صحيفة المثقف

الخطوط الكبرى لبراديغم التفاعلية الرمزية:ارفنغ قوفمان مثالا للتحليل

تقديم عامّ: إنّ المجتمع ليس بنية ساكنة بل هو حظيرة في طور البناء المتواصل، لذلك سعت البراديغمات السوسيولوجية كل من زاويته الى تحليل الاجتماعي وفهم ميكانيزمات اشتغاله وإن سعت بعض البراديغمات التي استفادت من سابقيها الى القطيعة الكليّة مع البراديغمات السابقة عبر صوغ رؤى معرفية ومفاهيم جديدة واسس منهجية وموضوعات تعيد الاعتبار لما تغافلت عنه البراديغمات الأخرى .لكن هذا لاينفي الخيط الناظم بين هذه البراديغمات الا وهو دراسة المجتمع وتحليل خفاياه و"فك شيفراته" .وتأسيسا على ماسبق سعى ارفينق قوفمان في نظريته الجديدة التي استجمع طاقتها النظرية في كتابه مسرحة الحياة اليومية بجزأيه محاولا تبيان جملة من الأسس التي يرتكز عليها براديغم التفاعلية الرمزية وسنركز بوجه خاص على المؤسسة الاجتماعية organisation social كمثال للتحليل.

فماهي أهم المستجدات النظرية والعملية التي تطرق لها ارفنق قوفمان؟

1- من البنية إلى الفعل الاجتماعي المؤسسة الاجتماعية كمنطلق للتحليل:

ينطلق ارفينق قوفمان في خلاصته من مثال المؤسسة الإجتماعية و"يعتبرها أمكنة محاطة بالحواجز ولايمكن إدراكها إلاعبر فهم الأنشطة العادية للفاعلين فيها" .وهو يشير ضمنيا الى البراديغم الوضعي الذي يعتبر هذه المؤسسات بنى وأشياء يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية والتفسير السببي بمعزل عن نشاطات الفاعلين وتفاعلاتهم لضمان الموضوعية والنجاعة الايبستيمولوجية وداخل هذه المؤسسة يقوم فيه الأفراد بوظائف تساهم في تحقيق توازن المجتمع وهو توازن يختلّ في حال أصبح ذلك الدور لاوظيفيا وكما يقول دوركهايم "إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تدرس كأشياء..لأن كل ما يعطي لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء...وإذاً، يجب علينا أن ندرس الظواهر الاجتماعية في ذاتها، في انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يتمثلونها فكريا، ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا...إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته وبدون استثناء" (1).هذه الرؤية تهمش الفاعلين بما يحملوه من نشاطات ورموز وتفاعلات بينذاتية وايماءات .فالمؤسسة الإجتماعية وفق براديغم التفاعلية الرمزية مؤسسة تحوي جملة من الأنشطة اليومية" الروتينية " كالترحيب وحسن الاستقبال واللقاءات وبناءا على ماسبق تكون المؤسسة ليست معطى جاهزا وقواعد يسبق وجودها وجود الفاعلين بها بل هي حصيلة تراكمية لإنجازات تتكرر بصفة روتينية ولها منطقها الداخلي .

أما التضامن داخل المؤسسة الإجتماعية هو نتاج لذلك" الجو العائلي داخل المؤسسة "على حد تعبير قوفمان وهو عبارة عن رابطة اجتماعية وعقد يجعل من الفاعلين يتكتمون حول بعض الأمور كعدم إفشاء أسرار المؤسسة وليس تضامنا دوركايميا -بصنفيه الآلي والعضوي –قائما على أولوية المجتمع على الأفراد أي أن التضامن يهدف إلى الحفاظ على الاندماج الاجتماعي بل هو تضامن نابع من جملة إرادات فردية تجمعهم مصالح مشتركة .

2- من الدور القهري إلى الدور المسرحي:

إذا كانت الأدوار في البراديغم الوضعي محددة مسبقا وسابقة لوجود الأفراد فإنها ادوار تحددها السياقات والوضعية التفاعلية حسب قوفمان بل إن المجتمع عبارة عن فضاء مسرحي .وقد ركز قوفمان اهتمامه في هذه الخلاصة على المسرحة داخل المؤسسة الاجتماعية إذ هي فضاء يجمع بين فاعلين يقومون بأدوار تتناسب مع رهاناتهم وطموحاتهم وبهذه المؤسسة جوانب مخفية تسمى بالكواليس وهي تلك الاستراتيجيات والخطط التي يتبعها فاعلو المؤسسة لتحقيق غاياتهم .وتأسيسا على ماذكر فان الأدوار داخل المؤسسة تقوم على التحيل والتكتيك من اجل مغالطة الاخر وجلب احترامه لتحقيق غايات فردية أو جماعية .

3- رؤية جديدة في تحليل الإجتماعي:

لايفسر الإجتماعي عند دوركهايم الا بماهو إجتماعي غير أنه متعدد الأبعاد عند ارفنغ قوفمان وقد طبق هذه الرؤية المعرفية المستجدة على المؤسسة الاجتماعية وحاول تبيان أبعادها المختلفة وفهمها من زوايا مختلفة وهي كالاتي:

البعد القانوني:

المؤسسة الاجتماعية عبارة عن جملة من القوانين لكن الفاعلون في المؤسسة لايخضعون لها خضوعا تاما بل يناورون، يتحايلون أي بعبارة أخرى يتبعون سياسة الرتق le bricolage والفبركة والمناورة.

البعد الثقافي:

للفاعلين داخل المؤسسة قيما وضوابط صحيح أنهم تطبعوها من المجتمع ووجودها سابق لوجودهم لكنهم يفاوضون هذه القيم ويختاروا منها مايناسبهم وتخضع هذه التفاعلات حسب قوفمان إلى" تمثلات الفاعلين حول الإدارة" وعموما أولى قوفمان اهتماما كبيرا للجانب الثقافي في خلاصته وبيّن أن اختلاف الثقافات ينتج عنه اختلاف في القيم ما يؤثر في التفاعلات البينذاتية.

البعد التقني:

للمؤسسة جملة من الاليات التي تعتمدها لتنظيم العمل وتحقيق النجاعة .

البعد الدرامي:

أشرنا اليه سابقا وهو أن المؤسسة الاجتماعية مسرح يقوم فيها الفاعلون بادوار تتناسب مع طموحاتهم وحاجياتهم.

4- مقومات اللعبة التفاعلية عند ارفنق قوفمان:

حدد قوفمان في خلاصته ثلاث أسس للتفاعل وهي الشخصية والتفاعل والمجتمع:

الشخصية:وهي تفنن الفاعل في إظهار صورة مغايرة لصورته الأصلية للفاعلين الآخرين.وهو ماعبر عنه قوفمان بقوله:

Quand une personne se présente aux aux autres ,elle projette ,en partie sciemment et en partie involontrairement,une definition de la situation dont l’ideé qu’elle se fait d’elle-même constitue un élement important.

التفاعل: عبارة عن حوار وسلسةٌ متبادلةٌ ومستمرةٌ من الاتصالات وعلاقة جدلية بين طرفين أو أكثر والتفاعل يتغير حسب الوضعية التفاعلية ويمكن أن يكون تفاعلا على أسس التقابل أو التداخل وغير منظم مسبقا فالتفاعل يخضع الى قاعدة "الان وهنا".ويؤكد قوفمان في هذا الصدد على أهمية التفاعل الرمزي المتشكل عبر اللغة والمعاني والصور الذهنية والانطباعاتِ.

 استنادا الى قدرة الفاعل على استيعاب أدوار الآخرين وردة فعلهم والتموقع مكان الأخر وفي هذا الإطار يقول قوفمان :

Il semble qu'il y ait une dialectique fondamentale a la base de toute interaction sociale.quand un individu est placé en présence des autres , il cherche a identifier des doneés fondamentales de la situation.

وعموما فإن التفاعل فنّ( الفاعل الفنان acteur artisan ) ودربة ودراية وحنكة ودور وهو نتاج لذوات فاعلة والآخرين هم مرآة الذات وإنعكاس لما صدر منها من لغة و ايماءات، وأشكال تواصلية أخرى soi en miroir وبناءا على هذا الإنعكاس تدرس الذات طريقة ردّ الفعل مستخدمة استراتيجيات واليات سواء في الإقناع أو في التأثير.عكس التفاعل عند الوضعيين الذي هو حسب دوركهايم "يكمن في كيفيات وطرق الفعل Consistent en des maniére dagir والتفكير والتي هي خارجة عن الفرد" (2 ).

المجتمع:

صحيح أن الفاعلين يجدون معايير وضوابط ايتيقية جاهزة وهي معايير تساهم في الحفاظ على تماسك النسيج المجتمعي غير ان الفاعلين يحاورون، يفاوضون، يناورون وهم أكفاء ولديهم خبرات ومهارات عملية تسمح لهم بمفاوضة النسق.

خاتمة:

نستخلص من خلال تحليل ارفنغ قوفمان للمؤسسة الاجتماعية والأدوار والمسرحة التي تحدث بداخلها أن المجتمع ليس قوة متعالية على الافراد ذلك أن فضاء ناتج عن جملة من التفاعلات والرموز والرهانات والأدوار، أي أنّ المجتمع صيرورة في تشكل مستمر وحركة لاتتوقف على أساس أن التفاعلات لاتخضع لمنطق الرقابة والقياس ولاسبيل إلى ضبطها وتحديد مسار تشكلها مسبقا هذه الحركة إن شئنا انسيابية .

1.إيميل دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم والسيد محمد بدوي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، 1988، ص103-104

2.ايميل دوركايم، المرجع نفسه، ص 13.

 

ماجد قروي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم