صحيفة المثقف

الثقافة الشعبية والوعي الحقوقي. قراءة في الحكايتين الخرافيتين: القاضي اللقلاق وأنثى أبو الحناء

تقديم: عبر المقهورون والمحرومون والمهمشون والمقصيون والمستضعفون والمنبوذون على الدوام عن رفضهم للظلم واحتجاجهم ضد امتهان الكرامة، ذاك كان شأن الرعاة الرحل والفلاحين البسطاء أيضا. وقد جعلت الثقافة الشعبية من الحكايات الخرافية والأحاجي والأهازيج وعاء ضمنته هذا الرفض والاحتجاج، وحفظت فيه ذاكرتها ورفعت من خلاله صرختها الحقوقية الحادة والواضحة.

فلم يحصل أبدا في التاريخ أن سكت مظلوم عن ظلم أو رضيت ضحية عن عسف جلاد، وإنما هي وسائل المقاومة و التعبير عن ذلك، تختلف حسب القاعدة المعرفية والثقافية التي ينبثق عنها وعي المظلوم.

ولم يكن وعي القرويين ولا وعي نسائهم ساذجا وبسيطا كما يبدو ذلك لكثيرين اليوم، وإنما كان وعيا لاذعا ومبدعا، لقد كان ابن زمانه. إن الحلم الإنساني بالكرامة و العدل واحد عند الجميع، وعلى الذين يريدون التأكد من ذلك أن يراجعوا التاريخ. على الطيار الذي يحلق اليوم تحت سماء الله الرحيمة أن يعرف أن حلمه الذي تحقق اليوم، هو نفسه حلم ذلك الذي أبدع البساط السحري أو ركَّب أجنحة لذراعيه وجرب أن يرتفع عن الأرض.

وعلى الذين يحلقون اليوم في سماء الحقوق الفسيحة بأجنحة المواثيق الدولية والمعاهدات، أن لا ينسوا أن رجالا ونساء مظلومين محرومين مضطهدين فكروا مثلهم، وحلموا قبلهم بفجر الخلاص. غير أنهم لم يجدوا بين أيديهم من وسيلة للتحليق والطيران غير أجنحة الخيال وبِساط الخرافة ، وأن من جرب منهم تركيب أجنحة من ريش الرفض والتمرد والاحتجاج، دقت عنقه وسحقت عظامه بين فكي رحى الطغيان والاستبداد، وطمر حيا تحت ركام التراب، ثم طوى النسيان كل حلم بالعصيان.

ولتجسيد هذه الدعوى التي أدفع بها للتذكر والتفكر، أقترح قراءة جديدة لديوان خرافاتنا القديمة.

- أقترح أولا للتأمل حكاية خرافية في رفض الاستبداد الاجتماعي والسياسي.

- وأقترح ثانيا للتأمل أيضا، حكاية خرافية في رفض الاستعباد الجنسي الذكوري.

وكلا الرفضين هما رفض صريح للظلم والاستعباد. ونشدانٌ صريح للعدل وللكرامة.

رفض كل استبداد باسم السلطة السياسية .

ورفض كل استعباد باسم السلطة الذكورية.

الاستبداد الأول عام وشامل.

والاستعباد الثاني خاص بالنساء.

إذ للنساء دائما وضعيتهن الخاصة في المعجم الحقوقي القديم والحديث.

فهن ضحايا الاستبداد السياسي والاجتماعي وهن أيضا ضحايا الاستعباد الجنسي.

وضعية مزدوجة وعنف مضاعف.

فلنتأمل:

(1)

القاضي اللقلاق: في مديح العدل و مذمة الاستبداد

تلعب شخصية القاضي دورا مركزيا في الكثير من الحكايات الخرافية، وتحتفظ له الذاكرة الشعبية في مدونتها الشفهية بصورة سلبية قاتمة، فهو ظلوم غشوم متكبر متجبر، الأمر أمره والنهي نهيه ولا من يعلو عليه، وهو في هذه الذاكرة المشرع والحاكم والمنفذ، إنه يمثل السلط الثلاث مجتمعة، ولا شك بأن للأمر علاقة بتوزيع السلط في زمن نشأة هذه الحكايات، إنه مشرع بمستشاريه وحاكم بأمره ومنفذ بزبانيته وعبيده وأعوانه.

وفي الحكاية أن إحدى القرى ابتليت بواحد من هؤلاء القضاة، فلم يقف ركبه عند حد من الظلم والعسف والجور، وسام أهلها العذاب والهوان، وحكَّم هواه في رقابهم وأذاقهم من مر أحكامه ولفحات سوطه ما لم يتحمله صدر ولا ظهر.

جلد الفلاحين بلسانه وسياطه، وطمر الرعاة تحت الردم، ولم يشبع ذلك جوعه، فاخترع لهم من العذاب أشد الأنواع فتكا، إذ صار يربط المغضوب عليه منهم إلى جمل جوعان وآخر عطشان، ويضع أما م الجوعان مخلاة شعير وأمام العطشان دلو ماء، فيجري العطشان إلى الماء والجوعان إلى المخلاة فيمزقان بينهما الفلاح الشقي أو الراعي المسكين.

كل هذه الوحشية لم تكن كافية ليتوقف الجبار العنيد عن تمزيق الناس إلى أشلاء، ولم تكن كافية لإرضاء شهوته للقتل، أو إنهاء شغفه بالتفرج على مآسي المستضعفين، فأمر عبيده أن يصنعوا دكة ويضعوا عليها كرسي قضائه، ويجعلوا للناس تحت الدكة موقفا لا يتخطونه، ففعلوا، غير أن شكوى المتظلمين لم تعد تصله، فأمر بأن يُصنع لهم سلم يصعدون به إليه، وكذلك كان... ولم تمض غير أيام حتى مل من رؤية هؤلاء المحرومين الذين يثيرون الشفقة ويسدون أبواب البهجة، وهو لا يبتهج إلا بالسخرية على المآسي ولا ينشرح إلا إذا رأى الناس منبطحين ورجله فوق أعناقهم، لذلك أمر عبيده بمجرد أن يعتلي هو دكته ويتربع على كرسيه أن يدهنوا السلم بالصابون وينادوا على المتظلمين كي يصعدوا إليه، فما يكاد الواحد يضع رجله على درجات السلم حتى يهوي ساقطا على جنبه أو ظهره أو قفاه، فيلوي القاضي عنقه إلى الوراء ويطلق ضحكة غريبة لا يزال صداها يتردد بين طيات الحقب التي طوت آلام الناس تحت جناح النسيان .

لاق لاق لاق لاق لاق ....لق لق لق لق لق لق

لاق لاق لاق لاق لاق ...لق لق لق لق لق لق لق

سمع القرويون من كل الجهات هذه الضحكة الغريبة.

سمعها الفلاحون والرعاة فتركوا قطعانهم وحقولهم وقصدوا دكة القضاء ذات مساء ليروا بأعينهم ما لم تستطع آذانهم تصديقه.

تحلقوا حول دكة القاضي ليروا ما سيصنع بالناس.

جاء القاضي، صعد الدكة وتربع على كرسيه.

أمر عبيده بدهن السلم... وجلس ينتظر... لم يكن أحد يستطيع رد أمره أو رفض حكمه، كان المتظلمون يعرفون بأن السلم مدهون بالصابون ولكنهم كانوا يصعدونه برؤوس مطأطأة.

يصعدون الدرجات فتنزلق بهم ويتهاوى الجسم المكدود إلى الأسفل، يسقط الرجل فينكشف المستور من جسمه وتختلط أطرافه ببعضها فلا يعرف أين سقطت رجله أو أين سقطت يده، وإذ يحاول الوقوف مرتبكا يلوي القاضي عنقه إلى الوراء ويطلق ضحكته الغريبة.

لاق لاق لاق لاق لاق

لق لق لق لق لق لق

جأر الحاضرون بالشكوى وهم يرون أعراضهم تفضح وأستارهم تهتك وكرامتهم تمتهن من صغير ظن نفسه الأكبر.

رفعوا أكفهم للسماء، هالهم ما تفعله عدالة الأرض بأبناء الأرض، رفعوا أعينهم إلى السماء وهتفوا بصوت واحد الله أكبر الله أكبر.

ساد صمت رهيب ثم شقت الصمت الضحكة المعلومة نفسها.

لاق لاق لاق لاق لاق

لق لق لق لق لق لق لق

عاد القرويون بأعينهم إلى الأرض، نظروا إلى الدكة فرأوا فوقها طائرا غريبا برجلين طويلتين، طائرا يلوي عنقه إلى الوراء مثلما كان القاضي يفعل، ويطلق صوتا كضحكة القاضي.

إنه القاضي .

بين اللحظة التي رفع فيها المظلومون أعينهم إلى السماء واللحظة التي وضعوها على الدكة، كان القاضي قد مسخ لقلاقا.

كذلك سموه اللقلاق.

نزل اللقلاق من دكته.

نزل السلم الذي كان يسخر من الناس الذين يصعدونه.

وليس النزول كالصعود.

هم كانوا ينزلقون حين الصعود وهو انزلق وهو يجرب لأول مرة النزول على السلم المدهون بالصابون. هوى إلى الأسفل، اشتبك عنقه برجليه، حاول النهوض، حاول المشي، تعثرـ ومنذ ذاك و اللقلاق لا يحسن المشي- أراد الاقتراب من الناس الذين كان يستعلي عليهم بسلطته وزبانيته، ولكنه لم يعد كالناس، فر عبيده وفر مستشاروه وفر أعوانه، أدرك بأنه قد مُسخ كما تَمسخ السلطة من يلبس رداءها، ولم يعد قادرا على العودة إلى أصله الأول ..." مجرد إنسان ".

أعاد الكرة وحاول الاقتراب من جديد، فأخذ القرويون يرجمونه بالطوب والحجر، وهو ينط أمامهم ويحجل ولا يعرف كيف يمشي، حرك ذراعيه فانبسط الجناحان، رفرف وطار، ارتفع، أعلى من الحجر والطوب، ارتفع أعلى من أن يصله الحجر والطوب، وحط على رأس أعلى مرتفع صادفه.

"والخرافة ليست كذلك إلا بالقدر الذي تبدو لنا فيه خرافة"

اللقلاق صورة للمستبد الطريد المنبوذ.

ووقفته هناك في الأعلى ليست وقفة الوقور الزاهد ولا وقفة الحكيم الناسك ولا وقفة الإمام النادم على توضئه باللبن كما في بعض الخرافات المحلية الرعوية التي تقدس البياض.

تلك وقفة المستبد الرجيم.

تلك وقفة الهارب من حجر المقت وطوب اللعنات البشرية .

أكان القرويون سذجا وبسطاء وهم يبدعون هذه الخرافة ؟ أم كان وعيهم الحقوقي حادا وشعورهم بالظلم جارحا وحلمهم بالكرامة والعدالة مطلب الليل والنهار؟؟

ذلك هو السؤال الذي تحمل الخرافة نفسها قسما من الجواب عنه.

الشعور بالظلم ليس وليد اليوم ولا وليد الوعي الحقوقي الحديث كذلك . وإنما كل وعي ينبثق من القاعدة الثقافية والمعرفية لزمنه ويتكلم بلغتها ورموزها، وما علينا غير أن نفك شفرة تلك اللغة أو نتملك اللسان الذي تعبر به عن أحوالها. أو على الأقل نفهمه ونتهجاه، إن لم نستطع تكلمه.

لم يكن الرعاة ولا الفلاحون البسطاء سذجا، ولكنهم كانوا عزلا أمام قوة غاشمة ظالمة. قوة القهر والاستبداد السياسي والاجتماعي في تلك العهود القاتمة المعتمة.

أيديهم مشلولة أو مغلولة إلى الأعناق،، وألسنتهم غير قادرة على الصراخ أو الإفصاح عما يغلي في الصدور.

فلا أقل من أن تتدخل يد القدر الذي أحكم تنظيم كل شيء لترفع عنهم هذا البلاء، ذلك ما يتمنونه ويتوقون إليه،، ذلك ما يحلمون به، وذلك ما سيحولونه - عبر آليات يصعب رصدها كما يصعب رصد آليات نشأة الأحلام - إلى حكاية خرافية. إنهم بذلك يعاقبون المتسلط الجبار بما هو أشد من تسلطه وجبروته، يعاقبونه بجبروت الوصم الأبدي، سيحيى المستبد على الدوام كرسم معلق على أبواب الذاكرة، لقد أعطيت له الصورة التي تناسبه،" القاضي اللقلاق"، صورة لا تبلى ولا تفنى،، وستعلنه كل الأجيال عدوا لها،، ستستعيد ضحكته من بين كل الضحكات التي عبرت ليل الاستبداد البهيم وتلعنه في سرها وفي جهرها.

لاق لاق لاق لاق لاق لاق لاق

لق لق لق لق لق لق لق

لقد تدخلت يد القدر في الأماني الخفية فجعلتها خرافة " والخرافة ليست كذلك إلا بالقدر الذي تبدو لنا فيه خرافة"، لقد شلت يد القدر اليد التي تبطش بالعباد ولوت العنق وعطلت اللسان.

قامت الخرافة بدورها كاملا " غيرت وبدلت وحولت " باختصار حققت المسخ، مسحت صورة المستبد ورسمت بدلها الصورة التي حلم بها الضحايا على الدوام، طائر تتبرأ منه الأرض ولا يحط رجليه عليها إلا على رهبة وخوف من أهلها الحقيقيين. فالمستبد طائر الفراغ ، يحلق وحيدا ويحط وحيدا ولا يطوي جناحيه على غير الصرخات التي مزقت صدور ضحاياه ولم تغادر حناجرهم. من تلك الصرخات ومن ذلك الأنين سيخرج صوته الجديد.

لاق لاق لاق لاق لاق

لق لق لق لق لق

لم يكن بأيدي الرعاة والفلاحين البسطاء تغيير الظروف،، ولا تجاوز شرطهم الإنساني العسير، لكنهم تحايلوا على الظرف والشرط والزمان،، وأبدعوا وسيلة الخلاص والتحرر،، أبدعوا وسيلة إسقاط الوثن وشنق الصنم.

أبدعوا الخرافة.

" فسبحان الذي يبيتها في شان ويصبحها في شان "

بات المستبد قاضيا وأصبح لقلاقا بعنق طويلة طول غروره وتكبره، ورجلين طويلتين طول استعلائه وعجرفته وجوره.

الرجلان طويلتان طول السلم الذي كانت تُهدر عليه كرامة المستضعفين، والعنق طويلة طول السياط التي كانت تشوي ظهورهم وجنوبهم. وهو حين يلويها إلى الوراء فإنما يجلد ظهره، " يا لِسخرية التخييل الخرافي من حقيقة الواقع ".

يجب الانتباه هنا إلى أن كل عضو في جسم الطائر وكل حركة تصدر عنه تعبر عند البدو الرعاة والفلاحين على قيمة من القيم المرفوضة والمذمومة، وهم يُسقطون على طائر الخرافة هذا، رغبتهم في التخلص من هذه القيم ، إنهم يُحَمِّلونها له. يكسونه بريشها ، إنه الطائر الذي تعلق عليه الرغبات والمكبوتات والتطلعات، تماما كشجر الخرافة في الأضرحة والمزارات، شجر تعلق عليه النساء خرقا يُحملنها رغباتهن أو يتخلصن بها من هَمِّ يحملونه أو فشل لا يطيقونه. يحول القرويون القيم السلبية إلى جسم مادي حي، طائرا في حالتنا أو شجرة في حالات أخرى. فهذا الجسم الحي على الأقل هم قادرون على ترويضه وتطويعه وتطويقه و مطاردته ورجمه والتخلص منه، وهم بذلك وفي الآن نفسه يخلصون أنفسهم من ركام الحقد الراقد في القلب ونار الغل المشتعلة في الصدور، فيتطهرون من كل الشحنات السلبية التي تخنق أنفاسهم وتقتل إحساسهم . لقد صالحتهم الخرافة مع أنفسهم . إذ كيف لهم وهم الأحرار أن يرضوا بالذل والاستعباد.

2

 أنثى أبي الحناء في مذمة العقلية الذكورية ومديح الحرية

قبل أن تصبح المرأة عصفورة جميلة وصغيرة تحت مسمى أنثى أبي الحناء، كانت مجرد امرأة ، جاء بها الرجل من القرية المجاورة، جاء بها وهي بعد طفلة غضة العود لتملأ بيته بنينا وتدفئ فراشه ليلا، صارت تأكل معه من الصحن نفسه ويكسوها مرة في السنة، ومرتين يأخذها إلى بيت أهلها، مرة كل عيد، وهي لرد هذا الجميل، تطبخ طعامه وتغسل ثيابه وصحونه، وتحلب البقرات وتكنس الحضيرة وتجمع الحطب وتغزل الصوف وتهيئ له الخلف الذي سيرعى الخراف ويصهل كالبغل وراء المحراث وينحني كالهلال على المنجل.

كانت هي أمَته وكان الأولاد عبيده. وهو كان عبد سادة لا يبعرفهم.

كبرت الطفلة في صمت لا تحسنه غير البدويات بنات زمانهن، وقلة هن بنات الزمن كما كانت تهمس لها في ليالي الشتاء القديمة أمها وقريباتها اللواتي كن ينمن معها تحت الغطاء نفسه ، إذا حصل، وزرنها:" اصبري، اصبري" كن يقلن لها، ثم ينصرفن.

جاءها ذات مساء، طبطب على كتفها كأب رؤوف، وقال: " كم تعبت يا امرأة، كم تعبت، حمدا لله فقريبا سأريحك". رفرف القلب في صدرها وهي تسمعه يقول ذلك، إذن فهو يفكر فيها. تابع الرجل. بعد سبعة أيام يا امرأة سيحل بالبيت ضيوف، وأريدك أن تكرمي وفادتهم. أريدك أن تعدي البيت وتهيئي أحسن وليمة لاستقبالهم.

وكذلك كان، اشتغلت المرأة بجد وبدلت كل جهدها:" على الأقل، قالت، أرد له بعض الجميل، هو الذي فكر في تعبي ..."

سبعة أيام والمرأة تطن كنحلة..

فتلت حبات الكسكس، نظفت فناء البيت، كنست كل ركن من الحضيرة، طهرت خم الدجاجات وغسلت ضرع البقرات ليكون الحليب الذي يقدم لضيوف الرجل نظيفا، غزلت الصوف ونسجت له الجلباب، عرضت الأغطية والأفرشة لحرارة الشمس... وفي اليوم السابع، صلت الفجر ولازمت رُكَيْنَةَ الطبخ، تنتقل بين الأواني والصحون والقدور، تتذوق وتُتَبِّلُ الطعام، جاء الغروب فسمعت الزغاريد على مقربة من البيت ولم تتحرك من رُكَيْنَتِها، قال لها الرجل:" ابقي مكانك إذا جاء الضيوف، ولا تستقبليهم، أنا سأحمل طست الغسيل وقصع الطعام، وأنا سأخدمهم، أنت ابقي مكانك، أنا سأفرش لهم الأفرشة وأغطيهم وأحرس نومهم، وأنت فابقي مكانك. لا تطلي من الباب ولا تدخلي الغرفة حيث نكون. سمعت المرأة كلام الرجل وأطاعته. تلك الليلة بات الرجل بين ضيوفه وباتت المرأة بين الصحون والقدور، نامت وقامت قبل الجميع، لتهيئ الفطور، وضعت أعواد الحطب اليابسة بين حَجرات " الكانون "، نفخت على النار حتى دمعت عيناها، وضعت " الفراح" على الحجرات الثلاث، وضعت كرة العجين في الفراح وشرعت تبسطها وتمددها بيديها الاثنتين، استدارت الكرة وانبسطت بيضاء كالقمر، جلست المرأة تنظر إلى خبزتها وتنتظر أن تنضج لتقدم الفطور الساخن للضيوف، حمدا لله سيفرح الزوج أيما فرح، فجأة، أحست بشيء يتحرك خلفها،

استدارت في مكانها، تسمرت عيناها على جسم بض رشيق لطفلة في سن ابنتها الصغرى، قالت الطفلة: " هل الفطور جاهز؟" لم تفهم المرأة السؤال، فردت: " وأنت.. أنت من تكونين أنت؟ " صرخت الطفلة الغرة في وجها:" أنا الزوجة الجديدة وسيدة البيت " هل عرفت الآن هل عرفت؟؟ "

شهقت المرأة، ثم شرقت بشهقتها ولم يخرج من فمها صوت، امتدت يدها إلى الحجرة المتقدة الحمراء، انتزعتها من تحت " الفَرَّاح " ثم خبطت بها على الصدر مرات ثلاثة "خذ ياقلبي خذ يا قلبي خذ " قالت.

اشتعل صدرها وثيابها، اشتعلت كلها. صارت كرة من لهب، ومن النار خرجت عصفورة صغيرة وجميلة على صدرها وشمة حمراء من أثر الضربات التي هوت بها على الصدر بحجرة الكانون، طارت المرأة، ارتفعت وحلقت حول البيت كجمرة الغضب، رسمت دائرة أولى وثانية وثالثة حول المكان الأليف ثم غادرت... غادرت إلى الأبد.

أحيانا، أحيانا حين يشدو الرعاة باللحن الشجي لناي البعاد، تحط عصفورة الروح الصغيرة على أقرب فرع لشجر الحياة وتبكي حرقة صدرها في صمت.

أجوبة الخرافة على سوط القهر والاستعباد:

أكان الرعاة والفلاحون البسطاء يقبلون الظلم والاستبداد ويرضون بالتسلط والجور؟

أكانت المرأة القروية المستضعفة تقبل الإذلال والمهانة وترضى باستعباد الذكور؟

لا هذا ولا ذاك.

لقد وجد القرويون البسطاء في الحكاية وسيلة للتعبير عن الرفض والشجب والتنديد.

فالعصفورة التي تحمل وشمة الغدر على صدرها وبصمة القهر محفورة في القلب، هي نفسها المرأة المعنفة.

واللقلاق الذي لا يغادر المرتفعات والأعالي هو نفسه الظالم المستبد.

لكل ماسبق:

أزعم إذن بأن الحكاية الخرافية هي ديوان الرعاة والفلاحين بالمعنى الذي يُزعم فيه بأن الشعر ديوان العرب.

فهي الوعاء الذي حفظ الذاكرة من التلف وهي سجل الآلام والأوجاع وكناش الأفراح والأتراح وسفر الأحلام والتطلعات. هي اللوح الذي نقشت عليه أقدارهم ومصائرهم، وهم وهن، قرويون وقرويات، يناهضون عسف السلطة المستبدة للحاكم أو عسف العقلية المتسلطة للذكور..

إنها أيضا الرسالة/ الوصية/ الشهادة الشفهية التي بعثوا بها إلينا من ماضيهم ذاك المنسي، ومن وراء ردم المطامير التي دفنوا بها أحياء.

هناك ستظل أرواحهم وأرواحهن معلقة وممزقة حتى يتاح لأحفادهم قراءة الوصية. وفك طلسم مصائرهم العجيبة.

ومن أجل حفظ تلك الذاكرة ولا شك، ظلت الجدات ومن بعدهن الأمهات يحرصن كل ليلة على تكرار الحكايات نفسها على مسامع الصغار، لقد كانت الجدات ومن بعدهن الأمهات يعرفن بأنهن بذلك يحمين تاريخهن الخاص وجراحهن الخاصة من النسيان.

وللذين لا زالوا يعتقدون بأن الحكايات الخرافية للجدات مجرد مناسبة لتزجية الوقت والتخفيف من حدة الليل، أقول إن الأمر لم يكن كذلك، لقد كانت الجدات مؤتمنات على ذاكرة الرعاة والفلاحين البسطاء وأسرارهم، مثلما كن مؤتمنات على تراثهم المادي من غزل وطبخ ونسج وتوليد وتداو.. وخطبة وعرس إلخ، كن يحرسن ثروات القرى والدواوير والمداشر والخيام وينقلنها للأحفاد حسب قسمة متوارثة، للإناث نصيب مما تركت القبيلة وللذكور نصيب.

لقد كانت الجدة مؤرخة القبيلة، وحارسة التراث.

كثيرون قد عَبَروا هذه الأرض ( فقراء ومحرومون ومستضعفون ) مثلما يَعبرها البشر الفانون تاركين وراءهم بعض الحكايات التي تدعو الأحياء إلى التأمل والتفكير في المصير المُحترق.

والأطفال الذين تحلقوا حول الجدات في تلك السنوات البعيدة من تلك الليالي الطويلة القاسية، لم يكونوا أطفالا يتسلون بالإنصات لأحاجي الجدات وحكاياتهن حتى تنصرم حبات الليل من بين أصابع الوجود.

لقد كانوا هم أيضا حملة رسالة، هم أبناء المزارعين البسطاء والرعاة المتواضعين، حافظوا على الأمانة، وعبروا بها الحقب لكي تصل إلى القرية الحقوقية الكبيرة، أي إلى العالم الصغير أو الذي أصبح قرية صغيرة.

قد لا يجد البعض اليوم في الحكاية الخرافية ما يغريه بالانتساب لتاريخ هؤلاء الرعاة والفلاحين البسطاء ولمأساة أولئك النساء المستضعفات. لكن اللقلاق سيظل هناك في الأعلى معلقا ليذكر البشر الفانين بمساوئ الاستبداد.

وستظل أنثى أبي الحناء تحمل وشمتها على صدرها وصرختها في منقارها، ستظل العصفورة المسكينة تحوم وتحوم حول خيام القرية الحقوقية لتذكر رعاتها بخرافة الحياة.

 

...............................// القنيطرة/ المغرب

جمال الدين حريفي

 

 

 

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم