صحيفة المثقف

وتريات مظفر النواب ومعسكر المحاويل.. الى سعد صلاح خالص

بعد تخرجي من كلية الإدارة والاقتصاد – جامعة البصرة 82-83، كانت الحرب العراقية – الإيرانية في بدايتها، تم سوقنا للخدمة العسكرية كخريجين الى كلية الضباط الإحتياط، وفشلت في الفحص الأمني لأننا من عوائل المجرمين!! في مفهوم نظام البعث "لإعدام أخي الكبير الشهيد صبري شامخ من قبل النظام الصدامي"، فرجعت من بغداد بمكتوب رسمي أحالني الى مدرسة ضباط الصف في قضاء المحاويل – محافظة بابل، وسط العراق .

...............

في معسكر المحاويل يتلقى المتدرب دروسا في الحياة العسكرية الخشنة على كافة المستويات، ومنها طبعا مهارات استخدام السلاح الذي ينسّب إليه، فكان نصيبي الخدمة في سلاح المدفعية، وبعد الإنتهاء من فترة التدريب القصيرة، لابد من اجتياز الإمتحان النهائي في الرمي بالعتاد الحي- الذخيرة الحيّة-، وبعدها نذهب الى مرحلة تدعى " معين جبهة " أي أن نكون جاهزين للذهاب الى جبهات القتال الفعلية .

وكان من حسن حظي أن أكون في إجازة دورية تعرضت خلالها الى حادث دهس من قبل دراجة نارية تسبّب في كسر يدي اليمني، وأحالوني لمستشفى البصرة العسكري وتم تجبيس يدي ومنحي اجازة 30 يوما، وكان هذا حلماً بعيد المنال حقا في تلك الأيام العصيبة على الجنود العراقيين في التمتع ببضعة أيام في الشهر وربما في الشهرين وهم يرابطون على الثغور والموت زائرهم اليومي، سيما وانها تصادفت مع أعياد الميلاد في تلك السنة .

..............

بعد انتهاء إجازتي المديدة، التحقت بمعسكر المحاويل وصادف ان دورتي قد تخرجت وهي في طابور الانتظار للالتحاق بجبهات القتال أو ما يسمى في المصطلح المصطلح "معين جبهة "، ووفقا للقانون العسكري، علي ّأن أنتظم في دورة أخرى لأكمل متطلبات التدريب الكاملة، وكان لي هذا، ولعل هذا التأخير ساهم في اعطائي جرعة حياة مضافة لأن أبناء دورتي تناهبهم الموت والعوق والكآبة وغيرها من أمراض الحياة العراقية المشحونة بالحرب والموت .

وتم إلحاقي بدورة أخرى – حقا كان النظام قويا، دقيقا، عاتيا – حتى صرنا نبتكر العذر لأحلامنا من الهذيان للإنخراط في الحشد المساق الى محرقة الحرب.

.................

 في أيام الدورة الجديدة تعرفت على اصدقاء جدد، نلوك احلامنا في قاعات المنام بعد ارهاق وبطش ساحات التدريب ونزق العرفاء قبل الضباط

ولأني نزق وحالم أكثر، فقد خرجت من بيت الطاعة العسكرية وتغيبت يوما عن الفروض، فكان عقابي الحبس لمدة خمسة أيام وقطع راتب بدنانير معدودات، فساقنا رئيس عرفاء الوحدة كشياه للذبح وادخلونا في سجن لم أره قط في حياتي،وجوه بسحنات صفر واحلام صفراء، ورغبة في إمتلاك القادم الجديد، وربما لأن زملائي في الكلية انهوا دورة الضباط الإحتياط في بغداد والتحقوا بمعسكر المحاويل للذهاب للموت أيضا، فلا فرق بين ضابط وجندي، ومن حسن حظي ايضا ان زملائي الضباط الجدد كانوا يحيونني من خلف جدار السجن وهم يذهبون الى مدينة الحلة عصرا بعد انتهاء دوامهم،، فأطلق علي صاحب السجن "صديق الضباط المجندين"، وهذا لقب اضاف لي حصانة ما، إذ صرت أخرج من السجن صباحا كجندي شغل لرمي القمامة خارج المعسكر هناك، يا للهول . لقد رأيت نساءً ورجالاً وأطفالأً وهم يتسابقون الاستحواذ على قمامة المعسكر، ونحن بلد البترول والثروات والحروب بإمتياز !!!

................

وعند عودتي من غزوة القمامة، وجدت جنديا جديدا يقاربني مكانيا، اسمر البشرة، باسم الثغر، متفكرا مع حزن شفيف على محياه.

 كان الحوار سبقنا الينا، ونحن نشعر بالغربة في جو السجون والسجناء .

أنا وديع شامخ ..... مددت يدي اليه .

 أهلا وديع؟؟

أنا سعد صلاح خالص؟

 صلاح خالص؟؟

نعم وامك سعاد محمد خضير

.. بشرفي أنا، واخرجَ هوية الأحوال المدنية ليثبت صحه اقواله .

نسيت السجن والسجان، وانتميت لسعد .

...................

"الثقافة الجديدة" وصلاح خالص وتاريخ عراقي حافل بالسجون والتضحيات، كله مر أمامنا ونحن نجلس في حانة بغدادية - سعد وأنا –، وبعد انتهاء الضيافة اخرج سعد هديته لي " وتريات النواب "

يا الله .. مظفر النواب في جبتي .

لكن المأزق اننا نلتحق بوحدتنا في معسكر المحاويل بعد سهرتنا في بغداد، كيف لي أن ادخل " وتريات النواب" الى المعسكر ؟؟

لقد استنجدت بالاصدقاء كي يساهموا في حمل الاوراق، دون جدوى، لم أكن بطلا تماما، كنت ثملاً حقا، فدخلت النواب حول ضلوعي بطريقة ماكرة، لأن ُ الوتريات كانت عبارة عن كتاب باورق منسوخة، لم يجازف احد من اصدقائي على حمل جزء منها .

ونجحت بطريقة عجائبية بتخطي كل السيطرات واخطرها سيطرة باب النظام وتفتيشها الدقيق .

.................

ومثل الحمل السري، حملت "وتريات النواب" لأبشر بها يوم كان الوطن محض سجن .

وخرجت بها للنور متخطيا ملاعب الموت وعزلة الكائنات.

 ومن غريب الأمور انها وصلت للصديق ناصر هاشم" الآن هو الدكتور ناصر هاشم عميد كلية الفنون الجميلة في البصرة " ومنها للصديق كاظم عاشور " وهو مدرس في محافظة كربلاء "..

 لقد وعدنا كاظم بأن الوتريات في جب عميق لا يصله الجن الازرق آنذاك ..وها هو النواب ووترياته وكل الممنوع السابق رائج في الاسواق بعد زوال الديكتاتورية ووحشيتها . شكرا للشاعر مظفر النواب وهو الصارخ في وحشة الأيام السوداء، وشكرا لسعد صلاح خالص على هذا التذكار .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم