صحيفة المثقف

قراءة فلسفية لرواية ساق البامبو.. جدلية العلاقة بين تيمة السلطة وتيمة الحق (2)

2 – جدلية العلاقة بين تيمة السلطة وتيمة الحق في نص رواية ساق البامبو

تشتغل تيمة السلطة، بامتداداتها النصية والدلالية والخطابية المختلفة، في سياق نص رواية ساق البامبو، كمكون دلالي كلي مهيمن، في علاقته الصراعية الخاضعة للنمو والتطور، عبر الجزأين الروائيين للنص، مع تيمة الحق المضادة، بمكوناتها التابعة لها دلاليا ووظيفيا ومبدئيا. هذه العلاقة التي لم تنته كما بدأت نصيا، وإنما تدرجت عبر عدة مراحل، وخضعت أيضا للكثير من التطورات العديدة، والتحولات النوعية الأساسية، حسب مسارات وقائع السرد الروائي للنص، انسجاما مع لعبة جدلية، تلعبها بالحكي والسرد الروائي، شخوص روائية متعبة، عرفت كيف تجعل من معاناتها وأحلامها، بالحكي الشفوي (جوزافين) أو بالكتابة الإبداعية (عيسى \ هوزيه)، سلطة مضادة لقيم بارزة قادتها يقينا إلى بوابة النصر المنشود.  بحيث كانت الغلبة والسيطرة الواضحة لتجليات تيمة السلطة، بمعناها القهري والقمعي الإكراهي (ميندوزا \ غنيمة)، ضدّ مظاهر تيمة الحق، بمكوناتها القيمية الإنسانية (جوزافين \ راشد) في بداية الرواية (الجزء الأول). في حين، تميز وسط النص بعلاقة صراعية متكافئة، سادها نوع من التوازن والتراضي، غير أن بوادر نهاية النص تميزت بالعودة القوية لتيمة الحق، بتحكمها المتين، وبمكوناتها القيمية والإنسانية الهادفة والعليا، في هذا الصراع والتفاعل الجدلي بين التيمتين، وبالتالي صارت رموز قوة الحق وأبعاده الحقوقية كمبادئ في النص الروائي، هي القوة الفارضة لمنطقها الفكري الجمالي والثقافي والاجتماعي، وأيضا لمنطقها السردي والفضائي والزمني .. (الجزء الثاني)  .

فما هي مواصفات وتجليات هذه العلاقة الصراعية بين تيمة السلطة وتيمة الحق، في نص ساق البامبو الذي نحن بصدد قراءته ؟  

2-1  الجزء الأول من الرواية (ص17- ص 150): جوزافين الفلبينية، تحكي كأم لابنها هوزيه: الطفل والصبي حتى حدود المراهقة، شاهدة على تناقضات مجتمعها، ومفارقات تيمة السلطة في علاقتها بتيمة الحق، في نص الرواية .

   2-1-1 لحظة التجليات: جدلية السلطة كفاعِل مُهيمِن، ضدّ قوة الحق، كموضوع مُنفعِل ومُهيمَن عليه .

 في البدء، عملنا على تحديد فضاء هذا الجزء الأول من الرواية، من الصفحة 17 إلى الصفحة 150، اعتمادا على مفصل فكري ودلالي أساسي، متمثل في اعتراف سارد النص (شخصية هوزيه) بذاته، ومصالحته مع حقيقة وضعيته السيكولوجية والفكرية (الواقع والذاكرة)، كشكل من الأشكال الدلالية الذي اختاره النص عامة، في سياق الدعم غير المباشر لتيمة الحق، باعتبارها هنا: البحث المستمر عن هوية شخصية هوزيه المفتقدة (الهوية الكويتية)، ضدّا على قوة وجبروت تيمة السلطة (الواقع والنسيان). هكذا نلاحظ كيف نجح النص في تشغيل آلية الذاكرة كجزء من الهوية لدعم أطروحة تيمة الحق.  في حين، ارتبطت تيمة السلطة في النص بآلية النسيان كوجه آخر لممارسة السلطة، وعرقلة فعل تحقيق الوصول وانتزاع الحق من طرف أصحابه الشرعيين. وبالتالي، نكون هنا بصدد علاقة جدلية صغرى بين آلية الذاكرة التي تخدم تيمة الحق، وبين آلية النسيان التي تخدم تيمة السلطة. فينشأ هنا عن هذا التفاعل والتجاذب بين الجانبين ما سميناه بالصراع الجدلي بين قوة فاعِلة مُهيمِنة (سلطة النسيان)، وبين قوة مُنفعَلة مُهيمَن عليها (سلطة الذاكرة). وهو الوجه الآخر المكتمل لوضعية الأصل: الصورة الجدلية الكبرى للعلاقة بين تيمة الحق وتيمة السلطة في الرواية.

ويمكننا التمييز، في نص ساق البامبو، وأساسا في الجزء الأول من الرواية الذي يغطي الفضاء الروائي الفلبيني، كما يغطي الفضاء الروائي الكويتي كمكان وكزمان وكمجتمع، وعلاقات خطابية وأحداث سردية، بين محورين رئيسيين لنسق تيمة السلطة، باعتبارها هنا سلطة رمزية واجتماعية، تعبر عن وضعية الفقر والتناقضات المجتمعية، وتمثلات الجهل المركب ومفارقات الذهنية البشرية المستبدة، نتيجة لذلك الجهل المرتبط بدوره بالواقع المجتمعي الفقير، وبالإقصاء الاقتصادي والمعرفي الممنهج؛ المتسم بالضعف والتهميش والهشاشة العامة .

أ - في الفضاء  الفلبيني 

يمكننا النظر إلى شخصية "ميندوزا" كعنصر محوري، يؤدي في النص ككلية سردية، وفي هذا الجزء  الأول من الرواية بالذات، وظيفة التأسيس الدلالي والفكري والخطابي السردي لقاعدة تيمة السلطة الصلبة، باعتبارها تمارس فعل الاستبداد والقهر والجبروت في حق الآخرين المحيطين بها، والمتواجدين ضرورة في نسقها الاجتماعي والتربوي والثقافي ( الحقل الاجتماعي الأسري والعائلي) .

يقول هوزيه، مشخصا الوضع الاجتماعي الفقير العام لأسرته الفلبينية، والتي من أجلها اضطرت أمه الشابة (جوزافين )، في سن الزهور، لاختيار سبيل الهجرة  إلى أرض الغربة بالكويت، لتعمل هناك كخادمة في بيت أسرة ميسورة الحال: " ساقت الظروف والدتي لترك بلادها وأهلها وأصدقائها للعمل في الخارج، وعلى صعوبة هذا، بالنسبة لفتاة في العشرين من عمرها، فإن مصيرها كان أفضل بكثير من ذلك الذي سيقت إليه أختها، آيدا، التي تكبرها بثلاث أعوام.  فحين تحالف الجوع مع مرض والدتها والديون التي أثقلت كاهل والدها المقامر، الذي أفنى ماله في تربية ديوك المصارعة، لم يجد الأبوان بدا من تقديم ابنتهما البكر، ذات السبعة عشرة آنذاك، مجبرة، إلى سمسار يوفر لها فرصة عمل في مراقص وحانات المنطقة، والنزول عند شرطه بأن يأخذ حصته، جسدا ونقدا، من الفتاة في نهاية كل يوم عمل"(15) . 

تشتغل تيمة السلطة هنا، باعتبارها سلطة الفقر  والحاجة والإقصاء الاجتماعي؛ من حيث إن قمة هذه السلطة؛ والمنفذ لفعلها التدميري الذي هو الأب ميندوزا، يعدّ المسؤول غير المباشر  عن دفع البنت آيدا لامتهان البغاء، وبالتالي إحداث شرخ عميق في الجسد الاعتباري والقيمي والأخلاقي لأسرة جوزافين أولا، وفي الجسد السردي لتيمة الحق ثانيا، لأن شخصية آيدا التي كانت مُكرهة لبيع جسدها، تحقيقا لكسب القوت اليومي لوالديها الضعيفين العاجزين، ستتمرد لاحقا على وضعها البئيس، وتعلن عصيانها الغاضب ضدّ سلطة والدها المستبد، هذه السلطة الأخيرة التي تشكل حسب النص الأداة الأساس المنجِزة لسلطة واقع الفقر الاقتصادي والاجتماعي لأسرة ميندوزا.. 

قال هوزيه، كسارد ثان لحكاية أمه جوزافين، التي تعتبر السارد الأول والأصلي، لتفاصيل رواية النص: "صارت آيدا مصدر دخل للعائلة، تعود مع ساعات الفجر الأولى حاملة حقيبتها الصغيرة في يدها، تحتوي على ما تنتظره أمها المريضة وأبوها المقامر بفارغ الصبر  "(16) .  غير أنها، وعلى إثر إنجابها لابنتها الوحيدة ميرلا، تمردت آيدا ضدّ سلطة واقع القهر  الذي تعاني منه أسرتها، ورفضت الاستمرار في لعبة لا تقتنع بها في الأصل.  لكن هذا الموقف المضاد  الذي أنتجته تيمة الحق باسم شخصية آيدا القوية، لم يتحقق إلا بعد خروجها عن سلوك الصمت والخوف والخضوع الذي كان يسيطر عليها سابقا، وإعلان مواجهتها المباشرة لقهر سلطة أبيها المستبدة، دون وعي ولا قصد منه طبعا .

قالت آيدا ثائرة وغاضبة في وجه والدها ميندوزا، معلنة عصيانها ضدّ جبروته  ذات صباح :

" -  كل الرجال الذين قدمت لهم جسدي .. ديوك ..

شيء من الندم، أو ربما الخوف، بدا على وجه أبي الذي لم يتزحزح من مكانه"(17).  فتمكنت بعد ذلك آيدا من تحقيق حريتها التي تحلم بها، ووضعت حدا لاستبداد والدها.  قالت جوزافين تحكي لابنها هوزيه: "ليتني كنت أستطيع التخلص من عبوديتي أنا الأخرى، ولكنني لست آيدا "(18) .

غير أن الأب ميندوزا، في مرحلة متطورة من المسار السردي والخطابي للنص، سيكشف هو نفسه عن جانب مهم من واقع حقيقة سيكولوجيته المتدمرة، بفعل تجربة الحرب القاسية  التي عاشها وخضع لتأثيرها في الحرب الفيتنامية عام  1966، ليرفع النص ها هنا، ونتيجة لذلك، رهان تحد جديد يغني به تكوين بناءه السردي والروائي العام، خاصة على مستواه الخطابي، ونعني به بعده التسجيلي والتاريخي الواقعي الذي تمّ استحضاره في أكثر من موقف روائي.  يقول السارد هوزيه، نقلا عن والدته جوزافين: "في جبال فيتنام، سلب الثوار الموالين للشمال إنسانية أبي"(19) . ثم بعد ذلك، يعترف ميندوزا بمدى تأثير الحرب على ذاكرته وعقله.  يقول متحدثا مع جوزافين، بعد انتشار خبر مشاركة زوجها راشد الطاروف كجندي في الحرب العراقية الكويتية  (1991):

" - أتمنى أن لا يفقد في الحرب ..

يقول .. مخاطبا لا أحد.  في حين تنقر والدتي خشب الأريكة، حيث تجلس، بمفاصل أصابعها  يردف جدي:

-  أو تفقد الحرب عقله  ..

اعتراف ضمني من ميندوزا، صاحب الحرب الحربية، يشي باضطراب عقله هو الآخر.. "(20) . ثم يضيف قائلا :

-  هكذا هي الحرب  ..

يتحدث من دون أن يوجه كلامه لأحد. عيناه ثابتتان على شيء ما، وكأنه يشاهد صورا في أعماقه:

-  ليست الحرب هي القتال في ساحة المعركة، بل تلك التي تشتعل في نفوس أطرافها. تنتهي الأولى، والثانية تدوم"(21) .

هكذا يبدو تأثير الحرب على نفسية وذهنية ميندوزا واضحا، وبالتالي يمكن القول، إن تيمة الحرب كآلية دلالية، اعتمدها النص كإحدى العوامل المساعدة لتنفيذ مخطط تيمة السلطة، باعتبارها فعل عنف اجتماعي واقتصادي وثقافي، وجد لخدمة وظيفتها التكسيرية والتدميرية في حق باقي مكونات تيمة الحق كالهوية والذاكرة والحرية .. الخ. 

وإذا نجحت آيدا في عملية مواجهة والدها والتمرد ضدّه، بعد استعبادها واستغلالها لأمد طويل باسم قيمة الأبوية، فإن أختها الصغرى جوزافين، وأمّ هوزيه، كسارد أصلي (المحكي الشفوي) لنص ساق البامبو، قاومت تعسّف وجبروت الأب ميندوزا، بالهجرة إلى بلاد الغربة في الكويت، حيث ستعمل هناك كخادمة، في منزل إحدى الأسر المحلية الغنية. لتحقق بذلك تيمة السلطة فعل عنف رمزي عميق الأثر، باعتباره فعل نتاج أوضاع واقع الفقر الاجتماعي، وأيضا الفقر الذهني والمعرفي. وبالتالي، كانت قوة السلطة هنا، محاولة لإخضاع آيدا، لرغبتها الوظيفية التدميرية (تدمير منظومة القيم)، على الأقل في مرحلتها الأولى، تحقيقا لفعل تعسفي أكثر شراسة، يمكننا نعته بفعل مرحلة العبودية، كما جاء على لسانها هي نفسها، لتنتفض آيدا ضدّه، لاحقا، بعد مرارة خضوعها المكره الطويل لتجربة حياة لم تقتنع بها، وأيضا لعدم قدرتها على الاستمرار في مسار نفس اللعبة، في مرحلتها الثانية التي يمكننا تسميتها بمرحلة التحرر والحرية.

في المقابل، استطاعت شقيقتها جوزافين، وبسبب ميولاتها الثقافية والمعرفية، الاحتفاظ بالوجه القيمي لأسرتها ولإنسانيتها، وأيضا الانفلات من فعل الإكراه الاستعبادي والاستغلالي، الذي أنتجه قهر السلطة الاجتماعية في حق أختها الكبرى آيدا بالفلبين .

يقول السارد هوزيه: " كانت أمي لا تحلم بأكثر  من أن تقتني كتابا بين وقت  وآخر، تشتريه أو تستعيره من إحدى زميلاتها في الفصل.  تقول " قرأت الكثير من الروايات، الخيالية منها والواقعية" (22) .

ثم يضيف السارد نقلا  كلام أمه دائما، في علاقتها بالكتابة والقراءة، باعتبارهما مدخلها الأساس إلى قلب وفكر  زوجها هي، وأبيه هو: راشد الطاروف، في الكويت، قبل العودة إلى الفلبين، مطرودة من بيت السيدة الكبيرة، أم راشد: غنيمة، بعد افتضاح أمر حملها معه، في إطار العلاقة الزوجية غير المعترف بها (الزواج العرفي)، من طرف سلطة الذهنية التقليدية، ذات النزوع المحافظ والطبقي والانغلاق المتشدد.

تقول: " كان سعيدا بي، كما يقول، لأنني مثله أحب القراءة"(23) .

هكذا نستنتج أن تيمة السلطة المنجزة هنا، باعتبارها رمزية إكراهية واجتماعية، من خلال مواقف الأب ميندوزا النفعية والاستبدادية تجاه محيطه العائلي والأسري الصغير، حاولت مواصلة عملها التأثيري التكسيري، وفعلها الوظيفي التدميري، كسلطة عنف مُهيمِنة، في دينامية النص السردية، وخاصة على مستوى تيمة الحق، في بعدها القيمي والاعتباري. غير أن هذه الأخيرة (تيمة الحق)، وفي سياق صراعها المستميت مع عنف السلطة والتسلط الممارس ضدّها، اعتمدت في حالة آيدا ضدّ ميندوزا، على آلية التجريب والتمرد التي يستند إليها نص ساق البامبو، كشكل دائري واسع مكوّن لتيمة الحق، وكعنصر وظيفي أساسي، يشتغل في إطار الدور التكميلي المساعد لتيمة الهوية، تحقيقا لأفق تيمة الحرية والتحرر والانعتاق الكامل للذات والذاكرة .

هكذا يصل بنا التحليل إلى التأكيد على ملاحظة وجود نوع من دينامية علاقات التيمات في نص ساق البامبو، ككل متناغم فنيا ودلاليا. تستند تيمة الحق هنا، دائما في هذا الجزء الأول من الرواية، في حالة جوزافين ضدّ الأب ميندوزا، إلى آلية القراءة والمعرفة، كآلية مهمة اعتمدها النص لإنقاذ جوزافين ولو نسبيا، كمرحلة أولى، من واقع الاستعباد السلطوي والاستبدادي، ولجهل وجبروت والدها ميندوزا، من جهة، ومن عنف تيمة السلطة، الأكثر تشددا وانحلالا وتفككا، في الفضاء الفلبيني، من جهة أخرى .

ب - في الفضاء  الكويتي 

إذا كانت تيمة السلطة في الفضاء الفلبيني، الخاص بهذا الجزء الأول من الرواية، فعل إكراه وعنف، ضدّ  شخصية آيدا، يبيح فيه الأب (ميندوزا) بيع جسد ابنته، مخالفة للتقليد الأخلاقي العام، وانسجاما مع واقع الفقر الاجتماعي الذي يعيشه، فإنها في الفضاء الكويتي، تقوم تيمة السلطة بنفس الوظيفة التكسيرية والإكراهية، لكنها تستند هنا هذه المرة  إلى أداة مختلفة، نعني بها منع ورفض الزواج (العرفي)، الذي تمّ في الخفاء بين جوزافين، كخادمة في بيت أسرة غنية، وراشد، كابن هذه الأسرة الذي تطاول على الخروج عن نسق تقاليد العائلة الموروثة، ورغب في الزواج بفتاة ليست فقيرة فقط، وإنما أيضا هي فتاة فلبينية، من جنس غير الجنس العربي المسلم !! فتكون هنا تيمة السلطة في موقع مستواها المتشدّد، باعتبارها فعل إكراه، يقوم على أساس ثقافة التقليد والتشدد، والميز الجنسي والطبقي والعرقي، وأيضا على أساس التفكير المحافظ المنغلق على ذاته، مكتفيا في التعامل مع الآخر، بالإقصاء ورفض الاختلاف، بدل الانفتاح عليه والتعايش معه، حفاظا على "قدسية الجسد"  النسائي، حسب ادعائه .

تعتبر شخصية غنيمة، أو السيدة الكبيرة، كما تسميها جوزافين، خير من يجسد تيمة السلطة، ببعدها الثقافي التقليدي العنيف، ضدّ تيمة الحق، المرتبطة هنا طبعا بالشخصية الأساسية في النص: جوزافين، خير من يمثل هذه التيمة. فكانت علاقة غنيمة بجوزافين، حتى قبل أن يكتشف أمر حملها وزواجها من ابنها راشد، علاقة صراع غير متكافئة. بحيث كانت تمارس ضدها كل أشكال التسلط والتعنيف الرمزي، من أجل محاصرتها أولا، ثم لاحقا إخضاعها وإفراغها من محتواها الثقافي، ومن طموحها الإنساني.

يقدم نص ساق البامبو هذه الشخصية (غنيمة)، سارده الأساس، عيسى هنا في الكويت الذي كان سابقا، في بلد أمه الفلبين يدعى هوزيه: " كانت جدتي غنيمة، أو السيدة الكبيرة كما تناديها والدتي، حازمة، عصبية المزاج في غالب الأحيان"(24) .

بالإضافة إلى أن تيمة السلطة في وضعية غنيمة، كسيدة مستبدّة، تشتغل في هذا الجزء الروائي الأول، بآلية التفكير الخرافي، في الوقت الذي لاحظنا بخصوص وضعية شخصية الأب ميندوزا الطاغية، تشتغل في نفس الجزء الروائي، وفي سياق الفضاء الفلبيني، استنادا إلى آلية الذاكرة في إطار تيمة الحرب.

يقول سارد النص، متحدثا عن التبرير الخرافي الذي فسرت به جدتُه غنيمة، وأم أبيه راشد، بخصوص ربطها المباشر بين وصول جوزافين إلى الكويت قصد العمل، والحدث التفجيري الرهيب الذي تعرض له الموكب الأميري الكويتي. قال راشد الطاروف، موجها الخطاب إلى أم عيسى جوزافين : " وصلتِ إلى بيتنا، يا جوزافين، في الوقت الذي تعرض فيه الموكب الأميري لتفجير كاد أن يودي بحياة أمير البلاد لولا عناية الله ..  وأمي ترى بقدومك طالع نحس ! "(25) .  

بعد واقعة مقتل صديق أبيه وليد، في الطائرة المخطوفة، نجح عيسى في الاتصال بأمه غنيمة التي كانت ترفض الاستجابة لاتصالاته السابقة. قالت السيدة الكبيرة غنيمة، وهي تخاطب هاتفيا ولدها راشد، مستخدمة أسلوب المزاوجة بين التفكير الخرافي (النحس، البركة) وأسلوب الترهيب والترغيب. تقول:

"  - لم أكن راغبة بالرد، ولكن، لتعلم فحسب .. أن النحس سيطاردك . انظر ماذا حل بصديقك بعد ولادة ذلك الشيء البغيض . إنه، مثل أمه، لعنة "(26) .

أضافت مهددة: " اقذف بهما خارجا، وانظر كيف ستحل البركة عليك .. ومن تم عد إلى بيتك، وستجدني، بقلب الأم، أغفر لك ذنبك العظيم"(27) .

إنه نفس البعد الانتهازي، والتفكير الخرافي والأسطوري الغيبي الذي عاملت به قمةُ تيمة السلطة، في الفضاء الفلبيني سابقا، الأب ميندوزا، سارد النص الحالي هوزيه، وهو طفل في السابعة من عمره، بعد طرده محمولا على ظهر أمه جوزافين، من لدن قمة تيمة السلطة، في الفضاء الروائي الكويتي الحالي، غنيمة، وعودتهما المفاجئة إلى أرضهما الفلبين .

قال السارد: " ما عادت تلك الأسطورة تثير الرعب في نفسي، وإن كرر جدي ميندوزا أمنيته على مسمعي كل يوم: " أتمنى لو تنبت لك ألف عين لتتمكن من رؤية الأشياء بوضوح " ولكن، رغم ذلك، ما زلت غير قادر، منذ معرفتي بتلك الأسطورة، أن آكل الأناناس "(28) .

هكذا يتضح، كيف تؤثر السلطة كقوة رمزية اجتماعية وذهنية قاهرة على الفكر، فيتجلى تفكيرا خرافيا غيبيا، يحارب ويرهب القوى المختلفة والمضادة المتفاعلة معها في نفس الحقل الاجتماعي العام.  فسلطة غنيمة الذهنية التقليدية تعاقب جوزافين، بادعائها كونها شيء ولعنة. وسلطة الأب ميندوزا القهرية الاجتماعية كانت تعاقب الطفل هوزيه بفزاعة فعل التخويف والتضعيف . وكلاهما (غنيمة وميندوزا) يمارسان لعبة التفكير الخرافي الغيبي  أعلاه بنوع من الرغبة الممتعة المستفيضة . 

2-1-2   لحظة التركيب

إذن، نستنتج أن تيمة السلطة، في هذا الجزء الأول من رواية ساق البامبو، سواء ببعدها الإكراهي الاجتماعي (الفقر المادي \ ميندوزا)، أو ببعدها الثقافي والذهني (الفقر  الفكري \ غنيمة)، تشتغل في علاقتها الصراعية ضدّ تيمة الحق، الموجودة هنا في موقع الدفاع والمقاومة، اعتمادا على مرجعية التفكير الخرافي الغيبي التقليدي، واستنادا إلى أدوات أيديولوجية، إما لها علاقة بالأسطورة والماضي (الحرب - الفقر - ميندوزا)، أو بالاستعلاء والتكبر، بدعوى المحافظة على الدين وإرث السلف الصالح والهوية (الجهل - غنيمة) . فالإنسان الموجود في وضعية قهر وضعف، لا يقدر في العادة على تجاوز واقع ضعفه وعجزه ومأساته، إلا إذا "لجأ إلى الحلول الخرافية والسحرية، إذا عزت السيطرة المادية على المصير، حاول المرء توسل الأوهام يعلل بها النفس ويجمل بها الواقع، ويستعين بتصوراتها على تحمل أعبائه"(29)  .

2-2   الجزء الثاني من الرواية (ص 151 - ص 396): عيسى الكويتي، كابن جوزافين، يحكي كاتبا، للقارئ العربي والعالمي، شاهدا على قوة عودة تيمة الحق وتموقعها المهيمن في النص  .

2-2-1  جدلية مكونات تيمة الحق كفاعِل مُهيمِن، وعتبة ضعف وتراجع قوة تيمة السلطة.

آثرنا تسمية هذا المستوى من تحليل نص ساق البامبو بمرحلة التيه. باعتبار أن الشخصية الأساسية في النص (عيسى)، وفي خضم بحثها الجاهد عن هويتها الذاتية، وانتمائها الوطني والاجتماعي والثقافي والديني، اصطدمت بجملة من الحواجز والعراقيل التي جعلتها تعيش مكرهة، في إطار وقائع وتطور أحداث النص، نوعا من التيه النفسي والحيرة الفكرية، سواء على مستوى الفضاء الفلبيني الذي تميز بعلاقة بداية احتواء تيمة الحق لبعض مكونات تيمة السلطة (غنيمة، عواطف)، أو على مستوى الفضاء الكويتي، حيث حققت التيمة الأولى ضدّ الثانية تطورا وتحولا نوعيين مهمين، في سياق القدرة الكبيرة لعيسى راشد الطاروف هنا على مواجهة وتحدي مكون سلطة غنيمة التقليدية الماضوية المتجبرة، عندما نجح في الوصول إلى الدخول والعيش لمدة معينة في بيت أبيه راشد الطاروف، كفرد من أفراد عائلة الطاروف، رغم صعوبات التقليد القمعي، والعقلية الثقافية المتكبرة السائدة، تلك التي واجهته بشكل عنيف في بداية الأمر .

كما أن خروج عيسى من فضاء بيت والده، في نهاية النص، لم يكن سوى خروج اختيار فكري، وبالتالي اقتناعه الأكيد باستحالة التعايش مع الأفكار الجامدة (نورية)، وليس هروبا من واقع أخذت فيه هيمنة السلطة الاجتماعية تخف وتضعف وتتراجع، باعتبار أن عيسى، كقمة رمزية لتيمة الحق في النص ككل، تمكّن من استكمال المشروع الثقافي والهويتي (من الهوية)، الذي بدأه والده راشد الطاروف في حياته، والذي لم تسعفه انشغالاته المهنية والصحفية والسياسية الأيديولوجية إتمامه في بلاده. ونعني به مشروع التفرغ لفعل الكتابة الإبداعية، من أجل تأليف رواية، انتقد فيها واقع التناقض والتخلف الذي تعيشه الأسرة العربية الكويتية، والأسرة الأسيوية الفلبينية، بل يمكن أن تعيشه كل أسرة في العالم، ومردّ ذلك غياب حكمة العقل المعرفي الحضاري المتحرر. 

هكذا، لم نعد نلمس في الجزء الثاني من رواية ساق البامبو علامات العلاقة الصراعيةالحادة  التي لاحظناها مهيمنة، في سياق وقائع وتطور أحداث جزؤها  الأول .

ورغم ذلك، فعلى المستوى الخطابي للرواية، يمكننا تسجيل نفس المسار التنظيمي الفضائي لوقائع الحكاية في النص، بحيث نميز هنا، لضرورة منهجية لا غير، كما فعلنا في الجزء  الأول من الرواية، بين فضاء فلبيني أولي، اشتغلت فيه تيمة الحق، في علاقة احتواء سلسة مع تيمة السلطة الآخذة في فعل التراجع التدريجي، دون أن تستسلم بصفة نهائية.  في المقابل، تابع عيسى راشد لعبته السردية، كصوت راو مُهيمِن وحيد هذه المرة على مسارات السرد، في هذا الجزء الثاني للنص، داعما تيمته الحقية، على حساب بروز اختلالات وتفكيكات معينة، في بنية تيمة السلطة (غنيمة)، في الفضاء  الكويتي اللاحق   .

أ – في الفضاء  الفلبيني

بدءا، لابد من الإشارة إلى أن عنصر المكان الروائي في النص ككل، اشتغل إيجابيا لصالح تيمة الحق، ضدّ تيمة السلطة، باعتبار أن عيسى لم يتمكن من تحقيق هويته وحريته، بالعودة إلى أصله الوطني الكويتي، إلا بعد مضي ثمانية عشر سنة كاملة، وهو عمره الزمني، حين طلب حقه الطبيعي والشرعي، كابن عائلة الطاروف، تنفيذا لوصية أبيه عبر صديقه غسان، وأيضا استجابة لحلم ورغبة أمه جوزافين في العودة إلى بلد والده الكويت، كوريث شرعي وقانوني. 

غير أن تيمة الحق تطورت وتقوّت، موازاة مع تطور ونضج ومراكمة شخصية عيسى لتجارب عديدة وخبرات حياة متنوعة، انطلاقا من مجموعة من الأعمال والانشغالات المهنية التي مر منها، وجعلته يتنقل بالكثير من الأمكنة، وأن يحتك أكثر وبطريقة مباشرة بالواقع العيني، في انتظار تحقيق حلمه الكبير الذي كان يراود دوما أمه جوزافين.  نعني به العودة إلى أرض الكويت، وانتزاع الوجه الآخر من هويته الوطنية  والإنسانية المغتربة، كمواطن كويتي وإنساني. 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم