صحيفة المثقف

سرير الوجود

شهريار لن تكفيه ليلة واحدة لكي يعرف الحكاية ويحب الحياة،

و ألف ليلة لن تكفي لإسكات شهرزاد.

شهريار مجرد رجل

وشهرزاد مجرد امرأة.

وما بينهما سرير الوجود وسر الخلود.

هي تحكي

وهو يصغي.

هي تأتي وهو يمضي.

الموت والحياة يلعبان كقطين صغيرين أليفين

بكبة الأيام.

الموت يسل خيط الليل فتحكي شهرزاد.

والحياة تسل خيط النهار

فيصغي شهريار.

***

تتمتع بعض الحكايات - وهي قليلة جدا - بذكاء خاص وعبقرية فريدة، تجعلها تتجاوز سقف تفكير أولئك الذين أنشؤوها، لتخط لنفسها دروبا ومسارات يصعب استيعابها واستساغتها بيسر وسهولة.

الحكاية خدعة رهيبة.

وبعض الحكايات قناع لحقائق وجودية تنفلت من بين أيدي الإدراك العقلي بكل وسائطه.

والحالة هذه، لقد أنشأت ألف ليلة وليلة شخصيتيها الرئيستين باستقلال عن وعي وإدراك أولئك الرواة والحكائين الذين تناقلوها جيلا بعد جيل.

أزعم بأن شهريار ليس رجلا.

وكذلك أزعم بأن شهرزاد ليست امرأة.

ولم يكن بينهما ما يكون عادة بين رجل وامرأة.

ولا يمكن لعلاقة من هذا النوع أن تقوم بينهما، لأنهما ليسا بشريين.

شهريار وشهرزاد يجسدان المبدأين الرئيسين للوجود. وكما هو الشأن في الحكايات الأصلية، فهي تعطي للمبادئ الوجودية وجودا عينيا، أي مشخصا، وإلا فلا يمكن التعبير عن مبادئ الوجود فقط بالمفاهيم.

الفلاسفة يعبرون بالمفاهيم،  ولكن الشعوب لا تتكلم دائما بلسان الفلاسفة.

إنها تتكلم بالدرجة الأولى بلسان الخرافات والأحاجي والأساطير، لأنه لسان جمعي، لسان يعبر عن اللاوعي الجمعي والذاكرة العميقة المشتركة.

أزعم إذن بأن شهريار وشهرزاد يمثلان المبدأين المؤسسين للوجود،

-  غريزة التدمير (الموت)، ذلك هو شهريار الذي صار يقتل النساء ( الحياة) بعد انبثاق وعيه بالخيانة ( التوالد والتجدد) (انظر النهاية، فشهرزاد ستتوسل بالحكاية لكي تتجدد بالولادة وتضمن الاستمرار، وشهريار كان يريد "بالقتل" كسر سلسلة الاستمرار والتجدد).

-  غريزة البقاء (حب الحياة) تلك هي شهرزاد التي تتوسل بالحكاية (من داخل الحكاية) لكي تؤجل موتها، و لكي تحافظ على استمرار الحياة.

أهما مبدءان متضادان أم متكاملان ،،،؟ أم أنه لا بد من وحدتهما لكي يكون الوجود، ويدوم ويستمر.

و لذلك يجمعهما الليل على سريره... ذاك ليل الوجود.

ولأن المستمع / المستمتع لن يدرك الخدعة،

يتم استبدال لذة الجنس (ما يجمع بين رجل وامرأة) بلذة الإنصات (ما قد يجمع بين الفرد والذاكرة الجمعية)

لم يكن شهريار يستمتع بجسد شهرزاد وإنما كان يستمع لحكيها، أي لنداء وجودها، فلا معنى لوجود الموت بدون حياة، ولا لذة في التدمير بدون إغراء ولا غواية، أي بدون استعطافات الضحية وتوسلاتها. لا معنى للاستمتاع بدون استماع.

- "الحكي" إذن ذريعة لبقاء الحياة،" لذة العيش".

- "الإنصات" أيضا ذريعة لتأجيل الموت،" لذة الترقب".

فلا مكان في الوجود (داخل الحكاية) لشهريار دون شهرزاد، وإلا فما عساه يقتل؟

تبقى التفاصيل طبعا وهي كثيرة.

هل من فائدة ما أو من معنى خاص للحكايات الجزئية التي تسمح لشهرزاد بالعيش؟

لا... ونعم.

أي، أن تكون كذلك أو تكون غير ذلك فالأمر ليس مهما إلا بقدر أهمية حياة كل فرد أو كل جماعة.

قد تحكي شهرزاد عن الهند والسند والصين وأقاصي العالمين، فلكل شعب حياته وقصصه.

ومادامت الشعوب كما الأفراد منذورة للاختلاف، فما حكته شهرزاد (الحياة) مجرد تفاصيل، أقصد تفاصيل حياة. فالناس والتاريخ في الأخير يؤولون إلى مجرد قصص.

***

تلك قصة الحياة.

تلك هي القصة التي يجب أن نفهمها من الحكاية.

فحيواتنا هذه القصيرة فوق الأرض مجرد قصص قصيرة.

وكل عمر مجرد ليلة من ألف ليلة.

ألف ليلة هو عمر البشرية.

وكل واحد منا يعيش بين قبضتي غريزتين.

غريزة التدمير وغريزة البقاء.

كل واحد منا يعيش بين الموت والحياة.

وبالحكاية نراوغ الموت ونؤجل انتصاره.

في الحكاية الأصلية ذلك التأجيل دائم ومستمر.

ولكنه بالنسبة لحيواتنا الخاصة وموتنا الخاص، أي الفردي، لا يساوي إلا ليلة من ألف ليلة.

كل واحد منا مجرد قصة قصيرة من قصص ألف ليلة وليلة.

وحياة كل واحد منا مجرد ليلة قصيرة على سرير الوجود.

نحن الذين نحيا هاهنا على هذه الأرض، نحن أبناء الحياة، وليس لنا من أب آخر غير الموت، لكن هيهات هيهات أن نقتل الأب.

 

جمال الدين حريفي – القنيطرة / المغرب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم