صحيفة المثقف

لاعقل مع الايمان المطلق .. قوة التدين تطيح بقوة العقل

منذ نشأة الانسان الاول والاسئلة العميقة تلاحقه، فيحاول إيجاد الحلول بالتفكير والمتابعة البحثية الجادة، وكلما كثرت القيود المانعة من التفكير في الاسئلة الداخلية للفرد أو الأجوبة التقليدية المُستهلكة، كلما إزداد إختناق العقل وذبُلت شرايين الدم الموصلة له، فيموت من غير تكلف . نظرية التجهيل والإخناق لا تحتاج الى كثير من التخطيط لكنها تحتاج الى كثير من النصوص المخيفة والمرعبة، فيما اذا خرج أحدهم عن السياق العام للتفكير القائم للمجتمعات المخدرة بوباء تقديس الموروث والذي حُرمت من التفكير به، على الرغم من أنها تتعبد بنصوصه وقوانينه .

أعتمد الفلاسفة الاوروبيون بالتحديد على إيجاد نظريات للخروج من قاعدة تنميط المجتمعات وقولبتها الى تحريك المجتمعات عبر بث روح جديدة للتفكير ومن أهم عوامل التفكير وبدايته هو الشك . خرجت في اوربا حركات متعددة منها الشكوكية التي أخذت حيزاً من تفكير المجتمع، لكن رائد الشك وواضع نظريته هو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي طلّق اليقين ليرحل الى عالم الشك، الشك بكل الموجودات في هذا الكون، لأنه رأى لا مجال للتقدم في اي من عناوين الحياة مالم نشك وأدرك ان لا حظوظ لتطور الانسان اذا بدأ من اليقين او اليقينيات المكتسبة، يجب ان ينطلق العقل في رحلته البحثية من اللاحقيقة الى الحقيقة النسبية، عكس ما موجود في ثقافتنا الواهمة اننا نملك الحقيقة المطلقة ! ساقه عقله الشاك بالاشياء الى سؤال مهم، هل أنا موجود ؟ فكان جوابه المعروف أنا أفكر اذاً أنا موجود. ولم يكن لهذا الاستنتاج ان يمر دون ان توجد له معارضة ًاو تصحيحاً، فقال أحد مجايلين ديكارت . (ان مقدمته الكبرى مضمرة ف الأنا أفكر، تفترض المقدمة التي تنص على ان: كل مفكر موجود) يحاول هذا التوصيف إيجاد ادمية الانسان واختلافه عن باقي الموجودات من حيث المعطى العقلي التفكري . ولو حاولنا قلب المعنى، انت تقلد فقط هذا يعني انت لا تفكر. فتكون النتيجة اذاً انت غير موجود في مساحة الوعي والتفكير.

تعتقد معظم المجتمعات البسيطة والتي لا يكون للعقل دور فيها انهم خُلقوا على الحق المطلق، بينما غيرهم خُلق على الباطل، لهذا السبب تكثر الدعوات التلقينية المتماشية مع طبيعة وسلوك ذلك المجتمع . نجد هذا واضحاً في مجتمعنا الشرق أوسطي، الذي يغيب فيه الشك (العقل) بينما يسرف بهذيان اليقين والمطلق (الجهل) يُنقل عن ابي حامد الغزالي قوله : الشكوك هي الموصلة للحق فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال. وهذه فقرة تُحيلنا الى مستوى مهم من العقل والتفكير، لطالما إحتجنا لها وهي ان الايمانات المطلقة التي ورثناها من أهلنا بتلقين وترديد يجب تفكيكها وإعادة هيكلة البنية الاساسية في منظومة الايمانات المطلقة . الايمان او التدين المطلق موت حقيقي للعقل، الايمان المطلق سياج حائل ومانع للشك والبحث العقلي . اذا كنت مؤمناً بالقضايا الدينية او السياسية إيماناً مطلقاً، هذا يعني لا مجال للعقل للدخول الى باحة ذلك الايمان والبحث فيه . إستحالة استخدام العقل امام اي معتقد مؤشر على ان المعتقد معطوب من الداخل لذلك غُلف بطريقة تجهيلية تقديسية ألغت كل مجسات المعرفة للتقرب من ذلك المعطوب . هل هناك أي مجال عند أصحاب العقل المُقلِد المؤمن بالحقيقة المطلقة ان يراجع أياً من قضاياه اليقينية ؟ بالتأكيد لا . لأن إيمانه التلقيني الوراثي سحق على عقله وأماته بطريقة إحتيالية ووهب له معلومات جاهزة وايمانات مطلقة لا يجوز البحث او السؤال عنها. ليست الشكوك هي التي تفقد العقل بل اليقينيات .كما قال نيتشة . والحق أن هذه المقولة لها من المصاديق ما يؤهلها لتكون اقرب الى الحقيقة من زيف الحقائق التي يهرف بها البعض .

مات العقل بكثرة اليقين ووهم الحقيقة وغياب العقل الشاك والباحث والناقد . سأل أحدهم لو كان النبي محمد موجوداً الان هل سيبقي القران كما هو؟ ولأن القران حقيقة يقينية، توجم البعض من هذا السؤال وأجاب الاخر بكل تلقائية ولا اظن القارئ سيخرج من حرج الجواب الذي سيُحيل الى اسئلة اخرى. رغم ان هذا السؤال مباح لكن العقل التلقيني لا يستمرئ هذا النوع من الاسئلة . فتشابه الجواب مع الواقع وراهنيته يفضي الى مزاولة العقل كمحرر منجي فيكون الجواب، بالتأكيد سيرفع النبي اغلب ايات القران .. عندما لا تشك او تراجع في ايماناتك فتأكد ان عقلك قد لقي حتفه وناله من تعسف تدينك وإيمانك الكثير من الاجحاف والمهانة . نبذ الفيلسوف الهولندي سبينوزا من أهله ومن الجالية اليهودية في امستردام، بسبب ادعائه ان الله يكمن في الكون والطبيعة وأن النصوص الدينية هي عبارة عن استعارات ومجازات غايتها تعرّف بطبيعة الله.

الايمان والتدين بالحقيقة المطلقة، يتجسد في إيمان داعش في هذه المرحلة، فهو أصدق الايمانات وأوضحها، تدين لا يعترف بالعقل ولا يعبأ بالشك ولا يركن للعلم. وكمصداق حقيقي على ان التدين يقتل العقل، فأفراد داعش مؤمنون حقيقيون بل أكثر إيماناً من الذين يدعون التدين وفي أغلبهم مزيفون يلهثون خلف مصالحهم . السبب الرئيس في موت عقل المسلم هو تدينه وإيمانه التلقيني المطلق الذي لا يسمح لعقله بالخوض في تلك الايمانات او مراجعتها . يملك القدرة على تفخيخ نفسه والذهاب بها الى اسواق المدنيين ثم تفجير جسده بتلك الارواح البريئة، لكنه لا يملك القدرة على مراجعة هذا التدين الذي حوله الى وحش .

كخلاصة للذي قلناه او الذي نروم قوله :

1- التدين المطلق والعقل نقيضان، كلما ارتفع منسوب احدهما قل الاخر

2- اي إيمان يزعم الحقيقة المطلقة إيمان وهمي وزائف

3- العقل الذي لا يمارس الشك والنقد والمراجعة، عقل ميت كلما تشدد الفرد في إيماناته كلما إضمحل ناشطه الذهني

4- الاشخاص الذين يؤمنون بكل ما وجدوا عليه آباءهم، ميتون وان كانوا أحياء

5- الحقيقة نسبية فمن يزعم الحقيقة المطلقة يقع بالوهم

6- غالباً ما يكون التدين عاطفياً مبنياً على مقررات غير مرئية لا حضور للعقل بهذه المقررات

7- أغلب الاشياء التي تحيط بنا في هذا الكون متحركة ونسبية غير مطلقة، اذن لا يمكن إعتماد النسبي على انه مطلق، فيجب التفكير بالنسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق لكي يتم التعامل معه خارج قوس التقديس

8- هويتنا الانسانية أننا نفكر ونتأمل وليس نجتر ونكرر ما لُقنا به

 

مصطفى العمري

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم