صحيفة المثقف

تأملات الشيخ "أبو النظرية" (1)

مشغولا على الدوام بوضع الخطط الذهنية

لتصيد ومضات أفكاره

تأملات الشيخ "أبو النظرية" (1)   

ثم جاء أبو النظرية فجلس، ولم يكن حول الطاولة التي اعتاد أن يلبد بها غير النافخ والزامر وحامل المباخر. وأبو النظرية لم يكن اسمه كذلك، ولم يُعرف عليه في سابق الوقت اشتغال بالكلام أو بالأفكار، وإنما كان رجلا دائم السهوم والشرود، يجلس إلى الصحاب وكأنه لا يرى ولا يسمع، فمنهم من كان يقول عنه إنه محبوس سابق أو مكروب أو موجوع، ومنهم من كان يقول إنه مفجوع أو مكسور الجناح والضلوع، وهو لم يكن يهتم لأقوالهم ولا لهمزهم وكثرة تحديقهم فيه واستراقهم النظر إليه إذا جمعتهم وإياه الطاولة نفسها التي يتحلقون حولها كل مساء، لرشق المارين بنظرات الحسرة على غدر الزمان، وقصر ذات اليد، فقد كان له في دماغه ما يشغله عن النظر إلى الآخرين أو النبش في أخبارهم، وقد كان كما وضح هو للصحاب بعد مدة من الواقعة " المعلومة"

مشغولا على الدوام بوضع الخطط الذهنية لتصيد ومضات أفكاره، وكانت الأفكار، تلك، تخطر على بالِه كرشقات النيازك، وحين لا يتمكن من الإمساك بها تعبر الدماغ وتمرق منه حرة طليقة مروق السهم لتنفجر في أماكن غير متوقعة، فتخلف خرابا ودمارا لا قِبل له بالرضا عنه، فمرة تقع على غابة فتحرقها، ومرة تقع في بحر فيصبح صحراء، أو على صخرة فتنشق على عين وينبجس الماء حارقا فوارا كمياه الحامّات. وكان أبو النظرية يترصد للأفكار ويتمرن على اصطيادها دون أن يُشعر أحدا بقلقه وبأسباب وجومه وسهومه وانشغاله، وما كان الصحاب يرون منه غير وجه شاحب، وفم مفغور، وشفاه متدلية، وعينين زائغتين. فيسخرون من جلسته السعيدة إلى جوارهم، وبسحر غيبوبته وجلال بلادته، ويشبهونه بمضَّاغي القات في اليمن البعيد. وشيئا فشيئا بدأ "أبو النظرية" يتحكم في سيل أفكاره رغم سرعة انقداحها في ذهنه ثم انطفائها كالبرق في غيمات السماء، ومن بين الحيل التي ساعدته على ذلك أنه أتقن فن صناعة الشباك اللغوية وفخاخ العبارة، وكانت هذه الصنعة وحدها أعظم وأخطر نظرياته، بل أعظم وأخطر تطبيقاته النظرية، فقد أخذ يصنع من اللغة لكل فكرة عبارة خاصة يصطادها بها، ومع تقدمه في هذه الرياضة وصبره عليها، اكتسب ما يكفي من الحنكة والخبرة والتجربة فأصبح يصنع العبارات قبل أن تخطر الأفكار على باله، وصار يتحكم أكثر في اصطياد شواردها وترويضها ثم تسخيرها لما يحتاجه حسب الوقت والضرورة والمتطلبات، فما تكاد الفكرة تتأهب لتومض حتى تكون العبارة معدة لأسرها، فدانت له رقاب الأفكار كما سيقال، وسلَّمت بعبقريته واستسلمت لسلطته، وصارت تأتيه طوعا وهي مختارة كالكتاكيت وصغار العصافير، توصوص حوله وهو يناديها كما تنادى الفراخ " كُتكُت كتكت كتكت""

وكلما كَتْكَتَ تقافزت بين يديه وقدميه سعيدة بنقر ما يرميه لها من زوان الحروف وشعير الكلمات، ولم تعد تنفجر في الغابات فتحرقها ولا في المحيطات فتغرقها، أو تجعلها صحارى من دم ونار، وذلك ما اكتشفه هو أيضا باستغراب كبير خاصة بعد أن أصبحت أفكاره تتوسله وتستعطفه، كلما أرادت أن تبرق أو ترعد، أو تمطر أو تزهر، ويكون هو قد أعد لكل فكرة جسمها،، آه،، بخصوص الحديث عن الأجسام، فقد اكتشف أبو النظرية أن العبارة جسم الفكرة، وأن الحروف والكلمات ما هي إلا أعضاء في الجسم، وأن كل فكرة تحتاج إلى الجسم الذي يناسبها، ولذلك فإنه أصبح يسخر ملء شدقيه حتى يستلقي على قفاه من الأفكار التي تتباهى بنفسها وتتكبر عليه، فيختار لها الأجسام القزمة أو المشوهة أو الممسوخة، فمرة يختار عبارة مجدوعة الأنف، ومرة يختار أخرى عرجاء أو عوراء، ويترك الفكرة المسكينة رغم اعتدادها بنفسها واعتقادها في أهميتها تبكي وتعول وتندب، ولا من مغيث. فقد وجد السر واكتشف الحل وصار بيده مفتاح التحكم في مجرى الأفكار وفي حياتها أو موتها.

وكل هذا كان يحصل في غفلة من أصحابه النافخ والزامر وحامل المباخر، حتى كان ما كان وخرج عليهم ذات غروب بأفكاره العجيبة

وكان من بين ما قال إنه توصل إلى النظريات التي سترج العالم، وتَمْخضُ شكوته الثقافية وتستخلص من حليب المعارف زبدة المعاني. ولكنه لم يخبرهم عن نظريته الأولى في صيد الأفكار بشباك العبارة، فقد اعتبر أن هذه النظرية أخطر من تلك التي قرأ عنها في صباه والتي تقول بالتحليل الملموس للواقع الملموس، وقرر أن يحتفظ بنظريته لنفسه ولا يشيعها في الناس حتى لا تكون وبالا على من لن يحسن تطبيقها. وكان مما قاله أيضا إن الموجود إذا صار إلى الوجود فلا يخرج منه إلى العدم، وغير الموجود ليس في حكم المعدوم، وقال إن الأشياء إنما تبدو كذلك لأنها كذلك ولا تُعرف بضدها، لأن الشبيه هو في الآن نفسه المختلف، كما قال إنه حين انوجد غاب فرأى ما رأى وحين صحا لم يجد. وإن الرؤى كانت على مرمى العبارة ولكن خيط الحلم انقطع على نتوء الحجارة . ثم قال إنه اشترى مقصا وآلة خياطة وخاط من الكلام جلابيب ومعاطف وقمصانا وجوارب، فأصبحت كل فكرة تَعبرُ رأسه وتريد أن تخرج على الناس تستحي من الخروج عارية، فالجلابيب ملابس الأفكار في المناسبات، وكل فكرة تضع قدميها بجوارب خاصة قبل أن تخطو خطواتها الخجولة فوق أسفلت الدماغ، والأفكار الساخنة المحمومة تلبس قمصانا بلا أكمام في الربيع، والأفكار البردانة النعسانة تلبس معاطف من صوف الحروف في الخريف.

هذا ما قاله أبو النظرية أول ما جاءه الكلام، وقد كان قضى زمنا كالأبكم بين أصحابه، حامل المباخر والسافل النافخ والحابل الزامر، والنابل الذي نادرا ما كان يجلس رفقتهم حول طاولة التناظر.

كانت تلك ما سموه جميعا فيما بعد، الجلسة الأولى التي ظهر فيها عليهم أبو النظرية بعجائبه وغرائبه.

ثم جاء في الجلسة الثانية وقال: إن له قولا جديدا في تاريخ البشر وكانت تلك نظريته الثالثة أو الرابعة، بعد نظريته في الفكرة والعبارة ونظريته في الوجود من غيره، وفي الشبيه بضده، وقسم ذلك التاريخ إلى مرحلتين، ما قبل وما بعد، فلَمّا قيل له ماقبل الْمَ؟ وما بعد الْمَ؟

قال ليس تَمَّتَ مَ، وسمى النظرية الرابعة أو الخامسة نظرية:

( أَلْمَا ) وكتبها بالفرنسية. ( alma )...

والميم هذه عنده بداية كل مرحلة

فقيل له أقبل النكسة أم قبل الرقصة؟

وأبعد النكبة والهزيمة أم بعد الهمزة والغنيمة؟

وهل قبل خريف الغضب أم بعد ربيع العرب؟

فقال أبو النظرية:

 ألا تعرفون بأن البشر في بدئهم الأول كانوا قلة ويعيشون على الندرة، وكانوا يتوالدون ويعيشون ثم يموتون ويولدون طوع الخاطر، حتى عم فيهم فساد الجواهر والعناصر، فصاروا يولدون ويولدون ويولدون، فيعيشون كالدواب ويتوالدون كالأرانب ويأكلون كالجراد، فظهر فيهم القتل وتفشى الوباء فصاروا يتوالدون فيَقتلون ويُقتلون ثم يولدون ويُقتلون حتى غَلبوا الموت، وصاروا ما إن يموت أحدهم حتى يقوم حيا ليقتل الآخر، ثم أخذوا ينشئون المصانع والمختبرات وينتجون الفيروسات والأمراض الفتاكة والأسلحة والأضرحة، وما نفع في إبادتهم شيء ولا نفع ذلك في إذايتهم. فصار تاريخهم غريبا وغامضا وكئيبا، ولذلك أعاد أبو النظرية الاعتبار لفكرته الأولى عن التاريخ الذي لم يُكتب.

وقال إن البشر عاشوا " المرحلتين:"

"ما بعد تاريخ أكل الجيف وما قبله"

وقال إن التاريخ الحالي هو تاريخ الجيف، ونطقها محرفة فكأنه قال " الزيف"

فلما لم يفهم الأصحاب هذه الوجهة من النظر قال مفسرا:

ألا ترون أن البشر قَتل بعضه ثم قُتل بعضه بما قُتل البعض،

 فلم يبق إلا بعض البعض. وأنه لم تعد الأرض هي الأرض، وأن سطح الأرض هو جلد البشرية وتراب الأرض لحمها، وأن البشرية قد ماتت من زمان وأن العائشين الآن هم زومبيات بلا أرواح، تنشب أنيابها ومخالبها في جيف بعضها. وكلما قُطعت لها رأس نبتت لها عشرات الرؤوس، وهذه الزومبيات مجرد جيف فلا تعرف غير القتل لأن الأموات لا يحسنون الحياة ولا يعرفون كيف يعيشون

فقبل أن يصبح تراب الأرض من لحم البشر، كانت الأرض أرضا وكانت السماء سماء." وأهل الأرض اليوم لا يعرفون ذلك لأنهم لم يروه بأعينهم "، ثم جاءت الزومبيات فصارت الأرض مزبلة والسماء غيمة من القذارات.

 "وهذا ما يعرفه الناس اليوم حق المعرفة "

غير أن "أبو النظرية" سكت حين سأله الزامر والنافخ عن تاريخ هذا التحول وكيف حصل، فلم يستطع أن يعطيهما تاريخا محددا ولا توقيتا مضبوطا، متعللا بأن البحوث الاستحاثية لا تزال في أطوارها الأولى وبأنه سيقدم ورقة في الموضوع للمناظرة الدولية القادمة وسيوصي بإنشاء لجان لهذا الغرض يترأسها هو نفسه حتى يقود دراسته إلى منتهاها، ويتحقق من فرضياته.

فأطروحته غير مسبوقة بين الأطاريح . إنه يزعم أن الزمن البشري قد انتهى من زمان، وأن أهل هذا الزمان ليسوا بشرا وإنما هم زومبيات . وأن الجيفة هي آخر مراحل تطور الكائن البشري بعد

 " الأومو سابيانس" وكتب بالفرنسية.

 .homo sapiens.

وإذا كانت هذه هي النظرية الرابعة أو الخامسة من بين النظريات العبقرية لصاحبنا، فقد زاد قائلا إنه لا يزعم فقط أن البشر قد انقرضوا على مستوى التاريخ الكوني، بل سيدافع أيضا في نظريته الجديدة على أطروحة أن فصيلة العرب هي أول ما انقرض من الجنس البشري القديم، لظروف سيأتي ذكرها في حيثيات الدراسة التي أعدها لهذا الغرض .. وإنه لهذه الغاية أخرج من قبو منزله كل المجلدات التي أكلتها الأرضة والبرودة حول الثورات العربية والوحدات العربية والنهضات العربية وسيقدح زناد فكره ويشعل فيها النار جميعها، وتأسف لأولئك الذين أضاعوا أعوامهم وأعمارهم ومهجهم ومقلهم في البحث والتنقيب والتفسير والتنظير والتقصي والتحقيق والتمكين والتدوين لقيامة العرب، فهؤلاء كلهم لم يبلغوا مبلغه من العلم والمعرفة ولم يدركوا أن العرب كانوا أول ما انقرض من الجنس البشري وذلك قبل ظهور جنس الزومبيات . بل لعل الزومبيات نفسها قد ظهرت نتيجة عن تفسخ وتعفن جيفة الكائن الذي كان يسمى قيد حياته العرب""

ثم قال إنه سيدافع أيضا عن أطروحة أخرى في النظرية نفسها يزعم فيها أن العرب ليست لهم قائمة من حكومات أو شعوب وأن هذه الأرض الواسعة الشاسعة إنما هي ساحة تصوير فيلم كبير، وأن المشخصين والممثلين لا يسمح لهم أن يعرفوا أنهم ممثلون، وأن التقنيات المستخدمة في إخراج هذا الفيلم الكبير ستبهر العالم من حيث الزوايا والمنظور، إذ ستقدم للجمهور جمهورا يتفرج على نفسه فرجة حية بلا تمثيل. كما زعم أن الحكومات والمسؤولين والناس المهمين والمسيرين والمنظمين وأصحاب الهراوات وأصحاب الفلس والقرش، يعيشون في جزيرة بعيدة، أو في أماكن تحت الأرض، وأن ما يراه العامة هو فقط صورهم المنقولة عبر تقنيات رقمية غريبة سبق أن فسرها الكاتب المغربي الفذ "نجيب مبارك" في مجموعته البديعة " الأعمال الكاملة للزومبي ". وقال إن كتاب هذا الشاعر والأديب القصاص هو الذي ألهمه هذه النظرية، وإنه يعترف للكاتب المذكور بقصب السبق ويثني على فضله ويحتفظ له بحقه في تقاسم نَسَب الفكرة أو ردها مباشرة إليه.

وأما الأعجوبة السادسة "لأبو النظرية" فلم تكن شيئا آخر غير نظرية كاملة في التواصل الفعال. وهذه نظرية تحتاج وحدها إلى اتقاد في الذهن وفطنة وتشعب في الذكاء لكي تُستوعب أبعادها وتبعات تطبيقها، إذ قال إن مراده بها إحداث ثورة في علم التواصل تتخطى سقف المسموح بالتفكير فيه من معقول الأفكار ومنقولها . .. ومفاد النظرية أنه بعد مراجعته لتاريخ المخلوقات وجد أن الكائن المسمى إنسانا قد خُص بميزة تفرد بها وحده، إذ اجتمعت في جنسه خصائص كل المخلوقات من جمادات وأحياء، ففيه الطوب والحجر وفيه الشمس والقمر وفيه الذهب والتراب وفيه الزهر والشجر والنعناع والكلب والذئب والأفعى والأسد والثور والظلمة والنور والأصفر والبني، إلى ما لا نهاية له من خصائص العناصر الكونية اللامتناهية . وهذه الخصائص والطباع كستها قشرة من الزبدة أو الجبن التي سماها هذا الكائن ثقافة لكي يحجب حقيقته عن الأنظار، فليست الثقافة غير حيلة دفاعية طورها هذا الكائن لكي يستطيع بواسطتها تحقيق متطلبات الغرائز الحيوانية. وهنا يقول أبو النظرية إنه يستعصي على أي كان أن يعرف حقيقة هذا الكائن إن لم يكن مُلِمّا بالعناصر والخصائص الكونية الطبيعية، وقادرا على تمييزها عن عناصر الثقافة في حال ما قُدر له أن يتواصل مع البشر، ذلك أن هذه العناصر موزعة بين الناس بنسب متفاوتة وخلطات مختلفة حسب ما جرت به مقادير كل واحد وبيئته وظروف نشأته.

ثم قال أبو النظرية إن اكتشافه ذاك سيحدث زلزالا في عالم الفكر، وخاصة في مجال الطب النفسي والتحليل الاجتماعي والسياسي، وفي نظرية المعرفة وسوسيولوجيا الثقافة، وإنه سيطالب بإحداث مراصد ومختبرات ومراكز للتدريب على هذه القدرات الجديدة التي لا يمكن أن يحصل عليها من صدئت حواسه بثقافة التجهيل المعاصر، ثم إنه لا يستطيع إتقان هذا الأسلوب الجديد في التواصل الفعال إلا ذلك الذي حافظ على غرائزه البكر متحفزة وعلى حواسه متيقظة، وهذا الأخير وحده، يستطيع وبنظرة واحدة، أن يكشف طبيعة مخاطبه ويعامله على أساسه ذاك،، فأحيانا يكون الواحد أمام حجر أو قمر، وأحيانا يكون أمام زهرة أو شوكة طلح، وأحيانا أمام أسد أو نمر، وأحيانا أمام جراء كلاب وبنات آوى، وهلم جرا،، وما لم يميز الواحد الخصائص الطبيعية لمخاطبه سواء كان صديقا أو مسؤولا أو متحكما نافذا أو نذلا رعديدا فإنه لن يستطيع إدراك الدوافع الحقيقية لسلوكه،، فكم مرة يعتقد الواحد أنه يخاطب رجلا، وهو إنما يكلم حجرة. وكم مرة يعتقد الواحد أنه أمام مسؤول، وهو إنما أمام عقرب أو بغل أو حمار أو بعرة جمل أو حشرة تظن أنها جبل.

وهذه النظرية الأخيرة لعلها (و هي السابعة لأبو النظرية)

 أثارت حماسة النافخ والزامر وحامل المباخر،، فقرروا من يومها أن يصبحوا من مريديه وتابعيه،، وأن يعقدوا له لواء مشيخة النظرية في علم التاريخ والنفس وفي فن التواصل وتقنيات الخطاب .. وفي ما يلي ذلك أو يدخل تحته من فنون القول وعلوم البيان.

 

الحلقة المقبلة: (اللكمة واللقمة)

أو بعض من تأملات الشيخ "أبو النظرية" في تاريخ البشر وأصول التهمج.

 

جمال الدين حريفي.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم