صحيفة المثقف

مسار الواقع والفنطازيا في نصوص المجموعة القصصية: ما كان وراء السديم للقاص فاقد الحمداني

تنطلق اغلب نصوص المجموعة القصصية (ما كان وراء السديم) للقاص فاقد حسين الحمداني من ثيمة واقعية، وان اختلفت بنيتها السردية، وخاصة  في نصوصها القصيرة جدا، حيث نرى مثلا النص الاول (في ليلة مبتلة) وهو اطول نصوص المجموعة، تبنى ثيمته على متن حلمي فنطازي، يأخذ مسارين سرديين يسيطران على النص، هما مسار الواقع ومسار الحلم، حيث يبدو الاول ذا وجود اطاري لا يبني او يصرح بشيء، بينما المسار الثاني وهو حلم فنطازي يحمل مضامين واشارات تقود الى تفعيل دور الحلم، من كونه مجرد رؤيا الى رؤية يمكننا من خلالها اكتشاف دلالات النص، وان نقودها صوب دلالة ما.

مسار الحلم هو متن نصي داخل متن أخر هو الواقع، فهل يصبح الواقع هنا أطارا فقط؟ أم يدخل في علاقة ضمنية مع مسار الرؤيا/ الحلم، فالإشارات الحلمية الفنطازية؛ لا تصبح لها دلالة أو معنى بدون موازاتها ومقارنتها بدلالات مقاربة من متن الواقع، ففي هذا النص لا يحاول القاص ان يخلق واقعاً فنطازياً، بل إنه يصرح في نهايته ومن خلال المفارقة التي اصطنعها؛ ان هذا المتن هو متن حلمي وليس واقعاً، وما لجوؤنا الى الواقع في هذا المتن الا محاولة منا لاكتشاف دلالات النص، بعيداً عن تركها تطوف في الاستقلالية التي يوهمنا بها متنها الفنطازي/ الحلمي.

إن الهلالين الذين جمعا متن النص، وكما وضحناهما سابقا هما الواقع/ المتن الاول، المدخل (أشارت عقارب الساعة الى الثانية عشرة وثلاثين دقيقة بعد منتصف الليل، كنت مضطجعا على فراشي......) ص5، والمتداخل مع المتن الاخر/ الحلم، من خلال الايهام بالتواصل، وهنا هي نقطة جر الواقع الى متن الحلم (في تلك الليلة الماطرة خرجت من بيتي، بعدما اتت مكالمة هاتفية لي من مجهول يخبرني بها أن احد أقاربي تعرض لحادث دهس.) ص5، وان فصلت المفارقة في نهاية النص بينهما، والتي كشفت لنا لعبة التماهي تلك بين المتنين (حتى اني سقطت من على فراشي أرضا......!!!!! أتحسس رقبتي بكلتا كفي بهستيريا لئلا تكون قد اقتلعتها العجوز الشمطاء بأظافرها الطويلة الحادة.) ص12، فعلى الرغم من ان الكاتب قد ترك لنا ست نقاط تفصل بين المتنين، والتي هي اللحظة الساكنة الفاصلة بين التحول والانتقال من الواقع الى الحلم، الا اننا نجد صعوبة في ان نتمكن من فصل انفسنا عن المتن الاول، حتى ان تأثير تلك النقاط سيتلاشى، وسنغرق في الايهام الذي يصل بين المتنين وكأن الثاني هو استمرار للأول، الى ان نصل الى المفارقة التي ذكرناها، والتي اسقط بها الايهام واعاد ربطه بمتن الواقع.

يبدو ان العلاقة بين هذين المتنين-الواقعي والحلمي- وفي أكثر الاحيان، وكما ظهرت في بعض نصوص المجموعة كما في نص (انقطاع) ص42 مثلا او غيره، هي علاقة مفارقة، وليست مجانسة، لذلك فربما يحيلنا هذا اللاتجانس الى انه يعكس نوعاً من النقص او الحرمان، متناغما مع العتبة النصية التي وضعها الكاتب بصفة (تقديم) (عندما تكون الصباحات متشحة بالسواد. وعندما تكون انياب الوجل تنهش الصمت المريب، حينها لا تدرك ان ايامنا التي تشاكسها الأماني، هي ملقاة على شفاه اتون الحرمان فلا حراك فيه) ص3،  ولكن النص الاول يؤكد ان تلك العلاقة غير المتجانسة –اذا جاز لي التعبير- هي ان المتن الاخر يأخذ عدة اشكال، تجتمع كلها بكونها كاشفة عن مواطن هذا النقص، او الحرمان القادم من (وراء السديم) اشارة العنوان، وكأنها عملية توالدية مكررة عبر الزمن، اذ لاحظنا وعلى مجمل نصوص المجموعة غياب الزمن المحرض، واكتفاءه بدور الحاوي او المؤطر، إن كان من خلال الزمن الصريح كـ (الليل او الفجر او الساعة الثانية عشرة .. الخ)، او الزمن المضمر وراء الافعال مثلا.

بني نص (الغرباء) ايضا على الفنطازيا ولكنها ليست الفنطازيا الحلمية، كما في النص السابق،  بل هو محاولة لزعزعة ثوابت الواقع، اذ انه لم يكن منفصلا عنه، بل استند اليه، بتحويله الى صورة فنطازية عند ظهور هؤلاء الغرباء الممسوخين، (مجموعة من الاشخاص، اشكالهم مختلفة من حيث الملابس والشعر الذي يطغي على وجوههم والدماء المنتشرة على ملابسهم، وكأنهم عادوا من سلالات منقرضة) ص44، واذا تتبعنا الدلالات التي انشأها؛ من حرق الكتب الى إزالة المصابيح ثم اشعال الشمعة وانتظار ضوء الفجر، سنلاحظ انها دلالات تحاول ان تشعرن الواقع، اي تعطيه صبغة شعرية، من خلال تحريك دلالته وفتحها على فضاءات مجازية، اي اخذ المتن الفنطازي بإيقاد دلالات الواقع وتخليصها من مداراتها الثابتة والمباشرة، حيث لولا هذه الغرائبية – ان جاز لي القول- لما شعت تلك الدلالات، ولخبت لأنها لا تميل الى الواقع وتجريده.

كلامنا عن الواقع والفنطازيا ربما لا يشمل بعض النصوص التي اتخذت من آلية التشخيص (Personification) أي اضفاء صفات بشرية على الاشياء غير البشرية، او غير الحية، والتي توهمنا إننا بصدد التعامل مع انسان، لتأتي المفارقة في النهاية لتكشف لنا عكس ذلك، كما في نص (نكران)، الذي نكتشف في نهايته ان الراوي المتكلم هو قلم الرصاص (فسرعان ما تعيدينني الى هذه القمامة وسوف تصفينني بكل برود كما وصفني غيرك بـ (قلم رصاص منته)) ص68، أو في نص (ثمن السقوط) الذي نكتشف ايضا ان راويه هو عصفور صغير (حملني بعنف وراح مهرولا سعيدا نحو بيته مرددا: أماه.. أنظري ماذا وجدت...؟ لقد سقط هذا العصفور الصغير من عشه أعلى الشجرة...) ص82.

ربما ان النصوص التي حاولت ان تجنح بعيداً عن الواقع في المجموعة القصصية (ما كان وراء السديم)، استندت على هذا الواقع، او أصبح مرجعا لها، في كشف دلالاتها التي تمظهرت بمتن فنطازي خرق شروط هذا الواقع وتجريده، وهذا لا يعني ان جميع نصوص المجموعة هي فنطازية، وانما أخذت اشكالا عدة، كانت الفنطازيا أحدها، وقد غلب عليها البناء الواقعي والثيمة الاجتماعية.

 

أمجد نجم الزيدي

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم