حينما أتعمد سؤاله عن مصطلح في مادة التخصص يبدو بدهيا (النحو مثلا)، ويعتبر ضبطُ مدلوله مفتاحَ القاعدة ومستلزماتها، فإن الإجابة الدقيقة تكاد تكون منعدمة؛ ف" لا النافية للجنس" مثلا لا يُدرك المقصود منها فكيف سييسر الفهم والتمثل عند المتعلم وهو نفسه لا يعي أنها تتعلق ب"لا" التي تنفي الخبر عن جوهر وكينونة ونوعية ومادة اسم لا، وهو المقصود بمصطلح الجنس هنا. والدروس اللغوية، تركيبا وصرفا وإملاءً[11]، مليئة بالمصطلحات التي لها جذور مادية محسوسة يسهل على المتعلم فهمها إذا استطاع المدرس أن يقوم بهذا الربط بين الحمولة المعيشية المحسوسة والحمولة النحوية المجردة. فالفعل" الأجوف" هوما اعتل وسطه، والجوف هو وسط الإنسان أي بطنه ، والناقص هو ما اعتل آخره، أي أصابته علة في طَرَفه فهو ناقص غير مكتمل، والعلة لغة المرض والسقم وبالتالي حروف العلة (و ا ي) هي حروف غير صحيحة أي معتلة (مريضة)، والأمثلة مطردة؛ فلو اشتغل المدرسون بتقريب المجردات بألوان من المحسوسات التي يتمثلها المتعلمون لأصبح للقواعد وكل المادة العلمية المقدمة معنى وتمثلٌ ييسر الفهم والتطبيق والتوظيف وحسن الاستثمار.  وكلما تعود المدرسون حصرَ المصطلحات العلمية في سياقها التخصصي دونما توسل بمرجعيات الجذر اللغوي أو المحيط المباشر المرتبط بفهومات محسوسة واضحة في مخيلة الناشئة بقيت التعلماتُ نمطيةٌ تُحفظ حفظا ليُعاد إنتاجها في تطبيقات وفروض سرعان ما يتخلص من حِملها الطلاب في أسرع وقت؛ ومن ثمة نؤدي ثمن التردي في النهاية، يقول  معروف زريق:" إن المادة العلمية يجب أن تكون صحيحة بعيدة الأوهام والأخطاء والمغالطات، وقد تكون في بعض الأحيان مملة أو جافة، ولكن اختيار المعلم لعناصرها بدقة، وبلورة أفكارها، وتنظيم ذلك في إطار فكري شامل، يخلع عليها الحياة و الجدة والتشويق"[12] .

ولابد للمدرس الذي تصبو إليه مدرسة الغد أن يكون قادرا على تطوير معارفه وفروع تخصصه ، متسلحا بالمعرفة البحثية الرقمية التي تيسر  تقريب المادة العلمية التي كانت في وقت من الأوقات تحتاج إلى محفظة ثقيلة من الأسفار يصعب استصحابها للفصل الدراسي. ويسمح هذا التمكن الرقمي في طرق البحث وأساليبه من نقله إلى طلابه لكي يتدربوا على تنويع مصادر المعرفة واستبيان تفاصيلها وتجديدها بفرص متعددة وطرق مختلفة؛ إذ لم يعد مقبولا حَجْرُ المعارف على المصدر الوحيد والأوحد الأستاذ، أو الاكتفاء بمطبوعه الذي يوزعه على طلبته بلغة قد لا تكون مُبينة وإخلال قد لا يكون مقصودا. بل إن مستجدات العصر وشروط التحديث وتطوير الوعي الديمقراطي و الحقوقي ولَّدَ "مجتمع المعرفة" الذي يؤمن بالحق في المعلومة ومصادرها بل ومجانيتها ؛ ولا يعترف بحدود لها قصد إحداث التنمية الشاملة دونما فوارق واعتبارات بين البشر. وقد أكدت وثيقة " استراتيجيا 2030 للتربية والتكوين بالمغرب" التي أصدرتها جمعية أماكن على جملة من هذه الحقائق والمعاني، من بينها: "إن الموقع المحوري للمدرس لم يتغير، رغم التحولات الناتجة عن تحديات مجتمع المعرفة ورهانات مدرسة المستقبل ومستجدات التكنولوجيا الحديثة، إنما الذي تغير هو أدواره التقليدية المتمثلة في احتكاره للمعرفة وللسلطة التربوية. فالمدرس لم يعد هو المصدر الوحيد للمعرفة، كما أنه لم يعد القناة الوحيدة لنقلها. بل أصبح ميسراً ومنشطاً وداعماً ومرافقاً للتلاميذ في تعلماتهم"[13].

وأخيرا إن ضبط مادة التخصص إذا صاحبه تدريس ماهر، لاشك  سينعكس إيجابا على نتائج التقويمات ومستوى التحصيل الدراسي ودرجة تملك الكفايات، وعلى هذا الاعتبار جعلناه في طليعة الأساسيات في شخصية المدرس الكفء.

 

3 ــ التواصل البيداغوجي: امتلاك مهارات تواصلية ناجعة

أ ــ مدخل تواصلي: قبل أن تُشكِّل جماعة القسم مجموعة من المتعلمين (في مرحلة الطفولة أو المراهقة) يتقاسمون مستوى دراسيا معينا داخل الفصل الواحد، قد يقلُّ عددهم أو يكثر لحد الاكتظاظ؛ فإنها تُشكل تجمعا إنسانيا تتحرك داخله جملةٌ من  التفاعلات والتبادلات التي تضفي صبغة  الدينامية على الجماعة. ويأتي الوعي بالعملية التواصلية في شقيها الإنساني والبيداغوجي متمما للأساس الأول (التحكم في المادة العلمية) ومتناغما معه، فتقديم المعلومات وتنشيط التعلمات يتم عبر التلبس بفعل تواصلي محض  يوظف مهاراتٍ لغويةً وسيميائية وحركية و حياتية مختلفة بغية بناء الفهم عند المتعلمين وتحقيق الأهداف التعلمية الخاصة بالحصص، في غير ما تنفير ولا ملل ولا رتابة.

ومن هنا تتجلى مكانة وأهمية امتلاك المهارات التواصلية بالنسبة للمدرس. إن التواصل بعامة والبيداغوجي بخاصة من أهم الكفايات المهنية التي يجب بناؤها في الشخصية المهنية للمدرس؛ لأن كل الأنشطة التعلمية تتم في وضعية تواصلية في مختلف الأسلاك الدراسية، وبالتالي يجب استثمار كل العوامل والقواسم المشتركة وقواعد الجماعة ووضعيات الجلوس الصفية واللغة المستعملة من أجل أن يُبنى الفهم بناءً صحيحا. فالتواصُلُ كما عرَّفه جون روبرت فيرت(1968) هو" نقلُ الأفكار من عقل إلى آخر بفضل المعرفة المشتركة لشفرة لغوية معينة... وأنه يستدعي الاستيعاب المتبادل ــ حسب كل مستوى وحسب كل مرحلة ــ ضمن سلسلة معلنة من السياقات في المواقف"[14]. وعليه فالعملية التدريسية عملية تواصلية تفاعلية تبادلية بامتياز، تحتاج إلى كفايات تواصلية فعالة تنتقل بالحجرة الدراسية من التعلم التقليدي إلى ورشة من التعلم التشاركي؛ يمنح الثقة في نفوس المتعلمين ليزدادوا تفاعلا وإيجابية تجاه التعلمات ومختلف أنواع الأنشطة. ويمكن أن نحيل في هذا السياق على ما نراه من أهم المهارات التي يجب على المدرس أن يتقنها ويتوسل بها أثناء الممارسة الصفية بالخصوص.

 

ب ــ المقاربة الإنسانية :

يعتمد التدريس على مقاربات بيداغوجية متنوعة، إلا أن إدخال عنصرَيْ السعادة والإمتاع اللذين تحدثت عنهما نل نورينجز في كتابها " السعادة والتربية: تعليم بلا دموع"[15]، يعتمد أساسا على المقاربة الإنسانية في التدريس والتنشئة، ونعني بها اعتبار كينونة التلميذ في شِقها الاجتماعي وجانبها الإنساني وبناءِ التواصل البيداغوجي على أساسها. وحينما ينخرط المدرسون في المهنة بهذه الفلسفة التربوية والقناعة المحورية في العملية التدريسية تنمحي بالضرورة كل معالم الفوارق الطبقية داخل الصف، ويُدبَّر إيقاع التعلم حسب التعدد الذكائي والفارقية المراعية لخصوصية النمو والانتماء الاجتماعي والشروط المحيطة بالفرد دونما إقصاء أو تمييز يكرس الإحباط وتعميق جراحات كامنة. إن الفصل الدراسي عموما وفي كل بقاع العالم عبارة عن تجمع فئوي لعينة عمرية محددة، يُعتبَرُ عاملا السن والانتقال من صف لصف هما المعيارين لتشكيل هذه المجموعة؛ وبالتالي تتواجد داخل هذه الفئة روافد أخرى تُشكل نوعية كل فرد فرد داخلَ هذا الكل، ثقافية و دينية كما الحال في الغرب، وطبقية وغيرها مما يُفترضُ تواجده بحكم الحق للجميع في التمدرس، بل حتى بعض ذوي العاهات من غير ذوي الاحتياجات الخاصة (التي تُخصص لها أقسام مدمجة خاصة)... كلُّ هذه الشرائح تتواجد داخل فصلٍ واحد يُؤطر أنشطتها أستاذ واحد على الأقل داخل حصته أو مادة تخصصه، مما يجعل المقاربة الإنسانية ضرورةً تربويةً أساسيةً تُوجِّهُ الحركة ولغة المحاورة وأساليب التخاطب ونوعية الاهتمام ودقة المتابعة وتعدد الأنشطة. تقول  نل نودينجز:"  أحد مظاهر السعادة في المدرسة هي موازنة الاحتياجات المستنبطة والمعبرَّ عنها ومحاولة التوفيق بينها. يُنصِتُ الأطفال للمدرسين الذين يُبدون الاهتمام بهم ورعايتهم، وتقتضي الرعايةُ والاهتمامُ الاستجابةَ إلى الاحتياجات المُعبَّر عنها لمن نرعاهم... ــ وحينما تغيب المقاربة الإنسانية في العملية التربوية يصبح التعليم ــ[16] بالمدارس العامة ماهو إلا حماقات لا تعني النشء في شيء. والدروس الحقيقية التي يتعلمها الأطفالُ هي أن التعليمَ بغيضٌ، والكتبَ تعيسةٌ. يتعلمون أن عليهم أن يكدحوا لتعلم الحساب وأن يُجبروا على إجابة أسئلة الآخرين بدلا من أن يجيبَ أحدٌ عن أسئلتهم. يتعلمون المسافة الشاسعة التي تفصلهم عن مدرسيهم. وأيضا تفصلُ بيم ما يتعلمونه في المدرسة وأي شيء ذي معنى في حياتهم"[17] .

 

ج ــ مهارة الإنصات:

يعتبرُ الإنصات من أهم المهارات التي تؤدي دورا مهما في العملية التواصلية الفعالة، والإنصات أعمُّ وأدق من الاستماع؛ فهو يُنْبِئُ المتحدثَ أن المستمع متفرغٌ كل التفرغ لموضوع الكلام ومهتم بما يقوله، مما يضفي حميمية على الخطاب ويُيسر فهم مقصدية كلام المتحدث دونما لَبْس ولا تأويل، خاصة أن الأنشطة التعليمية  تحتاج إلى إنصات جيد لفهم التعليمات وضبط المصطلحات والمفاهيم وإنجاز المَهَمَّات. ويمثل الإنصاتُ قيمةً من القيم الثقافية الأساسية عند العرب مند القدم، يتجلى ذلك في محاوراتهم وطرق مناظراتهم وتفاوضاتهم. وتحكي كتبُ السيرة والحديث الشريف وضعية تواصلية حجاجية يوظف فيها كل طرف وسائل إقناعه، وطرفا الحوار هنا نبي مرسل ورجلٌ من سادة قومه مشرك، ويبقى أدبُ التخاطبِ وحسنُ الإنصاتِ للمخالفِ قيمةً مشتركة أساسية تؤرخ لأدب المجالس في البيئة العربية الإسلامية. جاء في الأثر:" ”جاء عتبةُ بن ربيعة رسول الله (ص) يساومه دعوته ودينه، فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت... ومضى في كلامه طويلا، والنبي يسمع وينصت له ، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم؛  قال: فاستمع مني ...“[18].

إن الاستماع في التواصل اللفظي المباشر (القسم مثلا) مسلك مهاراتيٌ كلما استُعمِل بطريقة واعية مع الرؤية المباشرة والمواجَهة المتابِعة للحركة والإشارة المقيِّدة للغة الخطاب حَقَّقت اللغة مرتبة عالية في إبلاغ المعنى المجرد المنقول والمقصود مِن قِبَل المتحدث. يقول الخبير في التنمية البشرية إيريك جنسن:" يعدُّ الاستماع الفعال مهارة يجب أن تنميها كمحاضر أو معلم. إن الاستماع يعني أن تلتزم بفهم واقع الطرف الآخر... ويجب أن يتفق كل شخص في أن الاستماع النشط يتطلب الالتزام بمتطلبات الاستماع وتنميتها. وهذا يعني أكثر من مجرد توجيه العين والأذن جهة المتحدث؛ لأنه يتطلب انتباهك الكامل للمتحدث، أي الاستماع الجيد لكل ما يقال"[19]. والمدرسة من أهم الفضاءات التي تنمي في المتعلمين تربية مهارة الإنصات والاستماع لأنواع مختلفة من فنون القول؛ تهيئةً لهم لاستيعاب سياقات تواصلية سيحتاجونها خارج اسوار المدرسة، لأجل ذلك وجب الاعتناء بالتدريب على  الإنصات وتطويره لدى المتعلمين قصد اقتناص فرص التواصل اللغوي الخارجي والتدريب على سرعة التقاط المعاني والفهم الدقيق للنص الخبري أو الإنشائي.

 

د ــ مهارة التحدث:

يمكن أن نعتبر أن فصاحة القول وحسن أدائه من العوامل الرئيسة في نجاح العملية التواصلية، وعطفا على المهارة السابقة،  فإن مهارة الإلقاء والتحدث تشكل الوعاءَ الصوتي ذا الحمولة الدلالية المشفرة التي تمر عبر قناة/ حاسة السمع لفك الشفرة وتسريعِ تَمثُّـلِ المعنى. فالأداء الصوتي مرتبطٌ ارتباط وثيقا بحاسة السمع؛ فالعملية تبادلية بين اثنين أو أكثر، وإلا فمن العبثِ والبَلَه أن يكون هناك قولٌ من عاقلٍ دون منصت[20]. على أن هذا الأداء الصوتي يجب أن يكون بموصفات محددة لكي يؤدي دوره التواصلي، ومن هنا نفهم جليا الهاجسَ الذي سكن النبيَّ موسى عليه السلام لما أُمِر بإبلاغ الرسالة لفرعون زمانئذ. لقد كان الهاجسُ هو إحساسَه بالتعثر الأدائي على مستوى الصوت وفصاحة البيان مع ثقة ويقين في الرسالة والوحي، من أجل ذلك دعا ربَّه جل جلاله قائلا:" وأخي هارون هو أفصح مني لسانا "[21] ، وفي آية أخرى:" واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي"[22].

إن إتقان مهارة الأداء والتحدث من لدن الأستاذ في بيئة استماعية آمنة يُيسر على أذن التلميذ سرعة الالتقاط والتحويل؛ المفضي إلى نتائج فائقة في الفهم والتفاهم. لذلك أكد الأستاذ محمد عبد الحميد أبو العزم(1952) على مدرسي اللغات خصوصا بالحرص على الاهتمام بما سماه" الأداء الصوتي" للأسناد المكتوبة أو الشفوية التي تصقل حاسة السمع وتُـفعل وظيفتها لترجمة الصوت/ الدال، إلى المعنى/ المدلول في ذهنية الطالب؛ يقول:" وإذا كنا نحرص على الاضطلاع بالأداء الصوتي وعلى استماع الأطفال والصبية والتلاميذ إلى من يضطلع أمامهم بهذا الأداء في دروس القراءة وأوقاتها، كما نحرص على الأحاديث وسرد القصص، فيجب أن نضع أمام أعيننا الغرض الرئيسي الأساسي من الاضطلاع بالأداء الجهري في حصص القراءة وأوقاتها، وهو اضطلاع آذان الأطفال والصبية والتلاميذ واضطلاع عقولهم بعمليات القراءة بالأذن ومهاراتها وما يترتب عليها ويتصل بها من العمليات والمهارات، وتدريب آذانهم وعقولهم على السرعة والدقة في الاضطلاع بهذه العمليات والمهارات حتى تصل إلى أبعد مدى مستطاع. ويجب أن نعمل على تحقيق هذا الغرض باصطناع ما يلائمه من الوسائل والطرق، سواء منها ما يتصل بموضوعات الأداء الجهري وما يتصل بنظام الأداء وما يتصل بأنماط المسلك اللغوي التي تحدث أثناء استماع الأطفال والصبية والتلاميذ وبعد استماعهم إليه وما يتصل بأحوال هؤلاء السامعين."[23]

وبهذا الوعي التواصلي المهني الدقيق يتمهَّـرُ الأستاذُ في التحكم في صوته وضبط  إيقاعه حسب السياقِ والتموقعِ والزمنِ التعلمي (بداية الدرس/وسطه/ختامه) والفئةِ المستهدفة وعددِها والعلمِ المدروس. وكل اختلال أدائي من قِبَل المدرسِ في هذا الجانب يكون مصدرا مباشرا للشرود وعدم الاهتمام بل يصبح لونا من ألوان الضجيج المشوشة على الاكتساب والتواصل والتفاعل التي لا يدَ للتلميذ فيها. ويرتبط بالأداء الصوتي ارتباطا وثيقا المعجم الوظيفي للغة التواصل البيداغوجي الذي يراعي المرحلة وخصوصية المادة واستثمار المقاربة بالممرات اللغوية التي تُسهل الفهم والإدراك.

ــ تمثلُ القيم : القدوة واستحضار المنظومة القيمية

الأساس الثالث الذي نعتبره محوريا في شخصية المدرس اعتبارُ الجانب القيمي ثمرةً من ثمرات الانتفاع من التحصيل العلمي والدراسة الجامعية والتأهيل للمهننة؛ فالأستاذ قبل يمتلك المعارف ويتمهر في التواصل البيداغوجي يجب أن تكون شخصيته متشبعة بالقيم وأخلاقيات المهنة. قال أبو محمد علي ابن حزم(ت 456هـ):" واعلم أن كثيرا من أهل الحرص على العلم يَجِدُّون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب، ثم لا يُرزقون منه حظا. فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه"[24] . إن العِبرة يثمرة العلم وتجلياته، وأهم تَجَلٍّ الانعكاسُ القيمي على المتلبِّس بالعلم والمعرفة. فبدون القيم لا يكون الإنسان إنسانا، فالقيمُ مشترك إنساني بين الناس في كل الفلسفات والحضارات. والإنسانُ كما يقول محمد الكتاني:" لا يمكن أن يكف عن التعلق بالمثالِ ونشدان الكمال في عالم الواقع، وأنه لا يمكن أن يستغني عن خالقه سبحانه الذي هو مصدر الكمال... ونفي القيم المرجعية للسلوك الإنساني الهادف والمسؤول ينفي في نفس الوقت قيمة ما أنجزه الإنسان عبر التاريخ..."[25]

والمتعلم في حكم المقلد باعتبار المرحلة العمرية التي تنمو وتحتاج للبناء والتعليم الذي يشكل بعدُ الحصانةَ والمناعة أمام مواجهة التيارات والمواقف الحياتية المختلفة. لذلك اعتُبِرَ المدرسُ كالأبِ قدوة ومَثَلا يحتذى نموذجُه، بل هو في حالات عدة أكثرُ من الوالدِ قدوة وأسوة.

وتُلخص لنا قيمة القدوةِ والأسوة كلَّ المرجعية القيمية السَّوية التي تحتاج إليها شخصية المدرس على مستوى الأداء المهني داخل الصف الدراسي أو في تفاصيل الحياة المدرسية وأنشطتها. ويمتلك الصغار والمراهقون من الذكاء واليقظة ما يميزون به كل مخالفة سلوكية يسقط فيها مدرسوهم من قبيلِ الانضباط بالوقت والتدخين و والحياد الإيجابي والهندام والإنصاف بين الجنسين و تقدير المسؤولية والتعامل مع زملاء المهنة الخ

ولا يذهبنَّ الظن هنا أننا نوثق لقدسيةٍ معينة منمطة لشخصية المدرس تسترجعُ نموذج المدرسة التقليدانية، بل نروم توجيهَ وتعديلَ اختلالٍ أصاب صورة المدرس داخل المنظومة من خلال تجربة الممارسة الصفية قبْلا وتأهيل المدرسين الجدد وتتبع ومعاينة ما يُطلق عليه المدارس التطبيقية حالا، مما يجعلنا نعايش صلب مجريات وتفاصيل الحياة المدرسية بين التنظير والواقع المعيش. فمهما تطورت المجتمعاتُ الحديثة واستحكمت الثورة الرقمية قضبتَها على مصادر المعرفة وذيوعُ ثقافة التحرر والتعدد، فإن المدرسَ ستظل صورتُه ورمزيتُه عند الأجيال هي هي، كانت وستبقى القدوة والمثال الذي يُحتذى؛" فالناس سريعون إلى التأثر بغيرهم، سواء بالخير أو بالشر، وأسرع الناس إلى التأثر هم الناشئون الذين يتلقون كل ما يقوله المعلم وحيا"[26]

 

على سبيل الختم:

إنه بالتحكم في المادة المعرفية التخصصية الضرورية وامتلاك قدرات التنشيط والمهارات التواصلية الناجعة والتحلي بالقيم السوية تكون شخصية المدرس قد حازت شطرا مهما جدا من مقومات النجاح والمردودية والإشعاع، ولاشك أن شخصية من هذا القبيل ستُعطي معنى حقيقيا لمفهوم الجودة في التعليم والتربية. ومن جميل التشبيهات أن نختم بحكمة للحكيم ستيف جوبز: "إذا كنت نجارا ماهرا يصنع خزانة جميلة لن تستخدم لوحا خشبيا رديئا على السطح الخلفي، مع أنه سيوجد هناك، ولذلك سوف تستخدم قطعة بديعة من الخشب على ظهر الخزانة، ولكي تنام قرير العين في الليل، يجب أن تلتزم معايير الجودة والجمال دون تحفظ وإلى أقصى قدر ممكن"[27]

 

 د ـ محمد سعيد صمدي

المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين/ طنجة

 ...................................... 

[1]  ــ نحو مدارس أفضل:365. For better schools/ كيمبول وايلز/ ترجمة فاطمة محبوب/ ط3 / 1981/ مكتبة الأنجلو المصر

 [2]  ــ مقدمة ابن خلدون: 330/ ط7 / 1989/ دار القلم/ بيروت.

[3]  ــ المائدة: آية 31.

[4]  ــ ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر:1ـ765 / تحقيق: خليل شحاذة / دار الفكر/ بيروت / ط2/ 1988م.

 [5]  ــ لسان العرب: مادة(ع ل م)/ جمال الدين محمد ابن منظور/ دار صادر / بيروت/ بدون تاريخ وطبعة.

[6]  ــ روح التربية: 173 / ترجمة: عادل زعيتر/ مطبعة دار إحياء الكتب العربية/ القاهرة/ 1949

[7]  ــ المدرس عنوان للتضحية:20/ مقال منشور ضمن كتاب جماعي: مهنة التدريس: الرسالة، القدوة ، والمستقبل/ منشورات وزارة التربية الوطنية/ مطبعة وزارة التربية الوطنية/ 2007.

[8]  ــ معروف زريق/ كيف تلقي درسا: دراسة عملية واقعية في التربية: 28 / ط 4 / 1969/ مطبعة الإنشاء / بيروت.

[9]  ــ  النظرية في التدريس وترجمتها عمليا: 44 / ط2 / 2007 / دار الشروق للنشر والتوزيع / عمان / الأردن.

[10]  ــ  كيف تلقي درسا: دراسة عملية واقعية في التربية: 32

[11] ــ تسأل مدرسا مبتدئا سيدرس مادة اللغة العربية ما يُقصدُ بالتراكيب؟ بماذا يهتم علم الصرف؟ ماذا نقصد بالإملاء؟ تجد إجابات فضفاضة تؤكد عدم وضوح المعنى بالعلم الذي سيدرسه.

[12]  ــ  كيف تلقي درسا: دراسة عملية واقعية في التربية: 28.

[13]  ــ  استراتيجيا 2030 للتربية والتكوين بالمغرب: 19 / التصور المستقبلي لجمعية أماكن / 2013/ www.amaquen.com

[14]  ــ أعلام الفكر اللغوي:2ـ105/ جون إي جوزيف ونايجل لف وتولبت جي تيلر/ ترجمة أحمد شاكر الكلابي/ دار الكتاب الجديد المتحدة ط1/ 2006 / طرابلس / ليبيا.

[15]  ــ السعادة والتربية تعليم بلا دموع/ نل نودينجز / ترجمة فاطمة نصر / الهيئة المصرية العامة للكتاب / ط1 / 2009/ القاهرة.

[16]  ــ الجملة الاعتراضية من صياغتي.

[17]  ــ السعادة والتربية تعليم بلا دموع:328.

[18] ــ رواه ابن إسحاق بسند حسن

[19]  ــ  التدريس الفعال: 152 / مطبعة مكتبة جرير / بدون تاريخ.

[20]  ــ قرَّبها إيريك جنسن بنعتها عملية تصارع أو تعارك، قال:" إن حلبة التواصل هي الحلقة التي يتصارع فيها المتحدث مع المستمع سواء بشكل لفظي أو ذهني" / التدريس الفعال:158

[21]  ــ القصص: آية 34.

[22]  ــ  طه : آية 27

[23]  ــ المسلك اللغوي ومهاراته:1ـ 322 / مطبعة مصر/ ط1 / 1953 / القاهرة.

[24]  ــ الأخلاق والسير في مداواة النفوس: 67 / ط2 / 1985 / دار الكتب العلمية / بيروت.

[25]  ــ  منظومة القيم المرجعية في الإسلام : 13، 14 /  ط2 / 2011 / منشورات الرابطة المحمدية للعلماء/ دار أبي رقراق للطباعة والنشر.

[26]  ــ فن التعليم: 314/ جلبرت هايت / ترجمة محمد فريد أبو حديد/ مطبعة لجنة التاليف والترجمة والنشر/ 1954 / القاهرة

[27]  ــ حكمة ستيف جوبز التجارية:32 / آلان كين توماس/ تعريب: معين الإمام / مجلة بيزنيس ويك/ ط1 / 2012.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم