صحيفة المثقف

فكرة حوار المبادرة التاريخية بين المتخاصمين على السلطة في العراق كيف تتحقق؟

فكرة الحوار، فكرة عقلية ناجحة اذا رافقها التوازن بين المتحاورين، وبالتعاون بينهم بصدق تتحقق الأهداف ، فكرة نتوسم فيها الكثير من الحكمة والأناة والمرونة ، والألتجاء اليها للأستعانة بتقريب وجهات النظر بين المتحاورين الذين قد يختلفون في قضية او مشكلة او فكرة معينة، ليفتحوا بينهم ما أنغلق من منافذ التفاهم، لمواصلة خطوات التعاون، وغلق ابواب الخصومة لأستئناف الحياة الطبيعية التي تتحسن معها العلاقة، وتتجدد الأنشطة لمعرفة الحقيقة التي قد تكون غائبة بين المتحاورين.شرط ان تكون النيات صافية، والقلوب متآلفة،

فكيف يكون الحوار والكل في خلاف دائم ... ؟

الدعوة الى العقلانية التي هي مصدر الحكمة والواقع، لفض النزاعات وتوحيد الأراء، جاء بها الفيلسوف اليوناني أفلاطون (ت347 ق.م) في بحثة عن جمهورية العدالة بين الناس، والقرآن استند على العدالة والحق والوصايا العشر ولا غير، لان العدالة هي الجوهر في كل عمل جاد، وهي دعوة الحوار الجاد المثمر بين كل اصحاب نظريات الاختلاف وغيرهم ممن لا ينتمون لرأي معين، يبقى الخيط الاساس بينهم هو تحقيق الاهداف بين الناس في الحقوق وليس المصالح الخاصة، وهو هدف كل المصلحين الذين يريدون ان يلتمسوا سبيل الرشاد لأستجلاء الحقيقة لأوطانهم الضائعة او المسلوبة الارادة اليوم، وبه توصلت الشعوب الى احسن القوانين والحماية الاجتماعية لها بعد ان نزعت من رأسها فكرة المصلحة والآنا.

حين طرح الآوربيون فكرة التقدم في عصر الانوار على طريقة الحوار، استطاع العلماء آنذاك الخروج من عصر الركود في العصور الوسطى الى عصر النهضة التي وَلدت لهم كل هذا التقدم التكنولوجي والعلمي ونقلت العالم بأسره الى عصر الذرة ومختلف المخترعات التكنولوجية التي أذهلت العقول ولا زالت مع الايام تأتي بجديد. بينما بقي الفكر العربي الاسلامي جامدا يدور في حلقات طوباوية مفرغة ليس لها من اصل او تجديد، بحجة ان ذلك يتعارض مع الدين، فكانت نتيجة ذلك ان قدم الفقهاء ومرجعيات الدين الفرقة والتباعد والتخلف ولا زلنا نهرول خلفها دون تأكيد.

الماوردي، والغزالي، وابن تيمية، والفكر الوهابي، وولاية الفقيه وغيرها كثير. .

يقول اسحاق نيوتن :ان التطور قام على اساس قيام المجتمع الجديد الذي يُبنى على أسس اجتماعية واقتصادية جديدة وفق قوانين ثابته في تأمين حقوق الناس في المجتمع الواحد دون تدخل مؤسسات الدين..ومنه تنطلق حركة التغيير. هذا التطور يقوم على قاعدتين هما:

الفكر العلمي...ثم استقرار فكرة التقدم في الأذهان. وهذا الذي جرى في اوربا في بداية القرن السابع عشروالذي اطلق عليه أسم : "عصر الانوار"، وقد تولى قيادة هذا العصر المفكرون والفلاسفة وأهل العلم جميعا بعيدا عن اللاهوت الديني الذي جمد العقول وحصر المعرفة برجال الكنيسة آنذاك حتى عدوا انفسهم هم الوحيدون الذين يملكون معرفة اسرار الكون، وهم المقدسون.او كما سَموا أنفسهم بأهل المعرفة والعرفان. ألم نكن نحن العرب بهذه العقلية الميتة الى اليوم ولا زلنا نؤمن : بنظرية قدس الله سرهم...ونهرول خلف مؤسسة الدين؟

بهؤلاء العلماء الأفذاذ الذين تحدوا الفكر القديم والذين وضعوا حداً للركود الفكري والسياسي والاجتماعي الذي كان سائداً تحت سيطرة الكنيسة ورجال الدين، ذلك العصر الذي تمثل بروما الغربية قبل القرن السابع عشر، وبداية صنع عصر اوربي علمي جديد يهدف الى تهديم الفكر الجامد القديم وخاصة في فرنسا واوربا بعد الثورة الفرنسية علم 1789 والتي هزمت القديم وأن لم تهدمه، وانتقلت القوة الى الجماهير وتأسيس الدساتير وحقوق الفرد على اساس الحرية والأخاء والمساواة وابعاد الكنيسة ورجال الدين عن معترك الحياة وحقوق الناس. فظهرت فكرة التقدم في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية، ثم في ميدان التطبيق العملي لقواعد العلم الجديد، وهو ما نسميه اليوم بالتكنولوجيا. ولازال العالم ينتظر المزيد من التقدم في بلادهم.... ونحن في تأخر مستمر ؟ لا بل لا زلنا نتظاهر ونريد الاصلاح تحت عباءة الدين..؟ ان فاقد الشيء لا يعطيه.

هذه النقلة الكبرى ظهرت بعد ظهور نظرية آدم سمث في كتابه ثروة الأمم، وكارل ماركس ولنين في نظرية رأس المال وهنري لاسال وما سيتونغ في علم الاجتماع، الذين زعزعوا مركز البرجوازية الاوربية ونقلوها الى حيرة العالم الجديد. فماذا قدمت الحركة الدينية الأسلامية للمسلمين ..؟ غير المذهبية والطائفية ونظريات الحلال والحرام وأفكار القاعدة وداعش الانهزامية، وتدمير المعتزلة وقكر المآمون وأخوان الصفا وأبن رشد وكل المتنورين ؟

الفكرة الأوربية ارتكزت على مرتكزات اساسية هي : المناداة بالحرية والمساواة والقانون، وفصل مؤسسة السياسة عن مؤسسة الدين، وحقوق الناس عن سلطة الدولة ...كانت خطوات جبارة لنقل العالم الى كل جديد. ولم تظهر هذه الحركة على مستوى التطبيق الا حينما نادت الحركة الموسوعية الاوربية بفكرة التقدم ونبذ القديم وتحجيم الكنيسة ونقل الحقوق الى الجماهير.لأن رجال الدين في غالبتهم من الأنانيين الذين لا يعترفون بحقوق الاخرين ويعدون انفسهم فوق الناس في الحقوق بغض النظر عما يملكون من المعرفة الضيقة والافكار المتخلفة التي لا علاقة لها بالفكر والحرية والتقدم.لذا فأن المجتمعات التي ظلت تهرول خلفهم لا زالت متقوقعة بلباس الدين والتخلف، كما في الوطن العربي والاسلامي اليوم...

.والعراق اليوم... مثالا.

ثم جاء الموسوعيون من أمثال مونتسكيو(القرن الثامن عشر ) وكتابه روح القوانين، والذي نادى به الى أحياء فكرة الارتباط بين التشريعات القانونية والقوانين التي تحكم حركة الطبيعة لاستخراج قوانين صالحة لتنظيم المجتمع وتحقيق الحقوق وفق اسس ثابتة ليس بمقدور الحاكم تغييرها. اي الدساتير الثابتة التي كتبت من قبل فقهاء الدستور المتخصصين، وليس من فقهاء المحتلين حتى اصبحت سياجا لاوطانهم تحميهم من كل تغييرلا يعمل لصالحهم. وبقينا نحن اسرى دستور لغزوُ ملفوف بالغموض، متناقض في التحديد ؟

ثم جاء من بعده العالم (فون موزر) بنفس القرن الذي نادى بضرورة معرفة اسباب العلل في التخلف، وفي هذا الخصوص لم يكونوا هم اول من قال بهذا التوجه العلمي الجديد. بل سبقتهم المعتزلة في القرن الثاني الهجري حين نادت باثبات الحقيقة بالدليل، وقالت ان التاريخ يسير وفق خط متصل لا تنقطع حلقاته وان التقدم تزداد سرعته من تراكم ثمرات التجارب العلمية الصغيرة التي تكبر مع الايام حتى تقترب من النضج وان القرآن مُحدث ولا يتناقض مع الحقيقة التاريخية في التطور والتحديث، لأن نصه ثابت ومحتواه متحرك.

.ولقد حاول المآمون العباسي (ت198للهجرة) تحويل النظريات الى تطبيق بعد بناءه لمكتبة الحكمة وتأييده لحركة الاعتزال العلمية، لكن وفاته المبكرة ومجيء المتوكل المتخلف (سنة 232للهجرة ) وسيطرة مؤسسة الدين المتزمتةعليه قد اوقف العملية العلمية وحولها الى فكر ديني بحت غلفه بالتخريف .من هنا كانت بداية التوقف العلمي في بلاد المسلمين ..وانا واثق من ان الدول الاسلامية التي فتحها العرب ونشروا فيها الاسلام وطبقوا فيها نظرية الدواعش لو بقيت على دياناتها لكانت اليوم متقدمة مثل الأوربيين؟ اسبانيا والبرتغال مثالا حين استطاعت الخروج من شرنقة اسلام المتخلفين فعادت الى حضيرة المتقدمين .

ان الموسوعة العلمية التي كتبها العلماء في اوربا قد غيرت المفاهيم المتوارثة عندهم تماما حين طرحوا مشروع الفكر والحرية والتقدم، وهاجموا القديم بعنف دون توقيرلشيء من الموروثً، حتى استطاعوا وبفعل الاصرار والتضحيات ان يكتبوا الموسوعة العلمية بشكل جديد في كل فرع من فروع العلوم حين تبناها أعلام الفكر الجديد في عصر الانوار الكبير.فأنجزوا لهم :

تغيير المفاهيم المتوارثة في أكثر من ميدان من ميادين المعرفة، لأن المشرفين على تحريرها، وكل الذين كتبوا موادها كانوا من المتفائلين بالمستقبل العلمي الكبير، والذين نفضوا ايديهم من الماضي المعتم الذي صنعه رجال الدين فأشتركوا في صنع رؤية جديدة لمستقبل الانسان قائمة على العقل والعلم والحرية. وهذا الذي لم تستطع مؤسسة الدولة الاسلامية ان تصنعه لربطهم مفرادات الحياة بتوجهات الدين. ولنسأل ماذا قدمت مؤسسة الدين للعراقيين خلال 13 سنة بعد التغيير..؟ سوى الفرقة المذهبية وتخلف المرأة والتدمير..؟ وهم المتنعمون بأموال الناس بالباطل دون حدود .

الآوربيون نادوا بفكرة تحديد سلطات الدولة عن حقوق الناس حتى اصبح القانون فوق المَلك او الامبراطور وراي الكنيسة ورجال الدين، وهذا لم يتحقق فينا بالمطلق. من هنا كسب الناس حرية الحركة وحرية العمل وحرية القول دون تأثير وهي التي بهرت العقول ونقلتها الى عالم الابتكار والتطبيق.

نعود لأفلاطون حين اراد ان يُفهم حقيقة الفرد في أكتسابه لفضيلة العدل بالمفهوم العام (فضيلة الأتزان )الذي به ولد المنهج السديد، حين اصبحت المعاني المطروحة للعدالة موضع التطبيق.وبذلك رسمت صورة الدولة المثلى التي تخطط للانسان الأمثل في الاستقرار والحقوق ..فأين دولة المسلمين من هذا التوجه العلمي الرصين وأفلاطون سبقهم بعصور؟

وهل كان للمسلمين مشروعاً للدولة ؟

الرأي السائد بين علماء المسلمين ان العلم يعوق مجرى الحياة كما في موقفهم من غزو القمر وتبديل القلوب المريضة بأخرى صالحة، فكانت نظرية الحلال الحرام المبتكرة منهم، لأن القرآن أعترف بنظرية النواهي والأحكام وليس بنظرية الحلال والحرام، لكونه يحتوي على الآيات الحدية والحدودية وأيات النصح والأرشاد، حتى اصبحت نظرياتهم تتصدرالاحكام المخترعة منهم، وهي التي تتصدر فتاواهم المريضة .. في الجهاد وحقوق المرأة وكل ما يعوق سبل التقدم الاجتماعي عند المسلمين، علما ان القرآن لا يعترف بهم ولم يخولهم حق الفتوى على الناس ابداً. لكي يبقى المعيار العلمي هو الاساس، هؤلاء العلماء لا مكانة لهم في بلادنا بدليل بعد التغييرفي 2003 نحن اول ما اقدمنا عليه هو تصفية العلماء الحقيقيين وبعلم المسئولين ..؟ ليبقى العقل عدوا للدين في بلادنا مادمنا نُحكم من مرجعيات الدين؟

وبمرور الزمن حجب العقل ورؤية الاهداف وسادت العاطفة والرغبة ، فأنغلقت امامه سبل الوصول للحرية والتقدم، فعاش الانسان العربي ميتا بثوب الأحياء..دون تجديد؟

فهل سنبقى نعيش على الحدس والتخمين وحكم الماورائيات لننتظر المهدي المنتظر لينقذنا من ظلم الاخرين...؟نعم نحن نجمع هواء في شبك...؟ لأننا سنبقى في العرض لا في الجوهر والاساس.

هكذا تناول الدكتور علي الوردي (ت1995 م) هذا الموضوع بالدراسة في بحوثة في فلسفة علم الاجتماع فعدوه متجاوزا على علم الآديان...مات علي الوردي وبقي علمه مخزونا في صدور الرجال ينتظر يوم موت رجال الدين ...ليعود الينا مرة اخرى يحتل الصدارة بعد بعث جديد.

اذا استطعنا ان نتجاوز العقبات ...بعدها علينا ان نطرح المبادرة التاريخية التي طرحتها سلطة التدمير في عراق المظاليم..؟ لتبقى تحتفظ بمصالح الساكنين الخضراء من اصحاب الدماء الزرقاء دون الجماهير...؟

لا حل امام العراقيين سوى التخلي عمن خان الوطن والدين... والألتفاف حول حزب قوي جديد يحمل شعار الحرية والعدالة والتقدم بصحيح، ويستبعد رجال الدين، ليطرح منهجا جديدا في دستور جديد ومجلس أمة ينتخب لكل ناخب، منتخب واحد، ويستبعد المقسم الانتخابي والتعيين والتبديل ويرمي كل من ساهم من هؤلاء القتلة والمجرمين خلف ظهره في حكم الدولة بعد التغيير..؟، ليكون له قاعدة جماهيرية جديدة تستطيع ان تنزع السلطة من المغتصبين ورجال الدين..والا فاقد الشيء لا يعطيه ... وما هذه المبادرة الا لامتصاص غضب الجماهير... وتأمين مصالح المغتصبين ...؟

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم