صحيفة المثقف

إطلالةٌ على ظاهرةِ ٱنْقراض ٱللغات ومستقبل العربية (2-3)

ماذا نعرف عن لغات العالم؟

هناك إحدى عشرة لغة شائعة لدى ٧٨٪ من سكّان العالم في كافّة وسائل التواصل والاتّصال واللّغات هذه هي: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية والصينية والروسية والعربية والهندية والهولندية والبرتغالية.

غنيّ عن التبيين أنّ هذه الأرقام في واقع الأمر، هي تخمينية، إذ أنّنا ما زلنا بعيدين جدًّا عن مرحلة معرفة حقيقية ودقيقة لعدد قلبل حتى من لغات العالم، حوالي سبعة آلاف لغة. في جمهورية پاپوا غينيا الجديدة مثلاً، الواقعة شمالي أستراليا والتي استقلّت عام 1975 وفيها حوالي أربعة ملايين من السكّان، يوجد قرابة 800 لغة لا يعرف العالِم اللّغوي المعاصر عنها بصورة تفصيلية أكثر من اثنتي عشرة لغة. أضف إلى ذلك أنه من العُسر بمكان تخمين مدى قابلية لغة معيّنة على الحياة. ففي العام 1905 كان عدد الناطقين بلغة “البريتون” في الشمال الغربي من فرنسا حوالي مليون وربع المليون والآن، بعد قرن من الزمان، ٱنخفض العدد إلى رُبع مليون نتيجة إحجام الأجيال الجديدة عن ممارسة هذه اللّغة (Golson, 1966). من ناحية أخرى، نرى أنّ الوضع اللّغوي في آيسلندا مثلاً أكثر أمانًا وغير مرشّح للتغيير الجذري وذلك لأن اللّغة تنتقل عبر الأجيال رغم التأثير الأمريكي وهي على ألسنة الجميع حيّة وعفوية والأمر ذاته ينسحب بالنسبة للغة الفنلندية التي يتكلّمها قرابة الستّة ملايين إنسان.

 

بنيةُ اللّغات النحويةُ

من الملاحظ أنّ القسم الأكبر من لغات العالَم المعروفة تنهج في بنيتها النحوية هذا النمط: الفاعل فالفعل فالمفعول به مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والعربية الحديثة المكتوبة والمنطوقة: الطالب قرأ كتابا. في بعض اللّغات الأخرى كاليابانية نظام الجملة العادي هو: الفاعل فالمفعول فالفعل. وفي نسبة ضئيلة من لغات العالم تصل إلى قرابة 10% نجد أنّ تركيب الجملة العادي هو: الفعل فالمفعول فالفاعل كما هي الحال في بعض اللّهجات العربية الحديثة في بعض الأحيان مثل اللهجة الفلسطينية: أكل الأكل موسى. وقدِ اعْتُقِد في البحث اللّغوي المقارن أنّه من غير الجائز وجود لغات يكون فيها تركيب الجملة: مفعول به ففاعل ففعل كما هي الحال في لغة الهنود الهكسكَرْبَنا في أدغال الأمازون والقبائل المحيطة بهم فقط. هناك من اللّغويين المعاصرين من يعتقد أنّ موجة ٱلانقراض اللغوي آنف الذكر ستجتاح مجموعة اللّغات الأكثر تعقيدًا لدى الجنس البشري. أضف إلى ذلك أنّ هذه اللّغات ذات السمات الخاصّة والمعقّدة شبيهة باللّغة المهنية الدارجة في هندسة الحاسوب وعلم الوراثة. في المقابل، يمكن القول إنّ اللّغات العالمية كالإنجليزية التي تتحدّثها أعداد كبيرة من الناس المنتمين لثقافات مختلفة، تتّسم بالبساطة واليُسر في نحوها وصرفها (Seely, 2013).

 

عمّا يتمخّض اندثار اللّغة؟

ظاهرة اندثار لغة بشرية ما، لا تعني زوالَ مفردات قليلة أو كثيرة، جزلة أو عادية وصيغ متباينة وتراكيب وأنماط نحوية خاصّة فحسب، بل وفي الأساس تراث ثقافي معين وفلسفة حياة وتاريخ مدوّن وغير مدوّن. إنّ ضياع لغة ما يعني ضياع نافذة معيّنة على العقل البشري وزوال التعدّد اللّغوي يؤول إلى زوال التعدد العقلي إذ إنّ الثقافة تتأثّر باللّغة وتؤثّر في التفكير. وهناك من اللّغويين من يذهب إلى أنّ اللّغة عبارة عن “وسيط بين الفكر والصوت وذلك عبر شروطٍ ما” (ده سوسُّر، ١٩٨٤، ص. ١٣٨). نعم، اندثار لغة ما يعني اندثار فكر وانتماء قومي وروحي وتضعضع هُوية راسخة لدى الفرد والجماعة على حدّ سواء وفقدان الشعور بالقيمة الذاتية (Sapir, 1949, pp. 207-220; Edwards, 1985). إذ أنّ وراء قبيلة صغيرة مثلاً هناك تاريخ طويل حافل بالتراث، يمتدّ لآلاف السنين من التكيّف للمنطقة التي كانت تعيش فيها بخصوص الثروتين الحيوانية والنباتية وكذلك الظواهر الطبيعية (Woodbury, 1993; Harrison, 2007; Evans 2009). في أستراليا مثلا توجد قبيلة باسم Dyirbal تمكّن أبناؤها في الستينات من القرن العشرين من التعرّف على أسماء ما يربو عن 600 صنف من النباتات، في حين أنّ هذه المعرفة قد تبخّرت لدى الجيل الجديد في أواخر القرن المذكور (Schmidt, 1990)). وإذا قارنّا الوضع في أيامنا هذه لدى أبناء المدن، بخاصّة في الدول العربية، فقد لا يعرف العربي العادي أسماء بعدد أصابع اليدين من النباتات البرية الموجودة في بلاده. والأمر ذاته ينسحب بالنسبة للمواطنين في جزيرة تاهيتي حيث نسوا الكثير الكثير من أسماء الأسماك التي عرفها أجدادُهم.

السؤال الذي يطرح نفسه هو علاقة الثقافة باللّغة، هل اندثار اللّغة يؤدّي في خاتمة المطاف إلى اندثار ثقافتها؟ أهناك ثقافة بدون لغة؟ أليست “الوردة” هي نفسها في أية لغة كانت كما قال وليم شكسبير (1564-1616)؟ الجواب الذي يمكن إعطاؤه ليس يسيرًا  فاللّغة، أية لغة آدمية طبيعية، تسعى لتبويب الأشياء وترتيبها وتعريفها، وفي كلّ ثقافة نظام للتصنيف والتبويب للواقع والحياة تعكسها اللّغة. في العديد من اللّغات البولينيزية في المحيط الهادىء، على سبيل المثال، تصنّف الأشياء بناء على أصحابها أو مالكيها إلى مجموعات متغيّرة وغير متغيّرة، أي بين الثابت والمتغيّر. في ولاية هاواي في غرب الولايات المتّحدة الأمريكية، الأرض والوالدان وأعضاء الجسم غير متغيّرة في حين أنّ الأزواج والزوجات والأولاد قابلون للتبديل لتوفّر إمكانية الاختيار. هذا التقسيم الثنائي بين الثابت والمتغيّر يتخلّل كافة الأنماط والمستويات وصورة العالم في الثقافة في هاواي. في الوقت الراهن حيث لا يعرف الجيل الجديد لغته حقَّ المعرفة نرى أنّ الناس قد نسوا أيّة أمور تندرج تحت “المتغير” وأيّها تحت “الثابت”. ما يبقى، في الواقع، ما هو إلّا ظلال باهتة لتلك اللّغة والثقافة في غابر الأيام. في اللّغة العربية، كما هو معروف، ينقسم العالم إلى قسمين من حيث التذكير والتأنيثُ (وهناك التخنيث، إن جاز التعبير هنا، بمعنى مذكّر ومؤنّث) ومن حيثُ العاقلُ وغير العاقل في حين أنّ هذه اللّغة تقسِّم العدد إلى ثلاثة أقسام، مفرد ومثنى وجمع (وفي الجمع جموع وأقسام).

 

هيمنة لغة أم تعدّد اللّغات في عصر العولمة

في البداية، كانت هناك لغات لا حصرَ لها، وهيمنة اللّغة الواحدة تاريخيًّا هي ظاهرة حديثة العهد. وهناك من يرى أنّ اندثار اللّغات ليس أمرًا مُقلقًا إذ أنّ انتشار اللّغة الإنكليزية مثلا على حساب لغات أخرى أمر مرغوب فيه، باعتبار أنّه يتمخّض عنه استمرار العالم. وكلّما تزايد عدد اللّغات المحكية كلّما صعُب على الإنسان فهمُ أخيه الإنسان وغدا العالَمُ أقلَّ تناسقًا وتناغمًا. على ضوء قصّة العهد القديم كان العالم قبل برج بابل واحدًا ذا لغة واحدة وبعد ذلك حاول بنو آدم بناء مدينة وبرج رأسه إلى السماء، وأغضبوا الخالق بذلك، وعليه عاقبهم الربّ قائلاً “هلمّ نهبِط ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضُهم لغةَ بعض (سفر التكوين 7:11). بعبارة ثانية، إنّ لغات العالَم هي نتيجة عقاب الله هذا (Harris & Taylor, 1989, pp. 35-45). ويرى علم اللّغة الحديث في النظرية القائلة بأنّ العالَم القديم كان أحاديَّ اللّغة بمثابة أسطورة ثقافية، إذ كان المجتمع البشري متعدّد الألسن منذ البدء. في مقدور العقل البشري السيطرة وبيُسر على أربع لغات أو خمس إذا تعلّمها منذ نعومة أظفار الطفل، حيث يكون النظام اللغوي في المخ الأقوى في السنوات القليلة الأولى من حياته.

يبدو أنّ المكان الأمثل لبحث التعددية اللّغوية هو پاپوا غينيا الجديدة Papua-New-Guinea، مِساحتها أقلّ من مِساحة فرنسا بقليل وعدد سكّانها زهاء الخمسة ملايين إنسان ويتكلّمون وفق آخر إحصاء 860 لغة وهي مقسّمة إلى 26 فصيلة لغوية. الغالبية الساحقة من هذه اللّغات جدّ مغمورة إذ إنّ لـ 80% منها خمسة آلاف ناطق فقط. وفي مثل هذا المحيط متعدّد اللّغات يتعلّم السكّان الكثير منها وبصورة طبيعية، ويتسنّى للطفل سماعُ خمس أو ستّ لغات وتعلّمها شرطَ أن يكون مصدرُ كلّ واحدة منها ثابتًا. كما وتلعب اللّغات في پاپوا غينيا الجديدة دَورًا جتماعيًّا هامًّّا، فاللّغة تعزّز صلة الفرد بقبيلته، ومعرفة لغات أخرى تفتح للشخص إمكانياتٍ اقتصادية وعسكرية وشخصيةً أيضًا مثل الزواج. وهكذا لم تنتشر لغة واحدة معيّنة وبسرعة على حساب لغة أخرى. ويذكر أنّه في منطقة ثنائية اللّغة (bilingualism) تواجدَ على الدوام أناس فضّلوا لغة واحدة على الأخرى، وهكذا نمت وعظُمت هذه اللّغة المنتقاة وٱحتلت مكان اللّغة الثانية في آخر المشوار. في الوقت نفسه، تنشأ لغات جديدة عند اندثار مجتمعات معيّنة ونشوء مجتمعات جديدة. وعليه يبقى عدد اللّغات على حاله تقريبًا، وهذا ما يدعوه اللّغويون بـ “التوازن اللّغوي” (linguistic balance) الذي يسود معظم الكرة الأرضية كما هي الحال بالنسبة للتوازن في الطبيعة أيضًا. يُذكر أنّ الجنس البشريَّ في مراحله التاريخية الأولى كان متعدّد اللّغات، أمّا الوضع الثقافي المتشابه في أمريكا وإنجلترا، حيث يتكلّم الناس لغة واحدة فقط، فهو من المنظور التاريخي ظاهرة جديدة وشاذّة.

قد يكون مفيدًا ذكر الإحصائيات اللغوية الآتية. هناك في العالم 7227 لغة موزّعة على النحو التالي: في آسيا 2197، في إفريقيا 2058، في منطقة المحيط الهادىء 1311، في أمريكا 1013، وفي أوروبا 230، أما عدد اللّغات الميّتة تقريبًا الآن حيث عدد المتكلّمين بها جدّ قليل فهي: 55, 37, 157, 161, 8 وفق الترتيب المذكور، أي أنّ عدد اللّغات التي في طور الاندثار والتلاشي هو 418 لغة. ويُذكر أنّ نيويورك ذات أعلى كثافة لغوية في العالم إذ أنّها مركز لعدد كبير من المهاجرين إليها من مختلف أنحاء المعمور (Wurm, 1996; Asher & Moseley, 2007; Moseley, 2012).

 

مصير العربية المعيارية الحديثة

أوّلاً ينبغي التمييز بين أنماط العربية المختلفة عند الحديث عن هذه اللّغة كما أسلفنا. يا تُرى ما مصير اللّغة العربية المعيارية الحديثة (Modern Standard Arabic, MSA) في هذه المعمعمة التي كثُر الحديث والنقاش فيها عن الانقراض اللغوي في الآونة الأخيرة؟ هل العربية هذه في أزمة حقيقية وما كنهها؟ كانت منظّمة اليونيسكو قد أكّدت أنّ العربية ستكون ضمن اللّغات المرشّحة للانقراض في خلال القرن الراهن. تواجه العربية المعيارية خطرًا حقيقيًّا من مصدرين، من الخارج أي اللّغات الأجنبية لا سيّما الإنجليزية والفرنسية والعبرية ومن الداخل أي اللّهجات المحكية التي لا حصر لها. لا شكّ أنّ الاعتقاد الشائع بأنّ العربية لا يمكن أن تندثر لأنّها لغةُ القرآن الكريم، فهي خالدة (محمد، ١٩٨٥، ص. ١٧٣-١٧٦) وقد ورد فيه في سورة الحجر، الآية التاسعة "إنا نحن نزلنا الذِّكْر وإنّا له لحافظون" وهذا يحتمل أكثر من معنىً لغويًا وتفسيريًا.

تاريخيًا أمامَنا مثَل جليّ لموت أو سبات لغة طوال سبعةَ عشرَ قرنًا من الزمان تقريبًا بالرغم من وجود كتاب ديني سماوي مقدّس لدى أصحاب تلك اللّغة. هذه اللّغة فريدة في نوعها في تاريخ اللّغات، إذ أنّها أُعيدت للحياة قبل زهاء قرن من الزمان، منذ بداية ثمانينات القرن التاسع عشر في فلسطين، نتيجة تضافر عدّة ظروف مؤاتية، وغدت لغة محكية حيّة تدرّس فيها كلُّ المواضيع حتى الطبّ في الجامعات الإسرائيلية، إنّها العبرية الحديثة التي انبثقت عن عبرية العهد القديم (Biblical Hebrew) التي يرجع تاريخها الأقدم إلى أكثرَ من ثلاثة آلاف عام ومن لغة التوراة الشفوية، المشناة والتلمود (Fellman, 1973; Harshav, 1993, pp. 81-88). المألوف كما هو معروف في علم اللّغة هو تطوّر لهجة محكية في ظروف معيّنة إلى لغة مكتوبة، أما العكس، أي "إحياء" (revival) لغة مكتوبة لتصبح محكيةً فنادر جدًّا. في هذا السياق من الممكن الإشارة إلى لغة كورنيش في إنجلترا التي بُعثت من جديد عام 1777 ويقدّر عدد منكلّميها اليوم بحوالي ألف شخص وهي بمثابة لغة ثانية عندهم. من هذا المنطلق، قد تنقرض اللّغة، بمعنى أنّها ستغيب عن ألسنة الناس وقد تبقى بأقلامهم أو بالأحرى بحواسيبهم كما هي الحال بالنسبة للعربية الأدبية في أيّامنا أيضًا (Hinton  & Halle,  2001; Fishman, 2001).

ثم يجب التذكير مثلا أنّ عبرية العهد القديم لا تحتوي على أكثرَ من ثمانية آلاف كلمة وفي غضون القرن الماضي دخلت واشتُقت في العبرية الحديثة زهاء الخمسة عشر ألف لفظة. ومن ناحية أخرى، ما في القرآن الكريم، لا يمثّل إلاّ أقلّ من ثُلث ما في لغة الضاد من جذور وتراكيبَ ومعانٍ، كما ذكر مؤخّرًا الشيخ الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية، في مؤتمر في القاهرة. يبدو أنّ القول الفصل في إمكانية الحفاظ أو عدمه على لغة معيّنة يرجع بالأساس إلى أبناء هذه اللّغة ودورهم الثقافي والحضاري بين الشعوب الأخرى. يعتقد العلماء أنّ أحد السبل لإبعاد شبح الاندثار بالنسبة للّغات هي مواقع التواصل الاجتماعي العاملة بنشاط في عصرنا (Fishman, 1991;  Lenore & Lindsay, 2006). كما وتجدر هنا الإشارة إلى المساهمة الهامّة التي يقدّمها غوغل في هذا الصدد

(http://google-arabia.blogspot.fi/2012/06/blog-; post_25.html)

 وقل الأمر ذاته بالنسبة لدور الشابكة (الشبكة العنكبوتية).

في هذا السياق الراهن للّغة العربية المعيارية الحديثة (MSA) ثمّة عوامل ودلائل غير مشجّعة بالنسبة لمستقبلها، نذكر منها ما يلي. الحبّ والتقدير للغة العرب لا يتعدّىان في الغالب الأعم الشفتين؛ العرب، حكومات وشعوبًا، مغلوبون على أمرهم، تابعون، إذ لا إرادة سياسية مستقلّة لهم حتّى الآن وبعد ما سمّي بالربيع العربي الذي سرعان ما انقلب خريفًا أو شتاءً، والمغلوب شغوف بالاقتداء بالغالب في كلّ شيء كما قال ابن خلدون (تونس 1382-مصر 1406) “إن الأمّة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء” وقال أيضا “إن غلبة اللّغة بغلبة أهلها، وإنّ منزلتها بين اللّغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم”. ينظر بعض العرب إلى لغتهم بازدراء ما معتبرين إيّاها منحطّة ولذلك يؤثرون استخدام غيرها من اللّغات، الإنجليزية، الفرنسية، العبرية؛ أو في أحسن الأحوال يُقحمون دون مسوّغ الكثير من المفردات والتعابير الأجنبية في كلامهم. من الواضح أنّ ذلك الاحتقار أو النفور لا ينجم من فراغ، إذ أنّ المعلمين والمؤسّسات الرسمية لا تحترم العربية (محمد، ١٩٨٥، ص. ١٦٤-١٦٦). من المعروف أنّ المواضيع العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء إلخ. تُدرَّس في الكثير من المدارس وفي كلّ الجامعات العربية تقريبًا باللّغات الأجنبية أما العربية فتُسمع في حصص التاريخ والجغرافية والعربية وغيرها بالعامية حتّى، وليس بالفصحى إلا لمامًا. والطامة الكبرى أنّ التلميذ العربي منذ المرحلة الابتدائية عليه أنّ يفهم ما يسمع بالعامية أوّلاً وعليه التعبير عن ذلك في الدرس وفي الامتحان بالفصحى وهيهات أن يتسنّى ذلك، في الغالب الأعمّ، لمعلم العربية! أهناك أغرب من هذه الحالة المعروفة جيّدًا ولم تلق الحلّ بعد! هذا الوضع يؤدّي إلى ازدهار ظاهرة الحفظ غيبًا “البصم” سيّئة الصيت والاهتمام الزائد بالمبنى على حساب المعنى (التويجري، ٢٠٠٤).

العربية المعيارية لغة رسمية في خمس وعشرين دولة، اثنتين وعشرين دولة عربية وثلاث دول هي إسرائيل وإريتريا وتشاد ولكن من حيث الشكلُ فقط، إذ لا وجود لأنظمة أو قوانين وآليات لتنفيذ المكتوب، رغم أنّ أغلب الدول المتقدّمة تتدخّل سياسيًا في مجال اللّغة والتخطيط لها؛ هوّة الازدواج اللغوي بين الفصحى والعامّيات (diglossia) عميقة إذا ما قورنت بالوضع المماثل في لغات أخرى؛ الأمية ضاربة أطنابها في العالم العربي والقراءة سلعة جدّ جدّ نادرة فيه، ولا يفوتنا ما قيل بأنّ أمّة إقرأ لا تقرأ وإن قرأت فبالأذنين، حيث معدّل ما يقرأه الفرد سنويًا في الغرب هو خمسة وثلاثون كتابًا وفي إسرائيل مثلاً أربعون، أمّا عند العرب فهناك كتاب واحد مقروء لكلّ ثمانين فردًا! أي أنّ نسبة ما يقرأه العربي هو واحد على ثمانين من كتاب ما سنويًا. الميل للتحدّث بالإنجليزية والفرنسية وفي الديار المقدسة بالعبرية على حساب العربية؛ أبناء النخبة أو الذوات يدرسون في مدارسَ أجنبية أو مدارس خاصّة ونصيب العربية فيها فتات في أحسن الأحوال؛ زعماء العرب لا يُقدّمون أُنموذجًا حسنًا لشعوبهم في هذا المجال؛ ممثلو دول العرب في منظّمة الأمم المتّحدة وفي محافل دولية أخرى لا يستخدمون عادة العربية؛ أين المعجم التاريخي للّغة العربية؟ متى يُعرّب التدريس الجامعي في البلدان العربية أسوة بالجمهورية العربية السورية مثلاً؟ مناهج التدريس بحاجة ماسّة للتعديل والتطوير الدائمين تمشياًً مع التطورات العلمية الحديثة في العملية التربوية التي في تطوّر دائم وضرورة استخدام التقنيات الحديثة؛ لا بدّ من مشروع حقيقي شامل لتبسيط تعليم العربية والتركيز على الجانب الوظيفي فيها (functional grammar) والابتعاد عن التقعرّ والتعليلات التي تعلّ قلوب الطلاب وعقولهم؛ افتقار شديد لمفردات العصر؛ ظاهرة شيوع الأخطاء اللّغوية الفادحة في الصحافة الإلكترونية بخاصّة والورقية بعامّة؛ مكانة أستاذ اللّغة العربية بحاجة ماسّة للدعم معنويًا وماديًا والإشراف الحقيقي والمتواصل على تأهيله؛ غياب المدقّق اللّغوي في دور النشر؛ محاولة تقليص نسبة الأمية لا سيّما عند النساء في العالم العربي فهنّ عماد التربية؛ إعلاء شأن أدب الأطفال أمانة مقدّسة في أعناق وزارات التربية والتعليم وربما المثقّفين أوّلاً. نقول كلّ هذا بالرغم من أنّ العربية تعتبر واحدة من خمس لغات حملت مخزونًا ثقافيًا هامّا جدًّا وهي اللّغات الكلاسيكية: الصينية والسنسكريتية واليونانية واللاتينية (Sapir, 1949, p. 194).

أحيانًا، قد يتساءل المرء بعد مثل هذا التأمّل، أهناك أمّة لا تحترم فعلاً لغتَها مثل العرب؟ الصين وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها من الدول أمثلة يُحتذى بها في هذا الصدد. حافظتِ اليابان على تراثها اللّغوي رغم إنجازاتها التكنولوجية المميّزة ولم تهرول وتلهث لإعلاء شأن اللّغات الأجنبية على حساب اليابانية. العربية في وسائل الإعلام المختلفة ستُسمع وستُقرأ فهناك بالإضافة إلى الصحف والمجلاّت على أنواعها، العشرات من محطّات التلفزة في الدول العربية وخارجها. هناك على سبيل المثال، أربع وعشرون محطّة عربية فضائية ضمن الثمانين على القمر الأوروبي ومؤخّرًا سمعنا عن صوت روسيا. في تقديرنا السؤال الأساسي هو: ماذا سيكون جوهر اللّغة العربية الأدبية في الإعلام في أواخر هذا القرن؟ ماذا ستكون مكانة العربية في العالَم بعد نضوب آبار الذهب الأسود في أرض العرب؟ قد يُضيف المرء أيضا ما طبيعة المكانة ذاتها في حالة انحسار ما يسمّى بالإرهاب الأصولي الإسلامي من “قاعدة” و”داعش” و “دا” وما يدور في فلكهما في العالَم أو تفاقمه؟ مثقّفو العرب الحقيقيون من شعراء وأدباء وأكاديميين وباحثين سيستمرّون في حمل مشعل سلامة اللّغة والعمل على تطويرها لا تقديسها وتحنيطها في أجواء وظروف ليست سهلة على العموم. إنّهم سيستمرّون في نفخهم على الجمرة كيلا تنطفىء كليًّا.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم