صحيفة المثقف

خواطر مع صيحات دُريْد التي ذهَبتْ أدراجَ الرياح!

أمَرتُهمُ أمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوى – فَلَمْ يَستَبينوا الرُّشدَ إلا ضُحى الغَدِ

وَهلْ أنا إلا من غُزيّةَ إنْ غَوَت – غَوِيتُ وإنْ تَرشُدْ غُزيّةُ أرشدِ(*)

نسمع أحياناً أغنية فتدخل من الأُذُن اليمنى وتخرج من اليسرى فلا تحرك فينا نأمة ثم تسمعها نفسها بكلماتها ولحنها في وقت آخر فتحرك فينا المشاعر، وتهيّج عواطفَ كنا نحسبها ماتت، وتنشط فينا أحاسيس خامدة ثم تستقر في خاطرنا ونود لو نسمعها أكثر وأكثر.. وما تفسير الأمر بشائك، فنحن لا نسمع بآذاننا بل بنفوسنا وأمزجتنا، وقد قالت العرب صادقة: إذا طابتِ النفوسُ غَنّت..

والبيتان قرأتهما وأنا مراهق في أحد كتب طه حسين، مرَّ عليهما كريماً حتى لم يذكر قائلهما، والدكتور عندما يستشهد فلا أحسن منه، تشفع له أُذُنٌ مرهفة تلتقط كلّ ما هو صائت أو هامس موسيقياً وكلّ ما هو ذو معنىً شأنه شأن المكفوفين الذين يحسنون السمع لا بآذانهم فحسب وإنما بنفوسهم بل قل بأفئدتهم ولا تخف.. وحُسن الاستشهاد باب بلاغي شأنه شأن المحاسن الأخرى البلاغية من حسن التخلص وحسن الانتقال وحسن الاستهلال وحسن الختام...

حفظت البيتين واستعنت في البيت بمُعلّمي، لضبطهما نحواً ووزنا.. وبقيت أرددهما، أقرؤهما بصوت عال حريصا على إخراج الحروف من مخارجها.. ولم أقع يومها على أسرار جمالهما..حتى إذا أخذت نصيبا يسيراً من الشعر اكتشفت إن فيهما تفاعل الأصوات المنخفضة اللينه والحرووف الجوفاء الممدودة واكتشفت أنّ، توالي الميمات الثلاث في الصدر الأول وهو حرف شفوي معتدل الجهر يقترب أحيانا في مخرجه الهوائي من الأنف  Nasal letter ؛ وحرف الغين الرخوي اللهوي ذو اهتزازات خفيفة تخفف من جهره، الذي تكرر فأعطى وقعاً  على الأذن مميزاً في تَعاقب المفردات أي ما يُعرَف بالتَّكرار البلاغي: غزية لمرتين، وغوت وغويت.. ثم حروف المدّ في الألف المقصورة اللوى وضحى ، ثم صيغة الاستفهام الإثباتي: وهل أنا إلا... ويكون جوابه المضمر الإيجاب على خلاف الاستفهام الإنكاري الذي جوابه المضمر النفي..

والبحر هنا هو الطويل حامل ثلث ديوان العرب، وأي ثلث؟ ذالك الذي فيه روائعهم، فهو بحر النفَس الطويل والهيبة غير قابل للتجزيء، وهو بحر تام بالضرورة ومركب من تفعيلتين، فعولن و مفاعيلن.. هو مختبر لكل شاعر يريد أن يثبت تمكنه، وهو يقابل في هيبته مقام الرست الذي هو مختبر لاي قارىء مقام.. أذكرُ ونحن في الجامعة طالبيْن شاعرين قد ركبا بحره وتمكنا منه هما عبد الإله الياسري وسعد الرمّاحي وآخرين منهم سهر العامري.

ومن المفارقات أن الشاعر نِزار قباني قد أقحمه في قصيدة تحمل اسم هذا البحر إقحاماً ولم تكن منه "على البحر الطويل" وتوخياً للدقّة  فإن اسماء الأبحر تكون على الإضافة لأوزانها، فنقول بحر الطويل، وبحر الكامل...الخ، وأنقل القصيدة هنا لأُريَ أن الشعر أحياناً وفق مبدأ" وكل ما يفعل المحبوب محبوب"، وإلا لو ألقاها شاعر مبتدأ لأُنزِلَ من المنصة بدون رفق، فلنسمع ماذا يقول الشاعر الراحل نزار قباني:

"افرشي شعرك فوقي

مثل غابات النخيل

فأنا يُعجبني النظم على البحر الطويل

لستُ رجعيّاً بطبعي.. إنما

 أشتهي رائحة البن.. وطعم الزنجبيل...

يرحلُ المشطُ وقلبي معه..

إن من أغلى هواياتي الرحيل.."

وعودة الى بيتي دريد لأقول، فُتِنت بالبيت الثاني الآسر وحسبت أن الشاعر ابن الصِّمة  يعبر عن عن حبه الذي يُصِّمُ ويُعمي، بحبيبته غُزية وحسبت انه يُصغِّرُ اسمها للتحبيب، ويكرره تَكرار العاشق، ويجعله بلاغياً في "رد العجز على الصدر" من باب تاكيد الحب! كل هذا مع غموض في البيت الأول لا أشغل نفسي به فمن هؤلاء الذين نصحهم فلم ينتصحوا إلا بعد لأيٍ غير قصير أمَدِه ضحى اليوم الثاني؟!

وعندما انقشعت السحب تبين هذا الذي فَتَنَ المراهقَ في حبه هو فارس شيخ نيّف على المائة من عمره، وإن غزية لم تكن معشوقته وإنما عشيرته، وعلى وجه الدقة جَده السابع، وهكذا ارتفع رصيد البيت الأول -عند ذاك الذي لم يعد مراهقاً- الذي أصبح يردًّد على كل لسان حين تُشكل الحياة وما اكثر ما تشكل الحياة!! فغدا البيتان شاهدان في مواضع متكررة على مرّ العصور، حتى لأحسب أن البيتين قد قيلا وخُصّ بهما  عصرُنا هذا، وما غزية إلا شعبنا الذي نعشق وننحاز له من حيث لا ينفع الانحياز أمام من جاءت بهم الصُّدَف الضالة ويالها من حكمة بلهاء!!

قتل دريد بن الصِّمة في معركة حنين سنة 8ه، حين خرج مع قومه مُظاهراًلأعداء المسلمين، فقد أدرك الإسلام ولم يُسلِم، بل وقف معاديأ حتى الرمق الأخير. فقد توسموا فيه الحكمة والشجاعة والفروسية، وحين أبدى رأيه ونصيحته  في عدم النزول في منعرج اللوى منعه مالك بن عوف  عن مشورته كي لا يعلوَ ذكرُه..

وقد قال دريد قصيدته المريرة التي يستهلها:

أرثّ جديد الحبْل من أمِّ معبدِ – بعاقبة قد اخلفت كلّ موعدِ

وبانت ولم احمَد غليك جوارها – ولم تُرجَ منّا ردّة اليوم أو غدِ

أعاذلتي كلُّ امرىءٍ وابن أمّه – مَتاعٌ كزاد الراكبِ المُتزوِّد

أعاذلُ إن الرزء أمثال خالدٍ – ولا رزءَ مما أهلك المرء من يدِ

 

 

خالد جواد شبيل - رام كم هنغ

.....

(*) هذه مقالة من سلسلة مقالات انطباعية مختصرة على مدونتي بعنوان "فيسبوكيات"، أنشرها لعل فيها فائدة تُرتجى/خ.

 

         

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم