صحيفة المثقف

الدور التربوي - العلاجي لألعاب وأحاجي القرويات

دبَّ الفأر... دبَّ الفأر...

 أو "من سرق البيضة " / نموذجا

 شكون سرق البيضة؟

"دب الفأر"، عنوان بالعربي الفصيح للعبة أبدعتها المخيلة المعطاء السخية للأمهات القرويات لمداعبة أطفالهن مابين السنة الخامسة والعاشرة تحديدا، ومن المعلوم بأن الألعاب والأحجيات والألغاز والخرافات والحكايات تحمل دوما "كودا" اجتماعيا معينا، إنها لغة مشفرة تحتاج من أجل فكها إلى  إعادة قراءتها بمقاربات بعيدة عن التفسيرات التبسيطية التي تتهم  اللعبة " بتبرير السرقة"، فهي لا تحمل أبدا معنى مباشرا يدرك فور القراءة، مادامت قد أُبدعت أو أُنِشئت لتحقيق غايات تبدو لنا الآن بعيدة أو خفية. المهم أنها تحقق تلك الغايات في جو من الانبساط  ورفع الكلفة والحرج والتخفف من ثقل  القيود وضغط المواضعات.         

والبداي :

حين نتحدث عن القرويات والبيض، فنحن نتحدث عن القرويات ودجاجات القرويات، وما أدراك ما دجاجات القرويات! فبفضلها وبفضل بيضها يشترين ما يحتجنه من الضروريات " ملابس/ ماكياج/ فضة/ ذهب وهدايا المناسبات"،

الدجاجات بنك القرويات وتأمينهن وكنزهن المحروس بعناية، دون أن ننسى بأن الدجاجات أيضا قرابينهن إلى الأضرحة والمزارات وثمن وصفات العرافات، لذلك تحرص القروية أيما حرص على أن لا تمتد يد أو ضرس لدجاجاتها ولبيض الدجاجات، قبل أن يمر العطار ليعطيهن مقابله نقودا أو سواكا أو أمشاطا ومرايا وخلاخيل.

لكن ما  العمل مع الفئران التي تتسل في غفلة من عين  المرأة  اليقظة على الدوام، ومن عين القط الرقيب لتزدرد البيض وتفر سالمة غانمة إلى غارها؟

وما العمل أيضا مع الصغار الذين يحبون ازدراد البيض كالفئران فيتسللون في غفلة من أعين الأمهات الحَذِرات ويختلسون بضع بيضات ما أحوج الأمهات إليها مع قرب موعد التسوق، وضيق ذات اليد، وتقتير الأب وشحه المفتعل، وصعوبة الأيام وكثرة المطالب؟

يتسلل الصغار على رؤوس الأصابع كما يدب الفأر على أرجله الرقيقة الدقيقة إلى حيث" تقرق "- تحضن -  الدجاجات على بيضها فيَسلُّون البيض من تحتها كما تسله الفئران، يسرقونه ويسلقونه ويتقاسمونه ويزدردونه خفية  وعلى عجل حتى لا يُكشف أمرهم أو تَفضحهم هفوة لم يردوا لها بالا.

تدرك الأم ذلك... تعرف الأم بأن "السُّراق"  مروا من هناك وتركوا آثارهم.

"السُّراق" الصغار مروا من هناك.

السراق المساكين سيشعرون بالذنب.

السراق الصغار يخشون العقاب.

لقد صاروا لصوصا وخانوا حليب الأمهات.

شعوران حادان مؤلمان.

ـ الشعور بالذنب وترقب العقاب ـ

تدخل هنا اللعبة "كآلية"   لإعادة التوازن النفسي للطفل.

ابتدعت الأمهات القرويات هذه اللعبة ـ لعبة من سرق البيضة ـ  للتخفيف من ضغط الشعور بالذنب ومن رعب ترقب العقاب، على اللص الصغير.

تداعب الأم طفلها وتسليه...  فلا شيء  يغلو  عليها في سبيل إرضائه، حتى وإن كان كنزها وبيض دجاجاتها، فما  لها غير هذا الصغير وهذا البيض، وصغيرها أغلى من  كل البيض.

تداعب الأم طفلها وتسليه وفي الآن نفسه تبعد عنه هم الانشغال بالذنب والعقاب. إنها تعالجه.

الأمهات القرويات معالجات نفسانيات لأطفالهن بامتياز كبير.

بدل السرير.

وبدل البوح بالأسرار.

تُجلس الأم صغيرها أمامها، وقد يأتيها طوعا، فهو من حيث لا يدري يجد راحته في هذا اللعب/العلاج.

تأخذ يده الصغيرة بين يديها وتشرع في عملية التطهير.

تشد الخنصر أولا وتقول:

ـ هذا سرق البيضة.

ثم تأخذ البنصر وتقول:

ـ وهذا سلقها.

ثم الوسطى وتقول:

ـ وهذا ملَّحها.

فالسبابة وتقول:

ـ وهذا قسمها.

الطفل يتابع باهتمام، مسلوبَ الإرادة ولو أنه يعرف الحكاية، لأنه يريدها، يريد الحكايةـ

ثم تشد الأم الإبهام وتشرع في المرافعة عن الغائب.

تقول الأم ـ وهي ترفع الإبهام ـ وهذا:

ـ وهذا قال أين حقي؟

فيقول: "تقصد الخنصر فهو المعني بالسرقة"

(الخنصر أيضا يرمز إلى الطفل، أما الإبهام فهو  بعض من يده،حين لا تطاوعه كل يده،  فالطفل متواطئ مع نفسه ولكنه أيضا ممزق بفعله كما لو كان يشعر بأن عليه أن يترك ما سرق للغير لكي يتخلص من التمزق. قد يرمز الخنصر إلى الطفل والإبهام إلى الأم التي تذكره بحقها في البيض، أليست اليد في النهاية هي يدهما معا، أي يد الطفل والأم، وإلا فكيف يستقيم اللعب؟)

أين حقي؟ تقول الأم بلسان الإبهام (الذي لم يحضر / لم تحضر السرقة )

ثم تجيب بلسان الخنصر / الطفل:

ـ سرقه الفأر.

فيقول أي الإبهام / الأم:

ـ وأين الفار؟

يرد الخنصر:

ـ اختفى في الزرب (في حكاية أخرى يحضر القط)

ـ وأين الزرب؟ يقول الإبهام.

أحرقته النار. يرد الخنصر / الطفل.

ـ وأين النار؟

ـ أطفأها الماء.

ـ والماء؟

ـ شربه الثور.

ـ والثور ذبحه الجزار (وفي حكاية الحداد)

ـ وأين الجزار؟

ـ الجزار غرق في النهر .

إذن فقد مات الجزار وانتهت سلسلة الحكاية. مات غرقا.

تستدرج الأم بالسؤال طفلها لكي يقتل الجزار.

وبموته يتحرر من ترقب العقاب.

اللعبة كلها بين الفأر والجزار.

الفأر يمثل اللص/ السرقة / الشعور بالذنب. (ليس الفأر في النهاية غير الخنصر وليس الخنصر غير الطفل) استبدالات ذكية.

الجزار يمثل القصاص/ الخوف/ الترقب/العقاب.

ليست الأم جزارا لذلك فلن توقع العقاب بالصبي، إذن فالعقاب سيبتلعه النهر.  استبدالات أخرى ذكية.

فلا عقاب ينتظر الطفل، لقد سامحته الأم، ويمكن للفأر أن يعود من جديد (حتى وإن كان القط قد أكله في بعض الحكايات)

يمكن للطفل أن يعود لأخذ البيض فليست تلك بسرقة، الطفل لا يسرق أمه، ولكنها لحرصها على "رأسمالها / الدجاجات"  فهي أحيانا تغضب منه وتنهره، يشعره ذلك بالذنب كما لو كان قد ارتكب جرما. لذا تعود الأم في وقت الراحة والانشراح لتصحيح أخطائها ومحو آثار عنفها على شخصية "الطفل/ الفأر/ الخنصر" وهو في طور التكون والنمو.

يمكن للفأر الآن أن يعود إلى الحياة، ويمكن للطفل أن يسرق ما يشاء من بيض بتواطؤ  صريح من "الإبهام/ الأم" .

كيف سيعرف الطفل بأن أمه موافقة ومتواطئة وراضية.

تنتقل الأم إلى محاكاة عملية السرقة والتخفي، فتشد على مجموع أصابع الطفل بيد وباليد الأخرى تقلد تسلل الفأر إلى عش  الدجاج، تكور يدها وتُسَرح إصبعين، "السبابة والوسطى" صانعة رِجلين كرِجلي فأر وتشرع في الدب... على طول الذراع الصغيرة للطفل ...

" دَبَّ الفأر ... دَبَّ الفأر ... دب الفأر ... (دون قراءة الهمزة) دَبَّ الفار... دب الفار ... دب الفار "

تتحرك إصبعا الأم على طول اليد الصغيرة للطفل ..." تدب ... تدب محدثة دغدغة لطيفة "

تتحرك إصبعا الأم على طول الذراع الصغيرة للطفل الصغير حتى تصل إلى الإبط

 (هل الإبط عش الدجاجة أم غار الفأر أم هما معا؟  "سرقة وفرار ونجاة" .

تصل الأم إلى إبط الطفل وتقول ضاحكة وهي تدغدغه بلا توقف:

ـ" دب الفار ... احتى اتخشى (أي دخل)  فالغار"

وينفجران ضاحكين في تواطؤ جلي.

لقد فهما معا واتفقا معا حتى دون أن يصرحا بذلك.

أليس ضحكهما معا اتفاقا على أن  السرقة ليست سرقة.

سيطلب الطفل المزيد، سينادي أمه لكي تلاعبه ولكي تحرره من شعوره بالذنب ولكي تعلن جهرا بأنها لن تعاقبه.

سيقتلان الجزار ويعيدان الفأر إلى الحياة، فلا تحلو حياة القرويات بدون فئران وبدون أطفال.

أليس الأطفال " فُوَيْرَاتُنا الصغيرة؟"

تعود الأم إلى دغدغة الطفل ... والى طمأنته،  فلن يفقد حنوها بسبب بيضة مسروقة/ أو بيضة مسلوقة.

إنها لعبة مواربة.

لعبة الذنب والعقاب. لعبة الظهور والتخفي.

ينمحي الذنب ويُرفع/ يَغرق /العقاب، ليحل محلهما اللهو البريء... لهو الأمهات القرويات مع أبنائهن.

مجرد لهو/ تربوي/ نفسي/ علاجي، لا ينبغي أن نقلل من شأنه، وأن نبخسه عبقريته.

صغار يسرقون البيض، وأمهاتهم يلاطفنهم للتخفيف من حدة الشعور بالذنب ومن قلق ترقب العقاب، حتى لا تهدد ذواتهم الصغيرة بعقد لا حاجة لأهل القرى بها، فهم مشغولون  بطحن حجرة الآلام بأضراسهم لكسب الرزق، ولا وقت لديهم لتركيب العقد في صدور الأطفال، ما دام هؤلاء سيحملون فوق ظهورهم عقدا من الهَمِّ لما تبقى من أيام عمرهم.

الأمهات القرويات معالجات نفسانيات من الطراز الرفيع، لا يعلمن الأطفال السرقة ولكن يطهرن أنفسهم من عقدة الذنب وخوف العقاب.

دب الفار ... دب الفار ... دب الفار...  أحتى أتخشا فالغار (حتى اختفى في الغار).

لقد اختفى اللص.

و... كبر الصغار ... فأصبحوا هم أنفسهم " دجاجات" تختلس الثعالب والتماسيح والعفاريت بيضها في واضحة النهار. أما العطار الذي كان عادة يشتري من القرويات بيضهن الطري، فلم تُبق له الأيام غير البيض الفاسد.

دب الفار ... دب الفار ... دب الفار .

 

 القنيطرة / المغرب.

                       

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم