صحيفة المثقف

خيانات أنيقة لشاعر وسيم

الترجمة في تعريفها البديهي هو التمرين الذي تقوم به اللغة لتَظل بصحة وعافية، وإن كان هذا الفعل الإبداعي الخلاق هو ضرورة لكل لغة حية وفعّالة تريد أن تَرتقي وتُعلي من استمرارية حَامليَتِها كرافعٍ لحضارة ما. فهو ضَرورة مضاعفة وحاجة مُلحة على المجتمع العربي اليوم، وهي بوصلة لمؤشر حركة ازدهار أي أمة أو انكسارها. 

الترجمة هذا الفعل الذي يَحتاج إلى عُدة معرفية آهلة، ودِرْبة حقيقية بأدوات مُجتَهدة، ورؤية بَليغَة، نجد أنها على المستوى الثقافي لم يَبرع فيها مشرقيا غير أسماء قليلة وجادة (كسعدي يوسف، جبرا إبراهيم جبرا، جورج طرابيشي وعبد الرحمان بدوي... وآخرين مبدعين). أما على مستوى المغرب فقد عُرِف عن المترجمين المغاربة في هذا الجانب عُلو كعبٍ وحُسْن اشتغال جعل كثير من ترجماتهم مَرجعا رئيسا معتمدا ومتداول، ومن بين الأسماء الحقيقية في هذا المِضمار يبرز (محمد بنيس، محمد برادة، عبدالله العروي.. وآخرين رائعين)، كانت الفرنسية اللغة الأقرب إليهم، بِفعل العامل التاريخي بِشقَيه السياسي والثقافي، الذي صار يَستَحوذ شيئا فشيئا على المشهد المغربي، وهذا جعل من هذه اللغة تَتَملّك أكثر من تسعين بالمئة من حصة اللغات المترجمة عنها، فيما تَقتَسِم الإسبانية والإنجليزية ما تبقى. أما الترجمة عن لغات أخرى فتَكاد تكون نادرة، اللهم ما حاوله البعض مُستعين بلغات وسيطة ما يَجعل الترجمة مُتَرهِلة في غالب ما خَاضوه وضعيفة.

إلى هنا بروُز أسماء قليلة ومُضيئَة ترجَمت الأدب الألماني إلى العربية، كان الشاعر المغربي محمد أهروبا أحد أبرزِها، فهذا الشاعر الذي استَطاع باجتهاد بديع فَتْح سماء الشعر الألماني أمام القارئ العربي، غيمة غيمة..

 بهدوء لا افتِعال داخله،

 فنحن نَعرفُ أن الترجمة فعل تَتضاعَف صُعوبته عندما يكون الشعر هو مَوضوع ما يَعتَمِله، حينها يكون المترجم مَحتوما عليه، أن يَنقُل المعاني وظلالها.. هذه الظلال التي طالما، اسْتَضئتُ بها وأنا أتابع بافتتان يَترقرَق في عيني تَرجمة محمد أهروبا، وهي تَرجمة مَشْغولة بماء الشعر ولمعانه. ليست مُفردات مُركبَة بعضها فوق بعض، تُوَحِدها علائقية تَبسيطيَة، كما يفعل كثيرون مٌشَوهون لما يَدَّعون أنه ترجمة.

للتَرجمة أهمِيَتها التي لا تَقِل عن أهمية الكتابة الإبداعية ولها وظيفتها التي لا غنى عنها، وهي عملية جد مُرَكبة، وما شدني في تجربة محمد أهروبا، أني كلما فَرغْت من قراءتها، لا يَتَبادر إلى ذهني ذلك السؤال الذي اعتَدت توجيهه بجِدية مبالغ فيها أحيانا، أين هي حصة الشاعر في القصيدة؟ وأين هي حصة المترجم؟

سؤال كهذا شَغلني طوال الوقت، إلى أن بَدأت تَتَلاشى دَوافعه أول الأمر، عند قراءتي لترجمات محمد بنيس، وأخد يضمَحِل بعد فترة مع أول ارتِطام لي بِترجمة سعدي يوسف و محمد أهروبا هذا الأخير  الذي أتَاح للنص المُترجم إمكانية تَشكيل هوية علائقية مُستَقِلة. فما يَشتَغل عليه بِشعورية أنيقة، هو ما يُبَلور هذه الاستقلالية. وهي استِقلالية غير ميكانيكية أو تَعريفية، وإنما هي انزِياح نَحو الشِعر الطافح عما يَلُفه من أدوات، ويَتبَاعد فيه من جغرافيات.

صحيح أن آليات النَقل وخِياراته أمر ما زال يَجتَر إشكالات عديدة على مُستوى المُفَكَر فيه داخل العملية التَرجمِية. لكن ما أجِدُه في تَرجمة هذا الشَاعر من قُدرَة على إعطاء الاعتِبار لتِلك الديناميكية الداخلية التي تَربط جَوهر القصيدة بعضها ببعض،. فَحتى على مُستوى المُصطلح تَجد أنه يَستَخدم مَعاجم متنوعة، كل حَسب إيقاع ما تَستَدعيه القصيدة المُترجم عنها. وهو ما يَجعَلنا نَطَّلِع بصُورة عَادلة ونَقيَة عن الشعر الألماني، الذي صَار قريبا إلى ذائقَة كثيرين بفعل هذا العَمل الجاد والمُتمَيز لهذا الشاعر المغربي، المقيم بألمانية، ما يُتيح له عمليا التفاعل مع هذه الثقافة بشكل مباشر، واطلاعنا على جديدها باستمرار.

نَعلم على مُستوى الثقافي والفكري أنه لا يُمكن لجَميع المُشتغلين على الحَقيقة الإنسانية أن يَستَخْلِصوا صورة واحدة، إلا إذا كانت خلفية تَفكيرهم اللغوية مُتَطابقة. وكلمَا انتَقلت صورة من صور هذه الحقيقة إلى لُغة أخرة، تَعَددت الرؤية واتَسَعت، وهو تَعَدد مغني، لا مَرام في ذلك، لازم إن أردنا أن يَتَحقق غِناه. أن يكون المُترجم حِرَفيا بالمعنى الفصيح للكلمة. فلا يُمكن أن يُترجِم الشعر إلا شاعرٌ، فالشاعر أفضل مَن يَتَصدى لهذه المهمة التي لن يَبرع في تَحقيقها سواه، هذا عكس ما هو مُتداول - حينما يَعْمد جامعيون ولغوِيون على ترجمته في جفافية وتَماثُلية مريضة.

الترجمة فعل واجب حَضاريا، لا حاجة لفَتوى في ذلك، لكن مع مُراعات شرط الاختِصاص، وهنا أتكلم عن نموذج بليغ استَطاع أن يَتعامل وطبيعة الشعر الرَقراقة، المُستعصية عن الانقِياد نظرا لغِنى دَلالاتها وعَميق مَعانيها، كسَاحر مَاكر وقوي، قُوتُه حِيَل كثيرة يَنتقي مهاراتها ليُحوِّل كيانِيَة الكلمة في غير اضطراب، يقول غوتيه "الكيان الذي لا يشهد أي تحول يصير إلى زوال".

إنه لا يوجد أي نص صافي تماما مثلما لا توجد هوية صافية، وهذا ما يَجعلني أرى لمجموعة من الأصدقاء يَتعاملون مع نص محمد أرهوبا المترجَم بألفة شديدة، وكأنه نِتاج خالص للثقافة المحلية. وهذا يعكس رؤية نحن بحاجتها بعمق داخل الكتابة العربية، أن أي نص لا يَحمل بذور الكونية في جيوبه فهو يجلب الكارثة لنفسه. ولا يمكن أن يُمارِس فعل المُثاقفة التي يَنشُدها في ادعائه.

فما يَضْمَنه محمد أهروبا للنص عبر تَهْجيره من لغته الأم إلى اللغة العربية هو حياة ثانية مُستَمِرة أبعد مما يُعطيها التأويل داخل لغَتِها.

أما الخطأ الكبير الذي يَتَجنبه هذا الشاعر،. هو أنه لا يَعمَل على تَجميد الحالة التي تُوجد عليها لغة القصيدة في حَياتها الأولى، بِحَيث يَبْنيها في شكلها الثاني، تماما، مثل تِمثَال منحوت، وهذا كل شيء.. وإنما يَنْفُتُ فيها شعورية تُعَبِّر عن بُلوغِه مدى النص، وأيضا لا يَذهب به أبعد مما يريد، فهو ليس عائم فوق سطح كلام، بِقدر ما هو شاعر مَاتع وأنيق، اختار مُنذ وقت مُبكر، عمله الترجمي كأداة نُزوع تَحديث داخل الثقافة العربية. ومَدخل لتَجاوز ذهنية الواحِد المُستبِدة في ثقافتنا المشرقية هذه. وإن كان مجهود فَردي، فهو مجهود مَحمود بِحب. في وقت ما زالت فيه كثير من مؤسساتنا الثقافية المٌبَجلة تَعتَبِر الترجمة من العلوم الكمالية، والنظرة الرسمية هذه كافية لتلخيص، مدى قتامة ما بتنا نعيشه في وطننا الحبيب هذا.

ترجمة محمد أهروبا هي قراءة خَلاقة للشعر، ومُعادل موضوعي لكتَابته، فما يَشهَده من تجاوُب كلي وعاطفي مع النص مَوضوع تَرجمَته، لهو عَملية إبداعية، خاصة أنه لا يُحاكي بناء العِبارات في النص المَصدَر مُمْتطيا سذاجة طالما تَعوَدنا للنظر إليها بعينين واضحتين في تَرجمات كثيرة تافهة . فما يقوم به هنا هو كتابة ثانية تماما مثلما هي الكتابة ترجمة عن الذات.

وَلنَقل، هنا، أنها تَرجمة عن ذات مُغايِرة، فهو يُعيد الترميز، ويُطرزُ نَقل دَلالات من حَياة أولى. ولِكل هذا يُعلي مَجهوده، ليُترجم إرساليَتَين في نِظامين مختلفين، بتَكافؤية مَوزونة يَنجَح من خلالها الشاعر/المترجم من إبقاء المُتلقي مأسورا بمَوطِن الجمال الذي يَتَحسّسُه في القصيدة. هذه التي جَنبَّها طُغْيان الإضافات أو حتى التَمادي في الحذف، لتَتأتى لنا القصيدة مُصابة بعافِية الضوء وقَمحِه. هي مَلاَد رَكيز للوصول إلى شاطئ الآخر. من الباب الأكثر قُربا للإنسان.

إن الترجمة بهذا فِعل ثقافي مُلِحٌ بقوة وهو أكبر من أن يُوكَل كامل هَمِّه للأفراد، لكن في غِياب مؤسسات ثقافية رسمية جادة وحقيقية، لا نجد غير أن نستضيء بمثل هكذا أسماء رائعة ومنيرة.

المترجم قُوَة من أجل الخَير، ومُفسِر يَلعب دورا هاما، في إنعاش الثقافة وتَحقيق جَدوتها، وإن كان المترجم كفاعل أساسي قد ظُلِم في سياق مشهدنا العربي وحُجِّر عليه في مصطلح الوسيط، لكن بالنظر إلى تَجربة محمد أهروبا على سبيل الذكر نَتَبيَنُ أن المترجم لا يلعب دور الوسيط ، وإن كان هذا ضمنيا، فالقصيدة لا يُحوّلها هذا الشاعر إلى حالة ثانية بقدر ما يَهبُها بَدأ لتستمر عبر حَيَوات مُختلفة ما تعددت على قراءة. فهو لا يَستَخدم تَكتيكا أو هندسة ميكانيكية نحْتِية، وإنما رُوح شَفيفة يُعَمّدها كامل جسد القصيدة، والترجمة بهذا فعل أوسَع تَعقيدا من النظر إليه بزاوية واحدة.

نَقل الشعر مُخاطرة شديدة، تَبتَغي شاعرا حاذِقا، مُتسَلحَا بِلغتين وقلب واحد تَمرّن على الوفاء لنفسه، يُمارس فِعله بأكبر قُدرَة من الوعي بالنص نفسه. هذا الفِعل لا يَسْتَعطي بمجرد الإلمام بِلغتين، من أجل استخدامهما بصورة آلية.. فَحتى أولئك الذين يكونون على مَقدِرة كبيرة على استخدام لغتين ليْس بِمقدورهم اهتِبَال الترجمة، لأنها كيمياء شديدة الخصوصية، فكيف تَتَعامل وهذه الكلمات العمِيقة المُتَصلة اتصالا تابتا بتاريخها وماضيها، وجميع أزمنتها الراهنة والسالفة؟

إن لم تكن لدَيك جمجمة جنرال على أهبة الشعر، دائما

الكتابة عَملية صعبة، ومٌمتَنِعة، هكذا خُضْت الأمر طوال الوقت. لكن صُعوبَتها تَهون أمام صعوبة التَرجمة، كنتُ قَررت رفقة صديقي عزالدين بوركة على ترجمة نُتَف من الشعر الفرنسي، رتَبنا للأمر بهمة عالية وكثير من المحبة للشعر.. ومع التجربة تَبيّنَ كم هو الأمر مَسْلكيّ وبحاجة لحذَر بليغ، لا تُسْعِفه فقط خُصُوبة الرصيد اللغوي الذي كنت أدعيه بادئ الأمر، مُستَعينا بِتِرسانَة لا بأس بها من المَعاجم، تماما، كما لم أجرُأ على إماتَة ما لم أستطع نَقله على مُستوى النص وإحْياء ما استَطعتُه، ومع أن العمل استَغرق أكثر من سَنة لم يُنشر لحد الآن لشِدة التَنْقيح والتشْذيب، لكني أشعر بالسَعادة في قلبي كلما اطلَعْت على ترجمة لقصيدة شقراء الروح تماما كما "البيرة" الألمانية على يد الشاعر محمد أهروبا، فهو لا يَقوم فقط عبر الشعر بتعريفنا بالآخر الذي طالما كان مجهولا لدينا لفَترة طويلة، بل يُمَكِنُنا أساسا من معرفة الذات وإغنائها بِبِناء تعدُدِها وإدْراج المختلف فيها.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم