صحيفة المثقف

حوار مع المخرج رعد مشتت

للفن أهمية كبيرة في حياتنا اليومية، سواء أكان ذلك على صعيد الفرد أو على الصعيد الاجتماعي لأفراد المجتمع كافة؛ حيث أننا إذا رجعنا إلى تاريخ تطور الفنون لوجدنا أن الاهتمام بالفن بدأ منذ العصور الأولي أي منذ وجود التجمعات البشرية على هذه الأرض عندما بدأ الإنسان يتساءل حيث كان يعبرعن مخاوفه تارة، وعن التعبير عن قوته وطبيعة الحياة التي يعيشها وسروره وإيجاد العلاقات الجمالية فيما بين تعييراته، فلم يكن فجأة ما توصلت الفنون المعاصرة، وإنما جاء نتيجة للتطور الحضاري للأمم وعكس طبيعة كل أمة وحضارتها.

والفن السابع ما هو إلا إحدى وسائل التعبير عن انفعالات الإنسان وعواطفه وخبراته واستثارته في الحياة في قالب تشكيل فني مما تحسب فيه العلاقات بين الصور الفلمية والتشكيلات الدرامية والدلالات السردية، وأنواع التوافق والترابط والاتزان التي تعكس صلة الإنسان بالطبيعة والوجود.

 ولعل الفن السينمائي الذي غدا اليوم من الفنون المؤثرة ما هو إلا استغلال للظواهر الإنسانية التي تتجلى إمام العين من اجل خلق نماذج جذابة باعثة على الدهشة أحيانا وعلى الاضطراب في أحايين أخرى. وعلى مر العصور والأزمنة كان الفن وبتنوع اجناسة، هو المؤشر الجوهري للحضارة، وهو الذي يحدد مغزى الوجود الإنساني ومدى رقي وتقدم حضارته وبالوقت نفسه هو الذي يجدد مفهوم الحرية.

 وكان الفن، وما يزال، هو الأساس في إثراء الحياة وبناء الحضارة والأفضل بوعي عميق وبإدراك متطور، وهو أيضاً تجل كامل لواقع الحياة ووجودنا على هذه الأرض التي لن نملك منها شيئاً قط ! وهذا ما يجعل من الفنان صانعاً للجمال بكل قيمه المتعارف عليها منذ بدء تكوين التجمعات الإنسانية على هذه المعمورة، وحتى يومنا هذا الذي نعيشه..فالبحث ما زال جاريا ويبقى المرء متطلعا للجمال الذي تلبسه ويعكس روح الحقيقة التي تصبو إليها النفوس.

 واليوم نلتقي بالمخرج والشاعر والسيناريست والرسام التشكيلي المبدع في كل فن جميل رعد مشتت، الذي يعد واحدا من أبرز السينمائيين العرب. وللفنان تجربة إبداعية متميزة تمتد لثلاثة عقود من الزمن الّمر، فلم يكن فناناً سينمائياً وحسب بل انما شاعر ورسام تشكيلي أيضا يشار له بالبنان، وقد ابدع في صناعة فلمه الأخير" صمت الراعي " والذي حصد عنه جائزة مهرجان الإسكندرية لعام 2015 و" رعد مشتت " من مواليد بغداد درس فيها الأدب الإنكليزي ثم غادر العراق مرغما عنه عشية حرب الخليج الأولى، وتنقل في العديد من البلدان قبل إن يستقر في لندن التي درس فيها الإخراج السينمائي.

اخرج ثلاثة أفلام سينمائية روائية قصيرة؛ " شهرزاد " و " مشهد للحب وأخر للموت " و" تنويمة الجندي". وقد قادته تجربته في العمل الفيلمي إلى زيارة العديد من بلدان العالم، لإخراج سلسلة من الأفلام الوثائقية، منها " بين زمنين "، و" الساعة الخامسة والعشرون "، و" على الأرض "، التي عرضت على كبريات الفضائيات العربية. ومن ثم عاد إلى أحضان الوطن عام 2003، وأخرج العديد من الأفلام الوثائقية الطويلة التي شكلت ذاكرة فيلمية هامة للتحولات الخطيرة التي مر بها العراق بعد الاحتلال الأمريكي، كان أولها " خمسة وجوه " و" الجحيم " و" أفول الأصنام " و" دروب الحرية "، بالإضافة إلى ثلاثية " الأمر رقم واحد " و " المأزق " التي عرضت على قناة العربية. وفي العام 2010 أخرج فيلم وثائقي - روائي " انتحار دولة الرئيس "، وهو من نوع الدوكيو- درما، إضافة إلى الفلم التسجيلي " موت معلن " الذي اختير للمسابقة الرسمية لمهرجان الخليج العربي الرابع، وقد عرضت أعماله في مهرجان " الموب كوم " و" الموب دوك " في مدينة " كان " الفرنسية. كما كتب عددا من السيناريوهات السينمائية، منها " المجيب الآلي - الآنسرنك ميشن "، و" جدار بين ظلمتين "، وهو سيرة روائية للمعماري العراقي الكبير رفعة الجادرجي وزوجته بلقيس شرارة، يحمل الأسم نفسه، يتناول تجربة السجون والأقبية في ظل حكم صدام. وله في الشعر عدة مجموعات شعرية، نشر ثلاث مجموعات منها " الجنود " و" السجين السياسي " و" قصيدة تشبه اليوم ". كما سيصدر له قريبا مجموعة شعرية أخرى بعنوان " إيماج عبر الفيديوفون "، وقد نشرت قصائده في العديد من الصحف والمجلات والدوريات المحلية والعربية والأجنبية، فضلاً عن استضافته من قبل المنتديات والمراكز الثقافية التي احتفت به، وأقامت له قراءات شعرية في بعض المدن العربية والأوربية. وما يزال يواصل عطاءه وإبداعه، ويشتغل الآن على فلمه السينمائي الجديد " ذاكرة السلولير".

التقيناه في حوار معه وجها لوجه ليتحدث عن تجربة فلمه الأخير "صمت الراعي"، الذي فاز بجائزة مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول حوض البحر المتوسط في دورته الثالثة والثلاثين. مع التقدير له ولكل المبدعين الذين يصنعون الجمال الخالص لبلادهم، على الرغم من كثافة الدخان الذي يحاصر بغداد من كل ناحية، فما يزال الإبداع يتجلى في بغداد الحضارة والتاريخ والإنسان.

 

* بصفتك شاعراً، كيف تقرأ إجرائيا شعرية السرد في فيلم " صمت الراعي"؟

- في جميع المهرجانات والمدن التي عُرض فيها "صمت الراعي" كان المحتمل الشعري الأول القابل للقراءة والجدل في مشاهدة الفيلم هو الحوار أولاً، إذ كان هناك ما يُشبه الإجماع من قبل الجمهور، الذي في غالبه الأعظم لا يعرف شيئاً عن اشتغالي بالشعر، وربما لا يعرف العربية أصلا، متفقاً على الشعرية العالية التي يحملها الحوار، وكان هذا مثار استغرابي وربما احتجاجي للوهلة الأولى؛ فوجهة نظري أن شخصيات الفيلم، وهم جنوبيون جميعاً، وُضِعوا كما حكمت الحكاية في لحظة أزمة ومحنة أخلاقية تمس الطبقات العميقة من كيانهم الوجداني والقيمي، وفي مواجهة كهذه، ومن خبرتي وأنا في الأصل من الجنوب، تخضع اللغة والحوار هناك، وبإحساس تلقائي يكاد أن يكون غرائزيا، إلى عملية تكثيف عالية كي تستجيب لمحنة ذلك الكيان الداخلي المضطرب للشخصية، ويصير الكلام العادي كأنه حزمة من الشفرات تحمل في خارطتها الحسية ونبرها أعمق الشعر. ما أريد أن أقوله هو أنني لم أكتب حواراً شعرياً بقصدية وحرفنه بل أن كل ما فعلته هو الإصغاء لأصواتهم الخارجة من وجدان جريح، كما يعبرون هم عنه في كلامهم العادي، وإذا كان هناك من شعر هنا فهو بالأصل شعرهم.

وخارج الحوار، تكمن ربما شعرية السرد في "صمت الراعي" في الرؤية التي يقارب فيها الفيلم مادة الواقع الذي يعاينه، فإضافة إلى صلادة ذلك الواقع وشخوصه يشتغل الفيلم بعيداً عن سطح الرواية نافذاً إلى مستوى من الاستقطاب الرمزي، وهو أمر شعري بامتياز، يحيط الحدث وآثاره وتردداته كما يطبع الشخصيات عبر التحولات التي تتعرض لها في مجرى الحكاية. ف " حميد الصكر"، الأب، هو شخص بعينه إلا أنه في ذات الوقت حامل رمزي في درجة من الدرجات لفكرة ومعنى ومضمون أعمق وأبعد من عين الشخص. الشخصية والحدث هنا يفلت من حدود الواقع نحو فضاء دلالي مختبري يمتلك طاقة تحريضية لقراءة ما وراء ذلك الواقع.

حتى الصمت، وهو القوقعة التي يحتمي الخائف وراءها من القسوة والعنف، يأخذ بعداً لا صلة له بمفهوم الصامت الخائف كنقيض للناطق الشجاع كخصائص شخصية، بل هو دلالة تعبيرية عن الارتداد في المحتوى الأخلاقي الأساس للكائن البشري، وهذا قلق شعري على نحو عميق.

      

* كيف تشخص لنا الحداثة السينمائية وتجلياتها في شكل فيلم " صمت الراعي "؟

- بقدر ما تبدو لنا عناصر اللغة السينمائية مستقلة وتخضع لآليات اشتغال وتقنيات وأساليب خاصة بها إلا أن هذه العناصر لا تكتسب طاقتها التعبيرية القصوى والفريدة دون النسيج الشامل لمعمار الفيلم الذي تشكل هي لبناته. أن تحقيق التداخل البنائي العضوي بين أدوات التعبير السينمائي بغية خلق وحدة غير قابلة للتفكيك نطلق عليها اسم الشريط السينمائي قادرة على تمرير السرد، الذي هو كذلك، إضافة إلى كونه الحامل الأول للمعاني، وعاء الشكل الأساس إلى المتفرج بغية خلب لبه وإشراكه في الفضاء الحسي والفكري والنفسي الذي تتحرك داخله الشخصيات وتجري في مساربه الأحداث، هو التحدي الأول الذي يواجهه الصانع السينمائي اليوم. هنا ربما تكمن حداثة "صمت الراعي".

 

* اغلب النقود السينمائية التي كتبت عن الفلم إشادة بالبناء التشكيلي للصورة، كيف يمكن ان تعيد لنا أنتاج ستراتيجك الإخراجي بالتعامل مع مدير التصوير الفنان المبدع زياد تركي؟

- يعرف صناع الفيلم أنه لا يمكن صناعة صورة دون ما نصطلح عليه بالموقع الذي هو أمكنة وبيئة أحداث الفيلم، سواء كانت طبيعية أو مصنوعة ومؤثثة بالديكورات والإكسسوارات، والتي تشكل في النهاية فضاء الصورة والمكان الذي يتحرك فيه الممثلون والمجاميع، تضاف إليها الأزياء وعمليات الماكياج. هذا هو الأساس الذي تبنى عليه الصورة، وهو أساس يشترك في تشييده العشرات من المبدعين من طاقم تصميم الإنتاج وحرفيو الإدارة الفنية بشتى اختصاصاتهم. وفي "صمت الراعي" أمضينا شهوراً طويلة لاختيار وتهيئة هذه القاعدة الأولى للصورة وصولاً إلى لحظة التصوير.

وإذا كان ثمة إستراتيجية في التعامل بيني وبين مدير التصوير فهي قائمة على إيماني بالدور الحاسم لهذا الصانع الماهر في منح كل عمليات التهيئة والتحضيرات اللوجستية والجمالية تلك إلى صورة متحركة من ضوء، وهو أمر في غاية التعقيد والحساسية، خاصة وان زياد لم يكن مديراً للتصوير فقط بل كان أيضاً المصور الأول للفيلم بإرادة من يريد أن يصنع الصورة بيديه كما أصحاب الحرف اليدوية ونحن في عصر الدجيتال.

كانت شراكتنا الأساس هو تعاملنا مع الصورة السينمائية كما اللوحة التي تخضع إلى قراءة بصرية صارمة في تحديد الأبعاد والمنظور وتوزيع الكتل، في التوظيف الخلاق للضوء وتشكيل العلاقات اللونية ومستويات العمق، وكذلك في تصميم الميزانسين ورسم اتجاهات الحركة. وإذا كانت الصورة السينمائية هي النحت بالضوء فزياد هو واحد من ندرة من مدراء التصوير في العراق، أن لم يكن الأبرع ممن ينحتون الصورة بالضوء.  

 

* ما لاحظناه في "صمت الراعي" سيادة الإيقاع المونتاجي المتأمل، وكأننا أمام رؤية توليفية أوربية بامتياز، كيف لك ان تعود بالذاكرة القريبة مع المونتير المبدع محمود مشتت، وأنت تركب معه الفلم في شكله النهائي؟

- أنا أكتب وفي الغالب أصور، كما معظم المخرجين في الدنيا، كما لو كنت في غرفة مونتاج وهذا إجراء تركيبي شامل يتعلق بربط الفيلم، أما عملية المونتاج ذاتها فهي المختبر الحقيقي الذي تخرج من غرفه المعتمة أنوار العمل السينمائي. مونتاج "صمت الراعي" لم يكن أمراً عادياً بسبب البنية السردية المركبة لأحداثه وتعدد خطوط الصراع فيه وتعدد أبطاله.

اثنتا عشر شخصية هم أبطال "صمت الراعي" ويكاد كل منهم أن يشكل قطباً جوهرياً في شبكة الأحداث التي يؤطرها الفيلم.

محمود الذي أشترك معه برحلة حرفية طويلة عمل فيها معي مساعد مخرج، واشتغل مع عدد كبير من أساتذة المونتاج الأجانب والعرب خلال سنوات عمله في لندن، كان بارعاً في التحكم بهذا العدد من الخطوط والشخصيات سواء في الكشف عنها وتأسيسها أو في بناء تداخلات وتقاطعات مساراتها الدرامية، وهو أمر في غاية التعقيد والدقة. أنه فنان في خلق توليفات مونتاجية مقتضبة ومتماسكة وعلى درجة عالية من التوتر والتشويق كما يمتلك القدرة على التنقل وبمهارة عالية بين مختلف أساليب المونتاج سواء المتنامي الخطي، المتوازي، المترادف، الدائري، أو الحر في بنية إيقاعية صارمة وفي تشكيل صوري وصوتي جمالي خلاق.    

 

* ما نهض بالفلم من الناحية السردية ستراتيجي في تركيب الزمن أثرى جمالياً العمق الفكري للمتن الحكائي، كيف تفسر ذلك؟

- تحدث حكاية "صمت الراعي" في فترتين زمنيتين يفصل بينهما خمسة عشرة سنة، وهو أمر تطلب بناءاً خاصاً إذ يبدأ الفيلم بما يشبه المقدمة (Intro) وفي كشف بانورامي للحدث الأهم في الفيلم، الذي هو لحظة العثور على زهرة أو كشف مصيرها والذي ظل مجهولاً طوال تلك السنوات. هذه المقدمة أو البداية هي في الحقيقة مستمدة من نهاية الفيلم وتحدث في العام 2003، وهو الزمن الثاني في الفيلم الذي يتبعه الزمن الأول، وهو زمن اختفاء زهرة في نهاية الثمانينات والاضطراب الذي أحدثه في البنية الأخلاقية والاجتماعية في حياة سكان قرية العيون، والآثار التي خلفّها على جميع الشخوص الذين حكم مصير زهرة مصائرهم مطوحاً بوجودهم الهانئ إلى عباب الخلخلة والصراع.

في هذه التركيبة الدائرية للزمن مرَّ العراق بسنوات الحصار التي اضطر فيها الناس إلى بيع أبواب وشبابيك بيوتهم من أجل البقاء. هذه الحقيقة أحدثت انقلاباً كبيراً في بيئة الفيلم؛ فبيوت القرية، التي كانت عامرة، تهدمت، والأثاث الثمين تلاشى وحلت محله البُسط والسجاجيد المتهرئة، كما تغيرت الأزياء وغاب الضوء من حياة القرية التي تراجعت مظاهر الحياة فيها إلى أزمنة بعيدة، وكأن نبوءة جيمز بيكر قبيل حرب الخليج الثانية في عودة العراق إلى ما قبل العصر الصناعي صارت أمراً واقعاً. هذا التغير تطلب تغييراً استراتيجياً في المعالجات الفنية والتقنية سواء في إعادة رسم البيئة التي كانت يوماً ثرية وزاخرة بالألوان إلى أخرى مُعدمة، خاوية وكالحة، أو في المعالجات التقنية الخاصة بالضوء والصورة؛ إذ اختفت الكهرباء وصارت المصادر الأساسية للنور الفوانيس وهيمنت العتمة على فضاء المكان.

بالإضافة إلى تمثله الواقع الذي ما زالت علائمه قائمة حتى اليوم، أعطى هذا التغير الفيلم تنوعاً وغنى بصرياً مؤكداً مسار المتن الحكائي؛ فالعثور على زهرة أو كشف سر اختفائها حدث فاجع تبدو فيه المجموعات والأفراد، الدولة والقبيلة في صميم الصورة الكالحة، لا للمكان وحده، بل للإنسان وفي الصميم منه معتقداته.  

 

* كم استغرق من الوقت كتابة سيناريو الفلم، وهل أنت مؤمن بفكرة سينما المؤلف التي نظر لها نقاد مجلة " كراسة السينما الفرنسية " وهل استطاعت الرؤية الإخراجية لديك من تجسيد البنية الأدبية للسيناريو المكتوب، وإلى أي مدى تم التنازل عن بعض الرؤى الأدبية؟

- استغرقت كتابة "صمت الراعي" ستة شهور في الثلاثة الأولى منها كنت قد سطرت الحكاية، وكنت في لندن حينها. حملت نسخة المشروع الأولى وأتيت إلى بغداد حيث أمضيت الشهور الثلاثة التالية في كتابة ختامة السيناريوي، وانتقلتُ إلى عملية التحرك لتحقيقه. 

في تصريح لكوبولا حول مستقبل السينما لخصه بثلاث عبارات: فضاء الدجيتل تقنياً، سينما المؤلف نصاً، والفريق العائلة (وهو لا يعني بالعائلة رابطة الدم، بل الشراكة).

سينما المؤلف هي حقيقة كبيرة في صناعة السينما إلا أنها ليست الحقيقة الوحيدة، فكتاب السيناريو هم ركن جوهري في صناعة الفيلم وسيظلون كذلك لمدى غير منظور. وبالنسبة لي وبعيداً عن عشقي الكبير للكتابة، إلا أن لجوئي للتأليف السينمائي وراءه سبب أساس هو انعدام تناول السيناريو وحضوره في الحياة الثقافية والسينمائية في العراق؛ لندرة كتاب السيناريو الذين لا نكاد نعدّهم على أصابع اليد الواحدة، والاعتماد على كتاب الرواية والقصة وهم ليسوا بالضرورة على دراية عينية بفنون السرد السينمائي الخاصة.   

لم تكن تجربة تجسيد السيناريو الأدبي لفيلم "لصمت الراعي" رهينةً برؤيتي الإخراجية بل بالواقع أولاً ومن بعده العملية الإنتاجية. الواقع كان شديد التعقيد وصعب، خاصة وأن عمليات التصوير جرت في بيئة ريفية وصحراوية محافظة، ويمكن لها أن تنزلق لتكون متزمتة بسرعة فائقة ولأسباب من المستحيل التكهن بها. في الليلة التي سبقت شروعنا بالتصوير في بيت الراعي كما هي تسميته في السيناريو، والذي أمضينا ستة شهور في بنائه وتأثيثه ووضع الديكوباج الخاص بمشاهده، أعترض مالك البيت على التصوير رافضاً بشكل قاطع السماح لأحد الدخول للمكان، وكان السبب، الذي عرفناه بعد لاي من المفاوضات، هو تداولنا أثناء العمل للمكان بوصفه " بيت الراعي" عادا ذلك امرا مهينا لهيبته الاجتماعية في القرية.

أما الجانب الإنتاجي فكنت اشعر في بعض اللحظات كما لو كنا نصنع العَجل من جديد إزاء بعض من بديهيات الإنتاج السينمائي. كان الحصول على زيل عسكري أو حافلة من نوع ريم، التي كانت في الثمانينات عروس الشارع، يتطلب شهوراً ورحلات عجيبة في عدد من محافظات الوسط والجنوب كي نعثر على نسخة شاخت من تلك العروس ولم تعد صالحة للركاب إذ أحالها صاحبها إلى سيارة حمل لصناديق الطماطم والبطاطا.

لم يكن تحت أقدامنا بنية سينمائية تحتية حقيقية على أرض الواقع وكان مسارنا محفوف بالمخاطر، التي تهدد تحقيق خطوط السرد السينمائي الأساسية للفيلم، مما حتم علينا التنازل وخسارة بعض من بنية النص السينمائي الأصل أو إعادة تشكيله.

 

* واحده من كبرى إشكاليات السينما والدراما التلفزيونية العراقية، ان صناعها لا يجيدون التعامل مع الممثل، كيف تقرأ تجربتك مع النجوم الذين جسدوا شخصيات فلم " صمت الراعي "، وكيف كانت أدارتك لهم؟

- أنا فيما يخص العمل مع الممثلين أتشبه بالمتفرج السينمائي، وهو متفرج وفق رؤيتي واع، ويمتلك معيارية تبدو في ظاهرها بسيطة إلا أنها في التجسيد غاية في التعقيد والدقة. التمثيل السينمائي يقوم على التماهي الحسي العميق مع الشخصية، وتلبس لحظتها بصدق وبإدراك واضح لماهية الفعل وبناء الحركة والمعنى. الممثل هو أداة الفيلم الكبرى وعليه أمام الكاميرا أن يكون الشخصية لا أن يمثلها، وعليه، كمحترف، أن يستخدم أدواته بدرجة عالية من الكثافة والواقعية والاقتصاد. ولأن نخبتهم كانوا كذلك في أصل الاختيار، ولأن فريق الإخراج كان دؤوبا في العمل مع الممثلين بتجارب طازجة، أثار ممثلو "صمت الراعي" اهتمام ودهشة المتفرجين في كل صالات السينما في المدن التي عُرض فيها الفيلم، سواء في عاصمة بفاريا في ميونيخ في ألمانيا الاتحادية، أو في الإسكندرية منبع الإلهام ومدرسته.

 

* كيف تشخص أزمة الإدارة الإنتاجية في العراق، وكيف كانت تجربة دائرة السينما والمسرح كمنتج منفذ العمل؟

- للإجابة على هذا السؤال نحن بحاجة إلى حوار، وربما مؤتمر أو مؤتمرات، تدرك فيها المؤسسة الثقافية الرسمية، ومعها الدولة والدوائر المختصة والمعنيين، أهمية السينما في الحياة ودورها في رسم صورة وهوية شعوبها على خارطة الإدراك والوعي الإنساني في حوار الثقافة والمعرفة، سواء في البلاد ذاتها أو في الدنيا.

 

* كيف تقيم تؤيلات المدونة النقدية عن فلم " صمت الراعي "؟

- مازالت المدونة النقدية السينمائية العراقية وصفية فيما عدا القليل من الاستثناءات المؤمنة بعضوية السينما في بناء التكوين الثقافي في حياة الإنسان المعاصر هي فيه أداة إبداعية خلاقة ومبحث معرفي وحسي عميق في محنة وجوده وشرطه الإنساني المضطرب. لم تزل المدونة في غالبها صحفية آنية ومنشغلة بوصف الحكاية والصورة والحدث دون الخوض بفحصها وقراءة بنيانها الفكري والتعبيري والجمالي.

 

* ماذا تمثل جائزة مهرجان الإسكندرية السينمائية للسينما العراقية؟

- تمثل جائزة الإسكندرية بالنسبة لي خرقا وإعادة اعتبار للسينما العراقية بعد الألفين وثلاثة في قراءتها النقدية الداخلية للحقبة المظلمة من تاريخنا الذي كان أسياده رموزاً قومية وعالمية خارج تربة البلاد،ىلا وبخاصة في عالمنا العربي من مغربه الأقصى إلى خليج عُمان، وتشكل مصر القلب منه، فيما هم في داخلة يمارسون أكبر الفضائع بحق الإنسان العراقي الذي يتمثلون رمزيته وحقيقته.

خارج التأويل، جائزة الإسكندرية هي شهادة للفيلم العراقي وحرفييه بأنهم في الصدارة في أدواتهم في هذا المحفل الدولي العريق في دورته الثالثة والثلاثين، والإسكندرية ولّادة الأساطين لا يعتريها في السينما أي حساب.

 

حاوره : عبد الرضا غالي الخياط 

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم