صحيفة المثقف

عثمان وأبو بكر..

يأتي كلٌ منّا الى الحياة ولم يستشر، لا يدري من اين أتى، ولم يختر جنسه ذكراً أو أنثى، ولا لون بشرته ولا مسقط رأسه ولا دينه، ولا عشيرته ولا اسمه.. يأتي الإنسان وفق  نظرية الصفحة البيضاء في علم النفس، صفحة ناصعة ثم تبدأ بالامتلاء... يكتب عليها الوالدان والأخوة والأصدقاء والمعلم .. والناس كل الناس من تعاليم الدين والأخلاق والأفكار والثقافة؛ ويتلقى الإنسان ما بها من أفراح وأتراح وقيم العشيرة وقوانينها غير المكتوبة، وقوانين الدولة المكتوبة...

 وحين يسأل الإنسان كيف أتى ومن أين؟، لا يحار جوابا وحين يسأل عن الله الخالق من خلقه؟ يُقمع، ويقال له أحياناً إنه استوى على العرش في السماء.. وقد صرخ ذات مرة طفل والطائرة تشق عباب الغيوم ، أين الله إذن؟! تماماً كما صرخ ذلك الطفل بطل قصة "ملابس الامبراطور الجديد" للدنماركي أج. سي. أندرسن، وفحواها أن الأمبراطور قرر أن يمتحن سطوته على شعبه، وزعم أنه يلبس ملابس جديدة لا يراها الا الأذكياء.. وهكذا مرّ بعربته الملكيه مزهوّا أمام تجمع شعبه رجالا ونساء والكل يصيح ما أجملَ الملابسَ!، وما أحلى المخملَ الموشى بخيوط الذهب! ... وكان أحد الأطفال ألحّ أن تحمله أمُّه ليرى الملك وملابسه الجميلة، وما أن وقع نظره على الامبراطور صاح بصوت عال: الملك عارٍ عارٍ عارْ!!

هكذا حُقن كل منّا منذ الصغر بمنظومة قيمية غيبية من الدين ومن المفهوم السائد في نظرتنا للآخر وفي فهمنا الشعبي للتاريخ وتلقي كل ما هو مطبوع حقيقة مسلّمة، وما زال التزييف والدجل والخرافة تُذاع من المنابر على أنها الدين ومازالت رحى الفساد باسم الدين تدور، وما زال تشويه الآخر مستمرا.. وكل من يتصدى ستكون التهمة جاهزة وهي المروق عن الدين!!

وهكذا كان الإجراء الخطير الاول الذي شهدناه ونحن صغار، في درس الدين، حين يؤكد المعلم على غير المسلمين أن يغادروا الصف! وهكذا يخرج زملاؤنا الصابئة والمسيحيون واليهود، وكم كان هذا الإجراء مقيتاً لا على الخارجين بل على الباقين، وكنت أرى هذا الدرس ثقيلاً، وكم تمنيت أن أخرج مع الخارجين لألعب وألهو وأتضامن مع زملاء طيبين لم يختاروا دينهم كما لم اختر ديني.. في هذا الدرس كان رأسي الصغير وهو يكبرُ يتعبُ من تفكير بأشياء تقلقني أيما قلق:

"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" الأنبياء:107

وقوله تعالى" لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" البقرة:256

 وبين قوله تعالى: " واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل " البقرة:191

 ثم قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) النحل:93

  أو قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ التوبة:29

أو قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ آل عمران: 85

أو قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين) المائدة:68

وبين قوله تعالى:" ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ المائدة: 5

وقوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" الحجرات: 13

 أكتفي بهذا لأعود الى الخلاف داخل البيت الإسلامي..

 وهو يتعدى الخلاف بين المذاهب فالاجتهاد مباح ومن طبيعة البشر ان يختلفوا، وقد قال الرسول الاعظم: " الاختلاف في أمتي رحمة".. وقد قال الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب"، وهو رأي حصيف لكنني سأجعل باب الخوض بين السنة والشيعة موصداً إيثاراً للعافية، وهو معروف لدى الجميع، والغريب أن كلا الطرفين لا يشددان على نقاط الالتقاء وهي كبيرة جداً فعلى سبيل المثال من يبحث سيرة أبي حنيفة وجهوده وهو صاحب الرأي في الحديث وهو تلميذ الإمام الصادق لمدة سنتين وهو القائل: لولا السنتان لهلك النعمان.. وهو الذي دعم استاذه الثائر زيد بن علي دعما مادياً وسياسياً، وهو الذي ذاق مرارة سجون بن العباس وكان قريباً جدا من الطالبيين بل هو شيعي زيدي بامتياز ولكن المصيبة جاءت من تبني الدولة العثمانية لمذهبه والسبب هو تساهل النعمان في قضية الخمر وكان الجيش الإنكشاري في معظمه من المسيحين فلا بد من الخمر الذي شاع أيما شيوع في ملة العثمانيين!! وارتكبت كثير من المثالب والمظالم ضد المسيحيين وضد العرب الشيعة بشكل مضاعف ما جعل ظلم العثمانيين سمة ارتبطت وألصقت بمذهب ابي حنيفة!!

أسماؤنا في الأغلب تحمل سمة الدين والصراع التأريخي فاصبحنا لا ننظر إلى عمر إلا بمنظور منطق الصراع وما فيه من شوائب وأضاليل وكذلك للسقيفة وأبي بكر ولا يختلف الامر في عثمان؛ وأصبح الآخر ينبز بالأئمة وباسماء عبد الزهرة وعبد الحسين...الخ

ولقد كان التميُّز مقصوداً لدى الطرفين، فعلى الرغم من أن إسبال اليدين مباح كما في التكتف، وكلا الأمرين قام بهما الرسول الأكرم وكذلك في الضوء حيث مارس الغسل والمسح على القدمين، فإن المسألة أصبحت خلافية جوهرية.. فإذا عمل فريق بتسنيم القبور قام الفريق الآخر بتسطيحها وإذا تختم فريق باليمنى تختم الآخر بالشمال، وإذا صلى أحدهم على النبي وسلمَّ على أله، عمد الآخر على الصلاة على النبي وزاد عليها أصحابه..وإذا فريق بتحية السلام عليكم معرفاً السلام قال فريق آخر بتنكير السلام ليصبح: سلامٌ عليكم.. وإذا صلى فريق التراويح أنكر الفريق الآخر التراويح وقال ببدعتها التي ابتدعها الخليفة الثاني وكل بدعة إلى ضلال.. وإنما النوافل!!

وهكذا وجد التميُّز طريقه إلى التمييز وتلك هي الطامة وأصبح التمييز بالأسماء واقعاً فلا ينظر للشخص إلا من خلال اسمه ودلالته التاريخية/الدينية على حساب شخصيته وأخلاقه وثقافته وإخلاصه وإنسانيته ووطنيته..

عندما وقف البطل الشهيد عثمان العبيدي الأعظمي وقفته المشهودة لانقاذ الزوار الغرقى  على جسر الأئمة حظي بتكريم وحب الناس وضرب مثلاً عظيما للمواطنة ولمُثل الشهامة  وأتبت أن السني أخ للشيعي وأن الشعب العراق لا تفرقّه المذاهب.. ثم تتالت الأمثلة من جنود قدموا حيواتهم من أجل إنقاذ الأبرياء لتعطيل الإرهابيين ممن يقومون بتفجيراتهم.. وجاء المثل بالأمس من البطل " أبوبكر الدراجي السامرائي" ليقف بشموخ أما الإرهابيين بشجاعة قل نظيرها تُعد مفخرة لا لأهله ومدينته بل لكل العراقيين...

ما أرمي إليه هو تعزيز مبادىء المواطنة العابرة للطائفية المقيتة والعنصرية البغيضة بنظام مدني علماني لا يتم إلا بحكم انتقالي يلغي الدستور المهلهل، ويلغي مبدأ المحاصصة سيء الصيت ويؤسس لحكم يتولى المسؤليات فيه أصحاب الكفاءات من التكنوقراط لإعادة الهيبة للدولة وجعل معايير المواطنة والكفاءة هي الفيصل ومحاربة الفساد واسترجاع المبالغ المسروقة، وتكوين مجالس رقابه شعبية من النزهاء،  لكي نُرسي أسس مبادىء جديدة تتماشى مع روح العصر ولنفصل الدين عن الدولة وعن المؤسسات التعليمة.. بهذا وبغيره  يتم إعادة البلد الذي وقع بين مخالب الارهاب والطائفية والفساد..

 

خالد جواد شبيل في 26شباط فبراير2017

...................

(*) من سلسة فيسبوكيات-8

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم