صحيفة المثقف

بين علم النفس والتاريخ

علم النفس الاجتماعي هو ذلك العلم الذي يقوم بالدراسة العلمية لمظاهر سلوك الفرد وخبراته من ناحية، وتشكلها بصورة مباشرة أو غير مباشرة خلال المواقف الاجتماعية، والمقصود بالمواقف أنماط تنظيم المنبهات التي تكون بيئة الفرد، ونقصد بالاجتماعية كل ما نعزوه إلى أفراد ينتمون إلى فصيلة بيولوجية واحدة يدخل فيها الفرد موضوع الدراسة .

ونظرًا لوقوف هذا العلم في موضوعه على الحدود بين علم النفس من ناحية، وبين علم الاجتماع من ناحية أخرى، ولأنه من وجهة النظر التاريخية قام ونما نتيجة لجهود علماء النفس وعلماء الاجتماع معًا، فقد ظل التأليف فيه إلى وقت قريب يكشف عن تيارين : أحدهما تسيطر عليه النظرة الأساسية لعلم النفس، ولكن مع تقدم البحوث التجريبية وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية أخذت شخصية العلم المستقلة تفرض نفسها من خلال طراز المفاهيم التي يستخدمها بوجه خاص

ولكي يفهم المؤرخ تاريخ العلوم أو الفنون في بلد معين، وفي فترة محددة، لابد من دراسة السيكولوجية الاجتماعية، لأنه بدون دراستها من العسير فهم التطور المادي في المجتمع .

وأصحاب الاتجاه المادي يقصدون بالسيكولوجية الاجتماعية العواطف والأفكار التي تسيطر في وقت ما على طبقة اجتماعية معينة في بلد معين، ويقولون أن منبع هذه العواطف هو العلاقات الاجتماعية، ومتى انبثقت أشكال الوعي الإنساني من الحياة الاجتماعية فإنها تصبح جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الاجتماعي .

والواقع أنه لا يمكن لعلم التاريخ أن يقتصر على تشريح المجتمع بل يجب أن تشمل دراسته مجموع الوقائع التي يكيفها تشريح الاقتصاد الاجتماعي بصورة مباشرة أو غير مباشرة .

نقول : إنه من واقعة تاريخية إلا ويسبقها بل ويرافقها ويعقبها حالة معينة من الشعور والوعي، ومن هنا تتأتى أهمية دراسة السيكولوجية الاجتماعية للمجتمع الذي نقوم بدراسته في فترة زمنية معينة، وبدون ذلك لا يمكننا أن نخطو خطوة واحدة في مجالات فهم تيارات الأدب والفن والفلسفة والغناء والموسيقى حتى النكتة التي يقولها الناس تنفيسًا عن همومهم ومتاعبهم الحياتية، وكل ذلك يترجم سيكولوجيا الشعب تجاه قضايا معلنة أو مكبوتة .

فعندما نكتب ـ مثلا ـ أن المؤرخ الفلاني ترجم بصدق عن عصر النهضة، فهذا يعني أنه اندمج تمامًا مع الروح السائدة في الطبقات المؤثرة في نمط الحياة الاجتماعية خلال هذا العصر، ويرى الماديون أن السيكولوجية الاجتماعية تتغير بتغير العلاقات الاجتماعية، وإذا ثبتت إحداها بقيت الأخرى على حالها، وكثيرًا ما قرأنا في المراجع والمصادر تعبيرات مثل (روح العصر) و(طبيعة الأمة) التي هي انعكاس للسيكولوجية، ويحدث انعكاسها تغيرًا في ظهور معتقدات وأفكار جديدة واتجاهات فنية وابتكارات حديثة .

إن دراسة السيكولوجية الاجتماعية تساعد الباحث أو الكاتب في الدراسات الإنسانية، وكذلك الباحث التاريخي، تساعده على أمرين في غاية الأهمية بالنسبة للبحث التاريخي: أولهما تشخيص الحقائق التاريخية، وثانيهما وضع تفسير أو مبادئ لتفسيرها، فضلا على أن المؤرخ يستطيع أن يكسب ويتعلم أمور جديدة من علم النفس الاجتماعي، مثل : مفهوم عقدة انقص عند القادة والشعوب، والانطواء والكبت وغيرها من سائر الأمراض النفسية التي قد تنتشر في مجتمع معين، كل ذلك بالقطع سوف يهذب ويصقل الكفاءة الإدراكية للباحث، كما أنه يساعد على اكتشاف ما هو واضح .

لقد وضع فرويد أساس التحليل النفسي في صورة عملية طبية، ملأت فراغًا وفتحت مجالا جديدًا للبحث، وعن طريق دراسة علم الأمراض  النفسية، وتفسير الأحلام، ودراسة الخطأ الإنساني، كل ذلك كون نظرات نافذة وراء الدوافع الإنسانية نتيجة تأثير المجتمع، أو نتيجة اللاشعور، وعلى سبيل المثال فسر فرويد الإسقاط، وهي عملية ينسب بها الشخص لغيره صفاته أو دوافعه المكبوتة، والكبت هو طرد الشيء من حيز الإدراك الواعي أو الشعور، بينما يبقى في اللاشعور، وكذلك فسر رد الفعل، وفسر العزل وهو فصل الأفكار عن العاطفة مما يولد القلق، وفسر التبرير الذي هو اختراع أسباب معقولة في الظاهر لتعليل سلوك ذي دوافع باطنية .

ولا شك في أن المؤرخ أو الباحث لا بد وأن تهمه قضايا  اجتماعية / نفسية مثل : تفسيرات ظهور الزعيم أو المخلص التي يقدمها هذا الفرع من الدراسات، بالرغم من أن بعض المؤرخين الماديين يختلفون معها ويقدمون لظهور الزعيم تفسيرات اقتصادية وثقافية في المقام الأول .

وهناك دراسة أخرى يجب أن يطلع عليها أهل الثقافة وهي دراسة سيكولوجية الزعامة والقادة الذين غيروا وجه الأحداث، إذ اعتاد علماء النفس الاجتماعي أن يلتمسوا في الزعماء والقادة صفات معينة من الشخصية، كما أن له دور اجتماعي يحدده أفراد مجتمعه، ومن ثم يستطيع الباحث أن يتسلل إلى نفسية القادة، ويقرأ ما بين السطور عندما يحلل تصرفاتهم وقراراتهم .

إن مجتمعات ما قبل التاريخ حيث تندر المواد التي نكتب منها والأدلة والبراهين التاريخية، لا بد وأن نعتمد في دراستنا لهذه المجتمعات على علم النفس الاجتماعي، لأنه مع القلة القليلة من مخلفات الماضي يمكن أن نقدم صورة مقبولة للباحثين والدارسين والمثقفين .

إنه من الضروري للكاتب التاريخي أيضًا أن يعتني عندما يجمع مادته التاريخية بالمؤلفات والدراسات والأبحاث الخاصة بسير العظماء وكذلك التراجم التي تدور حولهم، فمن خلالها يستطيع استكشاف بعض المعرفة الخاصة بأساليب المعايشة النفسية، فإذا واجه الباحث مسألة وضع سيرة تفسيرية فإنه إذا كان مدربًا على المناهج النفسية فإنه يقوم بوضع تحليلات جيدة تمدنا بمفاتيح لفهم الدوافع في تصرفات الزعيم أو القائد، ونوعية الترف الذي سوف يقوم به لو واجهته حالة معينة .

وأخيرًا نقرر : إن ميدان التعاون بين علم التاريخ وعلم النفس الاجتماعي ميدان بكر وجديد، هذا الميدان المهم سوف يفتح أمام المؤرخين آفاقًا لا حدود لها للبحث التاريخي، وسيكون ذلك مدعاة لإعادة النظر في كل ما كتب من أعمال تاريخية، اعتمد كتابها على أدلة مادية قد تكون إيجابية من ناحية كونها مادة تاريخية لكنها لا تسبر الأعماق، ولا تسبر أغوار نفس الإنسان البشرية التي حركته ليقوم بما قام به من أعمال .

لقد أصبح التعاون بين التاريخ والعلوم الإنسانية في العصر الحديث أمرًا ضروريًا، وذلك من أجل استكشاف حقيقة الماضي بشكل علمي سليم .

إن مجال التعاون واسع يفتح آفاقًا جديدة للباحثين ويساعدهم على إعادة النظر في كل ما كتب من مؤلفات عن التاريخ بصورة أكثر وعيًا  ونفاذًا، خاصة أن جميع العلوم تتجه في عصرنا الحاضر إلى التعاون والتفاعل والتلاقي حتى يستفيد بعضها من البعض .

إن العلوم بالرغم من تفرقها وتخصصها تلتقي في جهة واحدة ألا وهي المعرفة الإنسانية، وعن طريق الإلمام بهذه العلوم المساعدة إلمامًا عامًا واعيًا يستطيع الباحث و الدارس والكاتب التاريخي أن يصنع لنفسه معيارًا نقديًا خاصًا وأسلوبًا منهجيًا موفقًا بنفسه ولنفسه .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني عبد الله - باحث وخبير في التراث الثقافي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم