صحيفة المثقف

عبد الجبار الرفاعي وإعادة الاعتبار للذات

حينما تقرأ  كتابات الرفاعي سوف تجد بوضوح أنّ المفردات التي تسود تفكير هذا الرجل، هي المفردات التي تُعلي من شأن الذات الإنسانية، وتحترم كرامتها واستقلالها وحريتها وخياراتها الشخصية وحقها في الاختلاف، والتي تؤكد على محوريتها في اكتشاف العالم واستبصاره وتنويره، وتدعو إلى اكتشافها والعمل على بنائها وتربيتها. 

الإنسانية بالإضافة إلى الإيمان والأخلاق هي – بحسبه – العناصر الثلاثة الأساسية التي تشكل ثوابت شخصيته الأبدية، وبها يتمثل ضميره الديني. 

يقول الرفاعي: (حياتي الروحية الأخلاقية هي أثمن رصيد أمتلكه، يمكنني التفريط بكل شيء إلا بالإيمان، الأخلاق، الإنسانية، إنّها ثوابت شخصيتي الأبدية. تفكيري بل كل شيء في حياتي يخضع للتحول والتغيير، ذلك أنّ عقلي لا يكفّ عن التساؤل والمراجعة والنقد والتقويض والغربلة، لكن ضميري الديني يتمثل في هذه العناصر الثلاثة المتضامنة: " الإيمان، الأخلاق، الإنسانية "، إنطفاء أيّ منها يعني انطفاءها بتمامها).[1] 

(لا نعني بـ " الذات " هنا، الذات المشتركة، أي: الذات القومية، أو الذات الحضارية، أو ذات الأمة، أو ذات الجماعة، وإنّما نريد بها، " الأنا الخاصة "، و "الذات الفردية"، و "الهوية الشخصية"، التي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري. من دونها يفتقد كلّ إنسان ذاته، ويصير نسخة مكررة متطابقة مع النموذج وسماته وخصائصه، وكأنّ الجميع يُسكبون في قوالب متماثلة، تُلغى فيها اختلافاتهم، وتمايزاتهم، وتُمحى البصمة الشخصية لكل منهم. هنا يتنازل الفرد عن ذاته، ولا يكون سوى بوق يتردد فيه صدى أصوات الآخرين، فيما يختفي صوته الخاص). [2] 

يؤكّد الرفاعي بشكل كبير على استقلال الذات وفردانيتها. فهو يرى أنّ:    (الذات البشرية بطبيعتها باطنية، داخلية، عميقة، تنطوي على أسرارها، وتتخصّب وتغتني بمنابع إلهامها، وديناميتها الجوانية، وتتحقق على الدوام حين تشرع بوجودها وتجاربها وحياتها الخاصة. ولا يُمكن لنا اختراق هذه الحياة واكتشاف مدياتها، إلا بحدود ما تبوح هي به. يولد الإنسان بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألم بمفرده، ويمرض بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويُلحد بمفرده، ويجتاحه بمفرده أيضا: القلق، واليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والسوداوية، والعدمية، والعبثية، والجنون ...  يُدرك الإنسان الواعي بذاته أنّه مختلف عن غيره من الأشخاص، ذلك انّه حين يتعرف على ذاته يكتشف أنّ لها: يأسها، وقلقها، وخوفها، وحزنها، وغرائزها، ومشاعرها، وعواطفها، وحاجاتها، وأحلامها، وتطلعاتها، وهمومها وآلامها، وغضبها، وفرحها، وترحها، ومرحها، ومرضها، ، وسقمها، وصحتها، وحياتها، وموتها). [3] 

والذات المستقلة بذاتها –  فيما يرى  – عليهـا أن تحقّق ذاتها، حتى لا تُسلب منها استحقاقات استقلالها؛ فيعود استقلالها خاويا لا معنـى له. وفـي رأيــه أنّ   (الـذات تتحقّـق علـى الدوام حيــن تشرع بوجــودهــا وتجاربهــا وحياتهـــا 

الخاصة ... لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلا عندما تتحقق وتوجد الذات الشخصية. 

وهذه الذات لا تتحقق من دون الفعل، فالوجود الإنساني لا يصل إلى الامتلاء إلا بالفعل وحده) [4] 

والفعل – بحسبه – لا يكون فعلا للذات، ولا تتحقق به الذات إن لم يكن فعلا يصدر عن وعي وحرية. لا فعل بلا وعي وبلا حرية، الفعل بلا وعي وبلا حرية ليس فعل الذات، بل هو فعل تُستلب به الذات: 

لا فعل بلا وعي: (فعندما يغيب الوعي، تضمحل تبعا له الهوية الشخصية، وتتلاشى الذات في الجماعة. في هذه الحالة تختفي الشخصية الحقيقية الأصيلة، ويسود نموذج الشخصية النيابية المستعارة، ويفضي ذلك إلى سيادة روح القطيع، وشيوع منطق الجموع وأحكامها الجاهزة  ... وتضمحل القدرة على الخلق والإبداع، والتي هي فردية دائما، أما النسخ المتماثلة من البشر، فإنّها عاجزة عن اختراق السائد، وابتكار أي شيء خارج ما هو مألوف، ولا قدرة لدى النسخ المتماثلة تمكنّها من أن تتخطى ما هو شائع، فكل ما تنجزه إنّما هو محاكاة لما هو مكرّر دائما). [5] 

(تعطيل العقل مهربٌ للخلاص من مرارات الواقع، تنويم العقل ملاذٌ لتخديرنا من الحياة المنهكة. لكنّه أيضا ضربٌ من الحياة النيابية، التي تغيب فيها الأنا الشخصية، ويكف فيها الكائن البشريُ عن أن يكون هو). [6] 

ولا فعل بلا حرية: (الكائن البشري في توق أبدي ّ للحرية، فهو لا يكون إلا بالحرية. والحرية ليست أمرا ناجزا قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرية

يعني ممارستها. الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرية، وحيث لا حرية تنطفئ الذات... الحرية لا تمنح، بل تمتلك، وامتلاكها يتطلب: شجاعة الإرادة، وجسارة العقل، ومغامرة تحطيم الأغلال. الإنسان الحيّ اليقظ يكدح ما دام حيا للتحرر من سجون: جسده، هويته، تاريخه، ثقافته، لغته، رؤيته للعالم، أوثانه. 

الحرية لا تتحقق بعيدا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. لحظة تنتفي الحرية تنتفي الذات، إذ لا تغتني الذات ولا تتسع وتتكامل إلا بالحرية ... الحرية أشق من العبودية؛ ذلك أنّها: إرادة، وحضور، واستقلال، وشجاعة، ومسؤولية، وخيار إيماني، وموقف حيال الوجود. أن تكون حرا فهو يعني أنّك تواجه العالم كله، وتتحمل كل شيء وحدك. العبودية: هشاشة، وغياب، واستقالة، وخضوع، وانقياد، وتفرج، وتبعية، ولا موقف، ولا أبالية، ولا مسؤولية. أن تكون عبدا يعني أنّك لست مسؤولاعن أيّ شيء، حتى عن نفسك . 

أخطر أنماط العبودية عبودية العقل، إنّها هي التي تفضي إلى عبودية الروح والعواطف والمشاعر والضمير. الجبان عقله مشلول، لا طاقة لديه للتفكير، ذلك أنّ التفكير شجاعة، أحيانا تكون ضريبته موجعة. في بلادنا من يفكر بحرية لا بد أن يكون مستعدا للتضحية بمقامه وماله وانتمائه لجماعته، بل ربما حياته

 من أشق الأشياء تحرير العبيد من: الشعور بالحاجة للعبودية، وشغفهم بتبجيل أغلالها، وخوفهم من الحرية، وعجزهم عن قبول الحياة بمسؤولية شخصية). [7]

 وإذا كان الرفاعي يعتقد أنّ الذات لا يمكنها أن تحقق ذاتها إلا من خلال الفعل الواعي الحر، فإنّ الوعي والحرية في منظوره هما شرطان لازمان وليسا بكافيين لتحقيق الذات؛ إذ أنه يرى أنّ الذات لكي تحقق ذاتها فبالإضافة إلى الوعي والحرية لا بدّ للذات من الاستقواء بحب الله والثقة به؛ ذلك أنّ:

(الثقة بالله وحب الله هما جسر العبور من الأرض إلى السماء، بهما يستطيع الإنسان مقاومة أوجاع الحياة. ويقوى على تحقيق ذاته، وأن يكون هو.

 الثقة بالله تبدّد اليأس، تشفي المرء من السوداوية، تضيء ما هو مظلم في عالمه الجواني، تبعث لديه التفاؤل، وتمنحه القدرة على عبور ما تمتلئ به دروب الحياة من أشواك. ليس هناك من وجع إلا ويمنح الله المرء القدرة على احتوائه). [8]

 هذا الفهم للذات الإنسانية ولشروط تحققها، يستدعي منا التنبه إلى مسألة مهمة في تفكير الرفاعي، فحينما نتأمل في المفردات الإنسانية التي تسود تفكيره، يتبين لنا أنّ لهذه المفردات معاني خاصة عنده لا تتطابق مع المعاني الشائعة لها، ذلك أنّ الإنسانية عنده – وكما نقلنا ذلك عنه في بداية هذه المقالة – لا تنفصل عن الأخلاق والدين. فـبحسبه: هذه العناصر الثلاثة المتضامنة:      " الإيمان، الأخلاق، الإنسانية "، إنطفاء أيّ منها يعني انطفاءها بتمامها. ومن الواضح أنّ هذا المعنى لللإنسانية لا يتطابق مع المعنى الذي يتحدث عنه بعض المفكرين في الغرب والشرق لهذا المفهوم.

 يقول الرفاعي في تأكيد معناه الخاص لمفهوم الإنسانية: (في حياتي لا إيمان بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا إنسانية. لا أزعم أن لا إنسانية وأخلاق خارج إطار الإيمان لدى البشر، فقد عشت مع أخلاقيين وإنسانيين مثاليين، خارج إطار الأديان، لكن في شخصيتي: الإيمان، الأخلاق، والإنسانية كل مترابط، الأخلاق والإنسانية في حياتي هما: الإيمان، والإيمان كذلك هو الأخلاق والإنسانية). [9]

 من الواضح أنّ الرفاعي لا يريد لمعناه الخاص والشخصي لللإنسانية، أن يبقى خاصا وشخصيا، بل أنّه يحاول تعميمه والترويج له على أنّه المعنى الأكثر ملائمة لمفهوم الإنسانية، في أيّ مناسبة يتحدث فيها عن الإنسانية. كما في حديثه – مثلا - عن أنسنة الدين: (أنسنة الدين عندي بمعنى "إنسانية إيمانية، وإيمانية إنسانية"، وهي لا تتطابق و "الإنسانية غير الإيمانية" التي يتحدث عنها بعض المفكرين في الغرب والشرق، وتتمحور على مركزية الإنسان، وتفضي إلى نسيان الله وتأليه الإنسان.

 مفهوم التدين في " الإنسانية الإيمانية " غير التدين المستلبة فيه إنسانية الإنسان. ما أعنيه بالإيمان في " الإنسنية الإيمانية " هو الإيمان الحر، الذي يقترن فيه الإيمان والتدين دائما بالحرية وليس بالاسترقاق والعبودية. في          " الإنسانية الإيمانية " يكون إيماني حيث تكون حريتي، أي أنّ الصلة بالله هنا صلة عضوية لا تتأسس على الرضوخ والانسحاق وإهدار الكرامة البشرية، بل يتأسس على الحريات والحقوق البشرية.

 الإنسانية الإيمانية تعني أيضا أن " الله واحد والإنسان واحد "، من هنا يكتسب الإنسان حقوقه الطبيعية من كونه إنسانا لا غير. وعلى هذا الأساس يبتني مفهوم المواطنة التي ينبثق عنها استحقاق كل مواطن لحقوقه المدنية والسياسية). [10]

يؤكد النص السابق على الإيمان الحر، الذي يقترن فيه الإيمان والتدين دائما بالحرية وليس بالاسترقاق والعبودية. الإيمان الذي تكون فيه الصلة بالله  صلة عضوية لا تتأسس على الرضوخ والانسحاق وإهدار الكرامة البشرية، بل يتأسس على الحريات والحقوق البشرية. 

تأكيد الرفاعي على الإيمان الحر مبني في الأساس على فهمه أنّ الحياة الإنسانية الحقيقية – كما ذكرنا ذلك فيما تقدم – لا تبدأ إلا عندما تتحقق وتوجد الذات الشخصية، وهذه الذات لا تتحقق من دون الفعل، والفعل لا يكون فعلا للذات، ولا تتحقق به الذات إن لم يكن فعلا يصدر عن وعي وحرية. في ضوء هذا الفهم  يرى أنّ الإيمان بما هو فعل للذات، تُحقّق به الذات ذاتها، لا يكون إيمانها إن لم يكن نابعا من وعيها وإرادتها. 

يهتم الرفاعي بهذا المعنى لللإيمان، ويحاول أنْ يوضحه في نصوص متعددة، حيث يقول: (إنّ العلاقة بالله لا تأخذ نصابها في تشييد حياة روحية أخلاقية أصيلة إلا إذا كانت حرة، أي أنّها ينبغي أن تكون علاقة مبنية على حب وحرية واختيار، لا إكراه وامتهان واسترقاق). [11]

 (الإيمان خيار شخصيٌّ، وهو خيار فرديٌّ ... يفر الإيمان مع التلقين، ويهرب بالقسر والإكراه، ولا يكرسه الكلام الكثير عن الدين، أو التبشير به، وتحشيد كتائب عددية من البشر من أجل تلقينهم الإيمان. كل ذلك سيفضي إلى نتائج منافية لروح الإيمان والضمير الديني العميق ... الإيمان حالة فردية لا جماعية، تتحقق بالذات عبر الشروع في رحلة كدح ذاتي للعروج نحو الحق ...  تنطفئ جذوة الإيمان بالإكراه على الإيمان). [12]

 (أيُّ معتقدِ ما لم ينبثق الإيمان به من قناعة وجدانية، وإرادة قلبية، لا يُمكن أن يلامس شغاف الفؤاد). [13]

 (الإيمان مما يُتذوق لا مما يُعلّم ويُتصور ويُدرك ذهنيا)[14] وهو (خلافا للفهم والمعرفة لا يتحقق بالنيابة؛ ففي عملية الفهم يمكن أن يتلقى الإنسان معارفه من شخص آخر، أو يقلد غيره في آرائه، لكن الإيمان تجربة ذاتية تنبعث في داخل الإنسان، إنّه صيرورة تتحقق بها الروح وتتكامل، ونمط وجود يرتوي به الظمأ الأنطولوجي للكائن البشري، إنّه مما تضيق به العبارة، ولا تشير إليه إلا الإشارة. أعمق المعاني هي تلك التي نتذوقها، لكن تضيق كلماتنا عن استيعابها، ويتعذر على قوالب ألفاظنا البوح بها. الإيمان من جنس الحالات، و " قوالب ألفاظ الكلمات لا تتسع لمعاني الحالات"، كما يقول الشيخ محيي الدين بن عربي). [15]

 ينبّه الرفاعي هنا إلى الأمرين الآتيين:

 الأمر الأول: أن لا يُفهم من سياق حديثه عن الإيمان الحر أنّه يدعو لتصوف مقنع، ويبين أنّه (ليس مع تصوف الخلاص الفردي، الذي يُخرج الفرد من العالم. فإنّ العزلة والانفصال عن المجتمع منجم الأوهام. الآخر مرآة الذات، بل الذات عينها لا تتجلى صورتها إلا في الآخر). [16]

 الأمر الثاني: حينما يُقال أنّ الايمان خيار شخصي، إنّما يراد بذلك أن لا يُفرض الايمان على الانسان فرضا (لا إكراه في الدين)، ولا يراد به فك الارتباط بين الايمان وبين العبادات والشعائر والسنن المرسومة؛ ليكون إيمانا بلا حدود (الدين عبادة مشتقة من اعتقاد). ليس الخيار للمرء، هنا، خيار خلق وإنشاء وابداع أو عدمه، وإنّما هو خيار تفعيل أو عدم تفعيل، خيار تفعيل لمكون أنطولوجي متأصل في كينونته، يرثه المرء من أمه وأبيه، مثلما يرث لون بشرته وصفاته الجسدية.

 يقول الرفاعي: (الدين مكون أنطولوجي للكائن البشري. يرثه المرء من أمه وأبيه، مثلما يرث لون بشرته، وصفاته الجسدية. حتى التحول من دين إلى آخر، يجعل الشخص يقبل الدين الجديد في سياق دينه الأصلي، وكأنّ المسيحي الذي يصبح مسلما، يعلّب الإسلام بأوعية مسيحية، وهكذا الهندوسي، والعكس صحيح.

 لكل دين عباداته وطقوسه وشعائره المشتقة منه، المتسقة مع الحياة الروحية الأخلاقية التي ينشدها. لا يتكرس الاعتقاد، وينتج الإيمان، من دون العبادة والطقس الخاص بهذا الدين. ليس هناك اعتقاد، وإيمان منبثق عنه، من دون تقليد محدد للعبادة. لا إيمان بلا حدود وعبادات وشعائر وسنن مرسومة. لا إيمان إسلاميا بلا صلاة إسلامية. لا إيمان مسيحيا بلا قدّاس، وهكذا لا إيمان يختص بكل دين بلا طقوسه المشابهة له.

 القول: " إنّ لكل شخص طقسه الخاص "، واحدة من الخدع، ذلك أنّ تاريخ الأديان ينبؤنا بأنّ ميزة الطقوس الثابتة إنّما هي في اشتراكها بين أتباع الدين الواحد، ولم يصادف أن نجد دينا أتاح لمعتنقيه أن يختاروا طقوسهم كيفما يشاؤون.

 كما أنّ لكل شخص تجربته الروحية الخاصة، التي تغذيها الطقوس المشتركة في الديانة التي ينتمي إليها، فصلاة الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي، هي صلاة الإسلام ذاتها، غير أنّهم تميزوا وتفوقوا بأنماط تجاربهم الدينية الخصبة الملهمة الفوارة ... وهو ما يشي به ما اشتهر بين العرفاء والمتصوفة، في تنصيصهم على: انّ الشريعة توصلنا إلى الطريقة، والطريقة توصلنا إلى الحقيقة. أي لا طريقة بلا شريعة، لا حقيقة بلا طريقة. الشريعة غطاء الطريقة، الطريقة غطاء الحقيقة. ولعل ذلك يفصح عنه ما هو منسوب للنبي الكريم (ص): " الشريعة أقوالي، والطريقة أفعالي، والحقيقة أحوالي ".

 العبادات والطقوس هي: نحو تقليد عبادي، في إطار قيود وشروط وحدود، لو تمت شخصنتها، بمعنى جعلها فردية تختلف باختلاف الأشخاص، ستكون نسبية سائبة، بل فوضوية، مما يُفضي إلى ذوبانها، وتلاشي مضمونها، إذ تنتفي ماهيتها بانتفاء حدودها وشروطها). [17]

 يُمكن للقارئ الكريم، إذا ما تأمل في النصوص السابقة أن يلاحظ أنّ الفردانية التي يدعو إليها الرفاعي مع أنّها تتفق مع الفردانية الغربية في أصل احترام الفرد واستقلاله إلا أنّها سرعان ما تفترق معها، فالفردانية الغربية تنتهي إلى الأنانية والعزلة الروحية، حيث الرابط الوحيد الذي يربط الفرد بالآخرين هو المصالح والمنافع المادية، بينما الفردانية الرفاعية فردانية إيمانية، يرتبط الفرد، بحسبها، مع الأفراد الآخرين ليس من خلال المصالح والمنافع المادية فقط، بل كذلك من خلال مجموعة من المعتقدات والمبادئ الأخلاقية والطقوس المشتركة في الديانة التي ينتمي إليها.

 وبالعودة إلى أصل البحث:

 مع هذه الرؤية للإيمان (الإيمان خيار شخصيٌّ، وهو خيار فرديٌّ)، يتفهم الرفاعي حق الذات في الاختلاف، ويرى أنّ هذا (الحق ضرورة تفرضها طبيعة الكائن البشري)، [18] ويرفض منطق الفكر الوثوقي الذي (ينشأ من شعور المرء بوجود وجه واحد للحقيقة، وطريق خاص به دون سواه لاكتشافها، وهو ما يسوقه للاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، واستباحة كل فعل عدواني ينتهك الإيمان والقيم والأخلاق ... ينبغي أن نحمل مصباحا يضيء للناس ما نراه صراطا مستقيما، لا أن نتحول إلى قضاة، فننصب محاكم لتفتيش ضمائرهم، والتحري عن معتقداتهم  ... لقد علمتنا الحياة أنّ شيئا مما كان بدعة أمس أضحى سنة اليوم. وهكذا علمتنا الحياة أنّ شيئا مما كان هرطقة أمس أضحى دينا اليوم، وأنّ شيئا مما كان كفرا أمس أضحى إيمانا اليوم. طالما تحمستُ لأفكار ومقولات ومواقف ثم اكتشفت خطأها في محطة لاحقة من حياتي. الموقف الأخلاقي يفرض علينا مراجعة أفكارنا ومقولاتنا ومواقفنا الماضية وغربلتها باستمرار). [19]

 إنّ تأكيد الرفاعي على قيمة الذات واحترام استقلالها وشروط تحققها، مرتبط باعتقاده أنّ كلّ ما يتعلق بالذات في علاقتها بالله وبالعالم وبالمجتمع يتوقف على الانطلاق من الذات نفسها. ففي مفهومه البداية تكون دائما من الذات:

 (اكتشاف العالم يبدأ باكتشاف الذات. وعي العالم يبدأ بوعي الذات. استبصار العالم يبدأ باستبصار الذات. الإحساس بظلام العالم يبدأ بالإحساس بظلام الذات. نقد العالم يبدأ بنقد الذات. الشجاعة في معرفة أسرار العالم تبدأ بالشجاعة في معرفة أسرار الذات. تنوير العالم يبدأ بتنوير الذات. قبول العالم يبدأ بقبول الذات. التسامح مع العالم يبدأ بالتسامح مع الذات. احترام العالم يبدأ باحترام الذات. السلام مع العالم يبدأ بالسلام مع الذات.

من يفشل في إخماد حرائق ذاته يتعذر عليه إخماد حرائق العالم. تخليص العالم من أغلاله يبدأ بتخليص الذات من أغلالها . تحرير العالم من عبودياته يبدأ بتحرير الذات من عبودياتها. تغيير العالم يبدأ بتغيير الذات. تقدير العالم يبدأ بتقدير الذات. فهم تدبير العالم يبدأ بفهم تدبير الذات. الشعور بآلام العالم يبدأ بالشعور بآلام الذات. التضامن مع العالم يبدأ بالتضامن مع الذات.

 حب الله والإنسان والعالم يبدأ بحب الذات. نسيان الله في الذات نسيان لله في العالم. غياب الله في الذات غياب لله في العالم. حضور الله في الذات حضور لله في العالم. من لا يلتقي الله في ذاته لا يلتقيه الله في العالم، من لا يرى الله في ذاته لا يراه الله في العالم. معرفة الله في الذات معرفة الله في العالم. " من عرف نفسه فقد عرف ربه ". كما هو مرويّ عن النبي (ص). وذلك ما يصوره قول النفري: " من سألك عني فسله عن نفسه، فإن عرفها فعرفني إليه، وإن لم يعرفها، فقد غلقت بابي دونه) [20]

 (الدين لا تتحقق مهمته في المجتمع، إلا من خلال إعادة بناء الذات، بالمعنى الأنطولوجي. بمعنى أنّ إفقار الذات إفقار للمجتمع، إعادة بناء المجتمع تبدأ بإعادة بناء الذات).[21]

 (لا شك في أنّ الشخص البشري هو المادة الأساسية للتنمية الشاملة بكل أشكالها، به تتحقق وتنجز، إن كان إيجابيا سويا، وبه تخفق وتنحط، إن كان سلبيا ليس سويا ... أي حين يرتوي ظمأ الذات المقدس تخمد نزعات الشر والعدوان في شخصية الكائن البشري، وتصبح شخصيته أكثر قدرة على المساهمة الفاعلة في البناء الاجتماعي، والعمل الإيجابي المؤثر في إنجاز التنمية بمختلف حقولها) [22]... (حين يرتوي الظمأ الأنطولوجي لهذا الكائن      [ البشري ]، يكف الدين عن أن يكون أداة للصراع على الثروة والقوة والسلطة. وتتكرس وقتئذ الحياة الروحية الأخلاقية له، فيُضبط إيقاع سلوكه الحياتي في إطار الجماعة، في سياق حقوقها وحرياتها وقوانينها ومنظواتها القيمية من دون أن يتمدد الدين، فيهدر الدنيا عبر الاستيلاء على ما هو دنيوي خارج عوالم الروح والذات) [23]... (من كان بلا حياة روحية أخلاقية يُفسد قبل أن يُصلح. ومن كانت روحه ممتلئة أنطولوجيا، فإنّ حياته الروحية الأخلاقية مشبعة بالمعنى؛ لذلك يستطيع أن يمنح العالم أفقا معنويا مضيئا، وتغتني حياة من حوله أنطولوجيا، بالهدوء والأمن والسكينة والسلام. الفقير أنطولوجيا يفشل في منح من يتعاطى معه زادا لروحه وقلبه، بل يُفقره وينهكه، فيقعده ملوما مدحورا، ويحيله إلى رماد تذروه الرياح). [24]

 (الانسان أثمن رأسمال، مأزق أوطاننا هو فشل الاستثمار في الإنسان، والذي هو أثرى أنماط الاستثمار، ذلك أنّ رأس المال البشري لا يضاهيه أي رأسمال، ولا رأسمال يتفوق عليه أبدا، مالم يصبح هذا النمط من الاستثمار مقدمة ومادة لكل استثمار، لن تنجز أية تنمية ما تنشده من وعود في بناء الأوطان). [25]

 إنّ تأكيد الرفاعي على أنّ كل شيء يبدأ من الذات هو مبدأ شامل غير قابل للاستثناء، فهو يشمل حتى الذات نفسها: إنّ بناء الذات لا يمكن إلا من خلال الذات، لا يمكن بناء الذات من خارج الذات.

 يقول: ( أدركت ألا باب للنجاة إلا اكتشاف الذات والعمل علــى بنائها وتربيتها ما دامت الحياة). [26]

 (يتوهم الشخص البشري حين يعتقد أنّه يجد ذاته خارج ذاته، وهو لا يدري أنّه لن يجد ذاته إلا في ذاته. وما أجمل تصوير أبي يزيد البسطامي لنسيان الذات، وكيف غفل أبو يزيد عن نفسه أربعين عاما، كما يصرح هو بذلك، حين سأله شخص عمّن يكون هو، فأجاب: " ومن أبو يزيد ؟ ومن يعرف أبا يزيد ؟ أبو يزيد يطلب أبا يزيد منذ أربعين سنة فما يجده ... ربما يتوهم الإنسان أنّه سيجد ذاته في كل ما هو خارج ذاته، ولا يدري أنّه لن يجد ذاته إلا في ذاته، بل يفتقد المرء ذاته لو حاول أن يعرف نفسه بغيره، ذلك أنّ نهايته غدا نهايته، وموته غدا موته. لا تتجلى إرادتك وثقتك بنفسك وشجاعتك وحريتك، إلا في أن تكون أنت.

 الأب والأم والعائلة والجماعة، بل الكل يريدون منك أن تكون شخصا آخر، أن تكون نسخة مكررة عنهم. ستلبث على الدوام تصارع طبيعتك البشرية ؛ بغية التنازل عن ذاتك والاستجابة لهم. لكن ذاتك تظل تلح على فرديتك، ولا تكف عن التطلع للاستقلال، والخلاص مما تفرضه عليك العائلة والطائفة والجماعة من سجون.

 هناك صوت دفين في عالم الذات الجواني، هو حوار الذات مع ذاتها، إنّه مونولوج باطني. يستفيق لهذا الصوت بعض الناس، فنجده يكرر في باطنه: أنا لست أنا، صورتي مرآة هويتي، فائض هويتي يصادر ذاتي، مثلما يصادر حريتي. لا أسمع صوتي أبدا، صوتي صدى قبيلتي وطائفتي. يفرض عليّ انتمائي لهويتي ألا أكون أنا، كي تتطابق صورتي مع ما تنشده هوية جماعتي، لكني لو خلوت ونفسي فسرعان ما تباغتني ذاتي، فتتمزق الأقنعة وكل ما طمس ذاتي، فأخفي شخصيتي، التي لا أكاد أراها إلا حيث تكون ذاتي في مواجهة ذاتي). [27]

 حتى الدين – من وجهة نظر الرفاعي – لا يمكن وعي جوهره ولا إدراك ولا استبصار بعده الأنطولوجي ومهمته في تلبية الحاجة للمقدس، إلا من خلال التأمل والتوغل في أعماق الذات. بمعنى أنّ وعي التجربة الروحية، يتحقق بتذوق سمو الروح وخبراتها، وانجذاباتها والتماعاتها وتبصراتها وإشراقاتها ومكاشفاتها، وهو ما تبوح به أمثلة لا حصر لها في الماضي والحاضر. [28]

 في ضوء ما تقدم أصبح واضحا أنّ (مشكلات الإنسان تعود للفشل في اكتشاف حقيقة الإنسان ... مشكلات الشخص البشري تعود للفشل في اكتشافه لذاته وسبر أغوار كينونته. كل من يفشل في ابتكار صورته، وتغريد لحنه الخاص، ورسم بصمته الفريدة، يخطف بصره كل ضوء، فتتشكّل شخصيته ظلا لغيره، ويقتبس على الدوام كل صوت يُسكر سمعه). [29]

 ثمة إدراك هنا  – بحسب ما أفهم - أنّ جزءا من فشل إدراك الإنسان لذاته ربما يعود إلى صعوبة إكتشاف الذات لذاتها، مما يجعل الأمر عسيرا إلا لمن  تتوفر لديه الإرادة والعزيمة الكافية لفعل ذلك، فـ ( الإنسان كائن عميق شديد الغموض، لو أنفقنا العمر كله باكتشاف الإنسان لم يضع عمرنا هدرا ... إنّ اكتشاف الكائن البشري في غاية الصعوبة). [30]

 وقبل الانتقال إلى جوهر موضوع هذه المقالة نشير إلى ما يبعث الأمل في نفس أيّ إنسان حينما يقرأ للرفاعي قوله: (في شخصية كل كائن بشري بؤرة مضيئة أو أكثر، في الجسد أو العقل أو العاطفة أو السلوك، حتى أسوأ البشر يُمكن أن تكون لديه على الأقل بؤرة مختبئة مضيئة). [31]

في ضوء ما تقدم كله، يكون من الطبيعي، بل من المنطقي، أن يتخذ الرفاعي من " التأكيد على قيمة الذات واحترام استقلالها وشروط تحققها وخياراتها وحقها في الاختلاف ... " معيارا أساسيا به يفحص الخطاب ويقيمه وبالتالي يقبله أو يرفضه. فالخطاب الذي ينسجم مضمونه مع المبادئ التي يتضمنها المعيار هو خطاب ينبغي قبوله والتفاعل معه والاستفادة منه، في حين أنّ الخطاب الذي يتعارض مضمونه مع المبادئ التي يتضمنها المعيار هو خطاب ينبغي رفضه ونقده وتفكيكه لإظهار عيوبه ومساوئه.

 يمكن أن نلاحظ ذلك بشكل واضح في ثنايا تفكيكه لخطاب الجماعات والأحزاب، وللخطاب الأيديولوجي بشكل عام وخطاب شريعتي بشكل خاص باعتباره نموذجا للخطاب الأيديولوجي، وكذلك في ثنايا تفكيكه لخطاب التصوف الطرقي السلوكي، وللتفسير السلفي للنص. وأيضا في نقده للمدونة الكلامية والفقهية.

 ففيما يخص خطاب الجماعات والأحزاب، كتب تحت عنوان " تنميط الكائن البشري " وفي مواضع أخرى متفرقة ما نصه:

 (إنّ أدبيات الجماعات والأحزاب تتجاهل فردية الكائن البشري ولا تتحدث   عن الأنا الشخصية عادة، وهو ما يبدو ماثلا في أدبيات الأحزاب اليسارية، والقومية، والجماعات الإسلامية، التي تتعاطى مع الفرد بوصفه عنصرا يذوب في مركب هو الجماعة، ليس له وجود حقيقي مستقل خارج إطارها، وتشدّد في مقولاتها وشعاراتها وتربيتها على أنّ مهمة كل شخص في الحياة هي: الامتثال لما يؤمر به، والتنكر لذاته، والذوبان في المركب، والكف عن أية محاولة لاستبطان الذات، واكتشاف فضاءات ومديات عالمها الجواني. أما قيمة الفرد، ومكانته، وحاجاته الذاتية: الروحية، والعاطفية، والوجدانية، والعقلية فلا أهمية لها، إلا في سياق تموضعها في إطار هذا المركب، الذي هو الجماعة ومتطلباتها.

 وعادة ما تجري في تقاليد التربية والتثقيف الخاص للجماعة عملية " تنميط " للأعضاء من: الناشئة والشباب والكهول، أناثا وذكورا. ويتمحور " التنميط " عادة على: صهر الذات في المجموع، ومحو ما يشي بخصوصيتها، وهويتها المتميزة، فكل شيء لا بد أن يتشابه، ويتكرّر، ويُلزم به الجميع، من: النصوص المقروءة، وأسماء الكتّاب والمؤلفين، والتدريب، والأنشطة والفعاليات الدورية، والبرنامج اليومي، والسلوك الشخصي، والعادات، والهوايات، والاهتمامات، والأزياء، والطعام والشراب، بل كل ما في حياة عضو الجماعة، وكل ما هو حوله، ينبغي أن يتظافر على التطابق بين هذا الإنسان ومجموع الأعضاء.

 يُمسي الأفراد مخلوقات لا لون لها، أو هيئة تشخصها، متماثلة في كل شيء، مبتذلة، من دون أن نعثر على سمات وخصائص فارقة، تحيل إلى طبيعتهم البشرية المختلفة، وهوياتهم الذاتية. حتى كأنّهم أشخاص بلا ملامح خاصة، وكأنّهم أشباح، وأشياء متعددة كمّا، لكنها متحدة كيفا، بوصفها تنتمي إلى النموذج نفسه، الذي تصوغه أيديولوجيا الحزب والجماعة، مما يفضي إلى: غفلة الكائن عن كينونته، بعد طمسها، بل تشيؤ الذات البشرية، وسبات العقل، والعودة في عملية التفكير وصياغة الآراء والقرارات والمواقف، سواءٌ كانت عادية أو هامة إلى ما تمليه تعاليم الجماعة وتحكيه مفاهيمها، ويؤدي ذلك إلى: هشاشة الإرادة، والعجز عن اتخاذ أيّ قرار أو موقف شخصي، بعيدا عن اختيارات الجماعة وتوصياتها.

 وربما ينتهي تجاهل الأعضاء لحياتهم الداخلية، وتكتمهم على عالمهم الباطني، إلى تورطهم في ارتداء أقنعة شتى، تُعلن عن سلوك خارجي لشخصية تجسّد ما تمليه تعاليم الجماعة، فيما تخفي هذه الشخصية داخلها قناعات ومعتقدات ورؤى، تنفي ما يتبدى من سلوك لها، وتفشي في المحطات الخاصة ومجالس السر شيئا مما أخفته وتكتمت عليه في سلوكها الظاهري. وكل من عايشوا هؤلاء الأعضاء، وتوغلوا في حياتهم الشخصية، يسمعون ويعثرون على ما يفصح عنه سلوكهم من ازدواجية ونفاق.

 واللافت للنظر أنّ هذه الجماعات تهتم بكل شيء خارج الذات، فيما تعد الانهمام بالذات أنانية وتفاهة، ومروقا عن الجماعة، وانحرافا عن الوظيفة العظمى في إنقاذ الجماهير وخلاصها.

 لحظة يصحو أحد الأفراد يدرك متأخرا أنّه بعد أن غرق في شؤون الجماعة وشجونها، قد غادر حياته الشخصية، وأضحى بمثابة من يتعرض في غفلة منه لاستبعاد طوعي. في هذه اللحظة تستبعده الجماعة وتخرجه من صفوفهاعادة؛ ذلك أنّ كل شخص عندما يستفيق وعيه تخسره الجماعة؛ إذ لم يعد مطابقا لغيره من الأعضاء في تفكيره وتعبيره عن احتياجاته الذاتية. بعد أن يستفيق الوعي يدرك الإنسان أنّه مختلف عن غيره من الأشخاص، ذلك انّه حين يتعرف على ذاته يكتشف أنّ لها: يأسها، وقلقها، وخوفها، وحزنها، وغرائزها، ومشاعرها، وعواطفها، وحاجاتها، وأحلامها، وتطلعاتها، وهمومها وآلامها، وغضبها، وفرحها، وترحها، ومرحها، ومرضها، ، وسقمها، وصحتها، وحياتها، وموتها.

 من هنا تحرص أدبيات الأحزاب والجماعات في بلادنا، خاصة الدينية منها، على مناهضة الثروة الفلسفية، ورفض مدونة التصوف والعرفان في الإسلام، وتتهمها بالهرطقة والخروج عن الدين، وتحذر أتباعها من الاطلاع عليها والنظر فيها، وهو موقف تتضامن وتلتقي فيه تلك الجماعات بأسرها، لا تشذ أية واحدة منها؛ ذلك أنّها تدرك ما تنطوي عليه الثروة الفلسفية من الحث على: بعث العقل، والنظر والتدبر والتفكير والتأمل. كما تُعلن هذه الجماعات موقفها المناهض لما تفيض به مدونة التصوف والعرفان، من التوغل في فضاء الذات، واستكناه أسرارها، وإيقاظ الروح، وإشعال القلب، وإثراء الوجدان، وتكريس التجربة الروحية الفردية، والحث على سبر أغوار الحياة الشخصية، واكتشاف طبقات النفس، واستبطان، عالمها الجواني، والحفر في سراديبها وانفعالاتها وتوتراتها وعنفها وبراكينها.

 يسود منابر ووسائل إعلام هذه الجماعات ضجيج، تغرق به الصحف والمطبوعات والفضائيات، وكل ما هو مرئي ومسموع، يستنزف وقت المجتمع، ويرهقه بخطابات لا تقول معنى جديدا، ولا تمنح الناس فرصة للتفكير والتعبير عن ذواتهم، وإنّما تغرقهم بفائض لفظي، وشعارات تعبوية، وضوضاء تقودهم إلى حالة تنويم اجتماعي شاملة، ويتحول إلى بشر مسطحين، شخصياتهم مجوفة، لا تستطيع أن تعثر على بصمتها الخاصة، وصوتها المتميز، وقتئذ يغيب هؤلاء عن ذواتهم، وواقعهم وعصرهم الذي يعيشون فيه ... وفي هذه المناخات لا يستفيق وعي الناس، ولا يستطيعون مواجهة ذواتهم، ويغرقون في سكرة وذهول، ينسون فيها أنفسهم، فضلا عن نسيانهم حاضرهم ومصيرهم. وينخرط الناس في أزمات ومعضلات ومتاعب المجتمع، ولا يكفّون عن الاستغراق فيها كل يوم، والتورط في كل ما هو خارج ذواتهم، فيما تغيب الذات، وربما تُمحى نهائيا، فلا تجد أثرا واضحا يشير إليها، ويتوهم الجميع أنّ سعادتهم لا تعني ذواتهم، ولا يتنبهون إلى التفكير في حياتهم الشخصية، وطرح أسئلة جريئة على أنفسهم، مثل: ما فائدة أن يتغير العالم إن لم أتغير أنا قبل ذلك ؟ ما فائدة أن يسود العالم السلام إن لم تكن حياتي أنا قبل ذلك سلاما ؟ ما فائدة أن يغدو العالم سعيدا إن لم أكن أنا قبل ذلك سعيدا ؟ ما فائدة أن يغدو العالم جميلا إن لم أكن أنا قبل ذلك جميلا ؟ " ما فائدة أن تربح العالم وتخسر نفسك"، حسب قول السيد المسيح). [32]

 (لا بد لي من الاعتراف، أنّي في العمل الحزبي افتقدت ذاتي، بل كنت أرى إلى بعض رفاقي كما أنا، كلنا تائهون، لم يعبأ أحد منا بذاته، وحياته الروحية الأخلاقية، وكأنّنا في سكرة يتعذر علينا الاستفاقة منها.

 التربية في الأحزاب والجماعات تتمحور عادة على تنميط الذات ، وتحويل كل الأعضاء إلى نسخ متماثلة، رؤيتهم للعالم واحدة، آراؤهم واحدة، مفاهيمهم واحدة، مواقفهم واحدة، أحلامهم واحدة، مشاعرهم واحدة، حساسياتهم واحدة، مزاجهم واحد. بنحو تضيع معه لديهم كافة الملامح والهوية الشخصية للذات.

 لم أعثر على ذاتي وأرى ضوءا يكشف لي الأشواك في دروب حياتي، وأعيش سلاما تبتهج به روحي، إلا بعد مغادرة السياسة، والابتعاد عن العمل في هذه الجماعات، والخلاص من مسالكها الوعرة المتعرجة الموحشة). [33]

 وفيما يخص الخطاب الأيديولوجي بشكل عام وخطاب شريعتي بشكل خاص باعتباره نموذجا للخطاب الأيديوجي، يقول الرفاعي:

 (الأيديولوجيا جزمية، همها تنميط وتدجين ونمذجة الشخص البشري) [34]... (الشخص البشري ينسى في غمرة الأيديولوجيا ذاته، وتنطمس كينونته، وتغيب متطلبات روحه وقلبه وعقله، فيُمسي شبحا يتلاشى وسط الجموع، ويذوب في ضجيج القطيع. بعد أن تذبل أشواق روحه. وتنطفئ جذوة قلبه، ويتبلّد عقله، وفي نهاية المطاف تختفي ذاته). [35]

 (دين الأيديولوجيا يفشل في بناء حياة روحية أخلاقية أصيلة، ويطمس الأبعاد الإنسانية في الدين، ويُميت الروح والقلب والعقل والضمير؛ إذ لا إنسانية بلا ضمير، ولا ضمير بلا مصدر التزام ذاتي، ولا مصدر التزام ذاتي بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا روح، ولا روح بلا حياة روحية، ولا حياة روحية من دون وصال بالحق). [36]

 (شريعتي غالبا ما ينسى الذات، فيقفز للتفكير في المجتمع، يفتش مباشرة عن رسالة للدين في المجتمع، بل يريد أن يرى أثرا إيجابيا للدين هناك، يُرحّل الدين مباشرة إلى المجتمع، من دون أن يمر بصناعة الذات ... يروي لنا شريعتي مأساة عشرات الآلاف من العمال، الذين تهشمت ضلوعهم تحت حجارة الأهرامات، بينما لم ينبهنا إلى ضلوعنا المهشمة، وإلى ما يجتاحنا نحن البشر، من: القلق، اليأس، الاغتراب، الضجر، السأم، الألم، الحزن، الغثيان، فقدان المعنى، ذبول الروح، انطفاء القلب، الجنون. إنّه كمن يضع بأيدينا مصابيح شديدة الإنارة، ليكشف لنا بؤس العالم. لكن عالمنا الجواني الباطن يظل مجهولا مهملا. لم يتنبه شريعتي إلى أنّه لا ينبغي لنا أن نطارد ظلام العالم، فيما نحن نجهل ظلام أنفسنا، ونتضور لجوع العالم، ونحن لا نشعر بجوع أنفسنا، ونحترق لظمأ العالم، ونحن لا نتحسّس الظمأ الأنطولوجي للمقدس في ذواتنا). [37]

 أما فيما يخص التصوف الطرقي السلوكي، فالرفاعي يقول: (لا أعني بـ " الإنسانية في الدين " الدعوة لتصوف مقنع، ذلك أنّي لست مع تصوف الخلاص الفردي الذي يُخرج الفرد من العالم).[38]

 (أرفض تصوف الخلاص الفردي، تصوف مغادرة المجتمع، تصوف العزلة، تصوف الغياب عن الحياة والانطواء على الذات). [39] فـ (إنّ العزلة والانفصال عن المجتمع منجم الأوهام. الآخر مرآة الذات، بل الذات عينها لا تتجلى صورتها إلا في الآخر). [40]

 (أعني بـ " الإنسانية في الدين ": عدم التنكيل بالجسد، والتضحية بمتطلباته الضرورية وحاجاته الغريزية، حسب تصوف ورهبنة عنيفة، يفهم التربية الروحية فهما ساذجا، يفضي إلى تجاهل طبيعة جسد الإنسان وقمعه وتعذيبه، بمحاربة الغرائز والعمل على اجتثاثها، والغرق في رهبنة تعتزل الحياة، وتنبذها طبيعة الكائن البشري). [41]

 (التصوف الطرقي السلوكي " الاجتماعي "، الذي هو تصوف الدراويش والخانقاهات والتكايا والزوايا ... تتفشى فيه أمراض وعاهات تقاليد الاسترقاق ومسالك الاستعباد، مثل، التربية على نفسية العبيد، وذهنية القطيع، والرضوخ والطاعة العمياء لمشائخ  الطرق الصوفية، والهيام الذي يصل لمستوى العبادة للشيوخ والأقطاب والمشاهير منهم، وتقليدهم في كل شيء، إلى درجة السعي للذوبان بهم، والعزلة والخروج من العالم، والهروب من الحياة، والتنكيل بمتطلبات الجسد، والتضحية بالغرائز والحاجات الطبيعية للبشر .. وغيرها ... لحظة يتعامل المريدون مع شيخ الطريقة بوصفه صنما، تنطفئ الشعلة في أرواحهم، ويمسون رقيقا لا يمتلكون شيئا من ذاتهم، في حين يمتلك مشايخهم كل شيء في حياتهم.

 هنا تنقلب وظيفة التصوف، بوصفها امتلاكا للذات عبر وصالها بالحق تعالى، والاستغناء عن كل شيء سواه، إلى انسحاق مهين للكرامة أمام مشايخ الطرق الصوفية.

 معظم المتصوفة من الدراويش المولوية يسكر عقلهم فينام، حين يتماهون مع سيرة وسلوك وتجربة جلال الدين الرومي، ومتى ينام العقل تستيقظ الأصنام.

 المشكلة العميقة في تصوف الدراويش أنّه يبرع في نحت الأصنام البشرية. فقد تحول جلال الدين الرومي في وجدان الكثير من أتباعه إلى صنم، وهنا انقلبت وظيفة التربية في التصوف، فأضحت تنتج عبادا لأصنام بشرية. الله يدعونا إلى التوحيد، وأن لا نتخذ من دون الله إلها، ولن نعبد سواه أبدا). [42]

 (لا أقدس شيخا من المتصوفة، ولا أتماهى مع قطب من أقطابهم، ولا أحاكي سلوك أي أحد منهم أو أقلده أبدا، بل إنّ شخصيتي تنفر من أي شكل من أشكال الرهبنة وقمع الجسد وتعذيبه، ذلك أنّ إهدار الجسد والبطش به يفضي إلى إهدار الروح وتمزقها. مثلما تأبى شخصيتي أيضا الإنصياع والخضوع والعبودية الطوعية لأي شخص.

 لا أعيش حياتي نيابة عن الآخر، أو أكرر نماذج بشرية في حياتي، أو أقتبس صورة غيري، فلا تغويني صورة المتصوفة أو سواهم لأطمس صورتي فيها، أو أتماهى معهم). [43]

 وبخصوص التفسير السلفي للنص، يقول الرفاعي:

(السلفية اتجاه في التفكير الديني حاضر في كل تفسير حرفي للنصوص الدينية، يتفشى في كل الأديان والفرق والمذاهب، يرسم صورته الخاصة لله، وهي صورة يشدّد على تعميمها وفرضها على الكل بالإكراه. صورة تتصف ملامحها بالقسوة والشدة والعنف ومطاردة الإنسان ومحاربته، لا تحضر في ملامحها الرحمة والمحبة والشفقة والجمال والسلام).[44]

 (التدين السلفي يفقر الحياة الروحية، ويستنزف الحياة الأخلاقية، ويميت الحياة العقلية ... كلما اتسعت مساحة التدين السلفي ضاق فضاء الروح، واختنق القلب وتعطل العقل. مضافا إلى أنّ سيادة هذا النمط من التدين يقوّض دولة المواطنة الحديثة، وينفي مشروعية أصولها الدستورية، ويهشم برامجها التنموية، بوصف وظيفة دولة الخلافة في المنطق السلفي هي خدمة الله وليس خدمة الإنسان، ورعاية حقوق الله لا حقوق الإنسان، علما أنّ حقوق الله في مفهومهم تترتب على التضحية بحقوق الإنسان وحرياته. مفهوم الدولة الحديثة يتأسس على أنّ وظيفتها تتمحور على خدمة الإنسان وتأمين حقوقه وحرياته، وتوفير كافة متطلبات حياته المادية وغيرها.

 مع تفشي ثقافة التكفير في حياتنا، وتشبع الناشئة بها، وترسبها في طبقات اللاوعي العميقة في شخصية أبنائنا لا يمكننا أبدا صياغة ميثاق للمواطنة، يكون النصاب فيه هو الإنتماء للوطن، والمساواة في الحقوق والواجبات. لا ميثاق للمواطنة بلا اعتماد سياسة الاعتراف المتبادل بين مختلف المكونات والإثنيات والأديان والفرق والمذاهب في الوطن الواحد.

كيف ينسجم مفهوم المواطنة مع مقولات وفتاوى مترسبة في تكويننا منذ الطفولة، تنص على أنّ الشركاء في الوطن، ليسوا سوى مشركين ونجسين وأهل ذمة، أو كفارا، مثل الإيزيديين في العراق، ممن لا خيار لهم إلا الإسلام أو السبي أو القتل ؟ ... كيف تستنبت الحياة الروحية وتنمو وتزدهر في سياق الكراهية والتعصب ونفي الآخر ؟ وكيف تتشكل منظمومة القيم الأخلاقية في هذه المناخات الملعونة ؟) [45]... (وهل يستطيع قلب يمتلئ بكراهية الإنسان المختلف، وروح لا تشعر بالانتماء للعالم، وعقل مريض ينهكه التشاؤم والاغتراب، ان يؤسس لحياة روحية أخلاقية حقيقية أصيلة، تشفق على المعذبين، وتتضامن مع الضحايا، بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، وتتصالح مع العقل والفن والجمال في الحياة ؟ وهل نستطيع بناء دولة مواطنة حديثة من دون حياة روحية وأخلاقية أصيلة، لا تفتك بها السموم ؟). [46]

 (لعل السبيل الأمثل لبيان هشاسة هذا النوع من الفهم السلفي المغلق يكمن في السعي الحثيث للكشف عن النزعة الإنسانية العميقة في الدين، وإضاءة الحقول المنسية في النصوص المقدسة، والتنبيه إلى الجهل، أو التجاهل، والإصرار على تغييب مساحة واسعة من تلك النصوص، تغتني بالجوانب التنزيهية السامية، التي تصطفي الإنسان، وترفع مكانته، وتعتبره أكرم موجود خلقه الله في العالم، بل خلق كل شيء مسخرا من أجله، وجعل حياته أغلى رأسمال في الوجود، فهي مناط الخلافة، وموطن المسؤولية والأمانة الإلهية) [47]

 أما بالنسبة للمدونة الكلامية والفقهية، فإن الرفاعي يرى: (إنّنا جميعا نهرب من تسمية الأشياء بأسمائها، ونلجأ لحيل مفضوحة، تتكتم على ما تتضمنه المدونة الكلامية والفقهية، من أحكام: الكفار، المشركين، أهل الذمة، الرق، الجزية، الردة، وغيرها. وتكفير الفلاسفة وذوي التفكير الحر، وأتباع الفرق والمذاهب. فقد كفر ابن تيمية مثلا من المسلمين: الفلاسفة، والمتصوفة، والجهمية، والباطنية، والإسماعيلية، والنصيرية، والإمامية الإثني عشرية، والقدرية ... ولا تخلو من التكفير مدونة علم الكلام والاعتقادات لدى مختلف الفرق، كما أنّ المدونة الفقهية لكل المذاهب لا تخلو من مثل هذه الأحكام والفتاوى) [48]

 (علم الكلام، والفقه المنبثق من الرؤى اللاهوتية الموروثة، يتضمن مجموعة من المقولات والأحكام المشهورة التي تحدد نمط التعامل مع ذوي المعتقدات والآراء المختلفة، كما في " أحكام الارتداد، أحكام أهل الذمة، أحكام أتباع الأديان غير الإبراهيمية "، وغير ذلك، مما يجعل أتباع الديانات في مرتبة أدنى من المسلم في أوطاننا). [49]

 (إنّ قراءة النص الديني المرتهنة لمقولات المتكلمين وأصول الفقه والتفسير الموروثة، أفضى لدى بعض الجماعات المتطرفة اليوم، إلى إنتاج فهم للإسلام، مفرغ من الرحمة والمحبة، تتحول فيه صورة الله إلى وحش يفترس كل حياة وجمال ورحمة ومحبة في هذا العالم. ويتمحور تكليف المسلم فيه على إهانة الأغيار ... تستبعد هذه القراءة للنصوص الدينية ما يشي بالسلام والتراحم والمحبة، والأمل والحلم والتفاؤل، بعد أن تخلع على النصوص أقنعة تحجب مقاصدها الأخلاقية، ومضامينها الروحية، ومؤشراتها الإنسانية). [50]

 فـ: (الرؤية الكونية في لاهوت المتكلمين عمودية، والصلة بالله في رؤيتهم ليست سوى استرقاق وعبودية. يجد التصور الرأسي العمودي في لاهوت المتكلمين تعبيره الاجتماعي بتأسيس شبكة من مقولات التركيع، وبناء نسيج يكرس التسلط في المجتمع، تكون فيه العلاقات مبنية على الانسحاق والإذلال، حين يتخذ تصور العلاقة بين الله والإنسان نمطا عموديا، يكون فيه الإنسان خانعا مهانا ذليلا، فيما يبدو الإله متسلطا منتقما، لا يصدر عنه سوى البطش والإهانة والامتهان والتنكيل.

 تغيب في هذا النوع من العلاقة صورة الله الرحمن الرحيم، وتختفي فيه صورة من " كتب على نفسه الرحمة "، ووصف رحمته بقوله: " ورحمتي وسعت كل شيء "، والذي لخص مهمة النبي محمد " ص "، بقوله: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "، فهو رحمة مهداة لكل العالمين، وليس لفئة أو جماعة أو طبقة أو طائفة أو فرقة أو مذهب أو شعب مختار). [51]

 (إنّ المتكلم فيلسوف دين الأيديولوجيا، بمعنى أنّه يصوغ رؤية لله والإنسان والعالم، وفهما للدين، تُبنى وتُشاد عليه مرتكزات الأيديولوجيا. الجماعات الإسلامية كافة تنسج شباكها في سياق رؤية المتكلم لله والإنسان والعالم، وشيء من فتاوى الفقيه، ولا تقترب من ميراث سواهم، كالفيلسوف والعارف والمتصوف، لأن الفيلسوف والعارف والمتصوف فيلسوف دين الأنطولوجيا، وأنّ فهمه للدين يلامس العالم الجواني للكائن البشري، وينشغل بتفسير نمط وجوده، والكشف عن مسالك تواصل كينونته وأسفار روحه في عوالم خارج حدود العالم المحسوس المادي). [52]

 فيما تقدّم تبيّن لنا كيف أنّ الرفاعي قد اتخذ من " تأكيد قيمة الذات واحترام استقلالها وشروط تحققها " معيارا، استند إليه في تفكيك الخطاب المتشدد والكشف عن ثغراته، وفيما سيأتي سيتبين لنا كيف أنّه قد استند لنفس المعيار في الانفتاح على خطاب الفلاسفة والعرفاء والمتصوفة، حيث يقول:

 (إنّ المتكلم فيلسوف دين الأيديولوجيا ... بينما الفيلسوف والعارف والمتصوف فيلسوف دين الأنطولوجيا، وأنّ فهمه للدين يلامس العالم الجواني للكائن البشري، وينشغل بتفسير نمط وجوده، والكشف عن مسالك تواصل كينونته وأسفار روحه في عوالم خارج حدود العالم المحسوس المادي).[53]

 (تحث الثروة الفلسفية على: بعث العقل، والنظر والتدبر والتفكير     والتأمل).[54] و (يعمل العقل الفلسفي على حذف الأخطاء المتراكمة في تفسير الحقيقة، وتصويب فهم الوجود، وابتكار رؤية عقلية للعالم، وصياغة معنى للكينونة يكشف حقيقة الكائن البشري، ورتبته الوجودية. إنّها مسعى لإشباع شغف العقل بالمعنى، حيث يفتقد المعنى. التفكير الفلسفي ينفتح فيه الوعي على آفاق رحبة لوظيفة الدين، ووعوده في حياة الإنسان).[55]

 (تتوغل مدونة التصوف والعرفان في فضاء الذات، واستكناه أسرارها، وإيقاظ الروح، وإشعال القلب، وإثراء الوجدان، وتكريس التجربة الروحية الفردية، والحث على سبر أغوار الحياة الشخصية، واكتشاف طبقات النفس، واستبطان، عالمها الجواني، والحفر في سراديبها وانفعالاتها وتوتراتها وعنفها وبراكينها)[56] ... الرؤية للعالم في لاهوت العرفاء والمتصوفة أفقية، والصلة بالله من منظورهم ليست سوى وصال حبيبين ... بهذه الرؤية أعاد التصوف المعرفي الاعتبار للذات المستلبة، والعالم الجواني المطموس للشخص البشري، وعبّد دروب القلب في رحلته الأبدية نحو الحق، وانشغل بإرواء ظمأ الروح للمقدس).[57]

(ما يهمني في رؤى التصوف المعرفي " الفلسفي " والعرفان النظري هو التقاط بعض الدرر والللآلئ  في رؤياهم المضيئة الرحبة، مما يتصل بقيم: الإيمان والتدين، وعدم نسيان الذات، والجمال والفنون، واحترام الكائن البشري، والارتقاء بمكانته، والتسامي بمقامه، والتعددية الدينية، والخلاص والنجاة والرجاء، وغيرها من قيم ومقولات تدين المحبة والتراحم والسلام).[58]

 (يلهمنا ميراث العرفاء والمتصوفة مفاهيم ومقولات ورؤى، ترسخ النزعة الإنسانية في الدين، تشبع حياتنا بالمعنى، تخلع على دنيانا صورتها الأجمل، تهبنا أفقا بديلا للتواصل مع مختلف الأديان والفرق والمذاهب، فلا تضيق مجتمعاتنا وتنفجر بمكوناتها العقائدية والأثية).[59]و (يتأسس ما يمكن تسميته بـ   (لاهوت الشفقة، الرحمة، المحبة، العشق، الجمال، الفرح، الحياة، الابتسامة، الأمل، الاختلاف، التنوع، التعددية ... اللهوت الإنساني)، الذي يكمن فيه سبيلنا للخلاص من (لاهوت الكراهية، نفي الآخر، الموت، الحزن، البكاء والتشاؤم).[60]

  

.....................................

1 – الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير للطباعة والنشر، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد. ط2. 2017م. ص67.

2 – المصدر نفسه، ص23- 26.

3 – نفسه، ص23-24

4 – نفسه ، ص27-28

5 – نفسه ، ص24

 6 – نفسه ، ص23-24، ص133.

7 – نفسه ، ص78-79

8 – نفسه ، ص67.

9 – نفسه ، ص283-284.

 11 – نفسه ، ص84-85

12 – نفسه ، ص31-32، ص149

13 – الرفاعي، عبد الجبار. إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد. ط2. 2013م. ص264.

14 – الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص139.

15 – نفسه ، ص32.

16 – نفسه ، ص32.

17 – نفسه ، ص67-70.

18 – نفسه ، ص33.

19 – نفسه ،ص33-34.

20 – نفسه ، ص30-31.

21 – نفسه ، ص125.

22 – نفسه ، ص126-127.

23 – نفسه ، ص141.

24 – نفسه ، ص146.

25 – نفسه ، ص56

26 – نفسه ، ص6

27 – نفسه ، ص30-31.

28 – نفسه ، ص121.

29 – نفسه ، ص28-29.

30 – نفسه ، ص28-29.

31 – نفسه، ص29.

32 – نفسه ، ص25-28.

33 – نفسه ، ص62.

34 – نفسه ، ص106

35 – نفسه ، ص126.

36 – نفسه ، ص149-150.

38 – نفسه ، ص125

39 – نفسه ، ص85.

40 – نفسه ، ص183.

41 – نفسه ، ص32.

 42 – نفسه ، ص132-133.

43 – نفسه ، 183

44 – نفسه ، ص10.

45 – نفسه ، ص159-161.

46 – نفسه ، ص169، ولاحظ أيضا ص161.

47 – إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، مصدر سابق، ص281.

48 – الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص156

49 – نفسه ، ص209.

50 – نفسه ، ص168-169.

51 – نفسه ، ص136-137.

52 – نفسه ، ص145.

53 – نفسه ، ص145.

54 – نفسه ، ص136.

55 – نفسه ، ص109-110.

56 – نفسه ، ص26

57 – نفسه ، ص136

58 – نفسه ، ص183.

59 – نفسه ، ص135.

60 – انقاذ النزعة الإنسانية في الدين، مصدر سابق، ص74.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم