صحيفة المثقف

الفكر السياسي بين النظرية والتطبيق.. قراءة في كتاب: رهانات السلطة والحكم في العراق

يلقي كتاب (رهانات السلطة والحكم في العراق.. حوار في آيديولوجيا التوظيف السياسي) الصادر في دمشق عن دار الأمل الجديدة بالتعاون مع مؤسسة المثقف العربي في سيدني (1)، الضوء على الازدواجية التي عانينا منها خلال عقود، منذ نهايات أول حرب عالمية وحتى عام 2003 وهو المنعطف المؤثر والتاريخي الذي وضع نتائج سايكس بيكو تحت الاختبار والتعديلات.

يأخذ الكتاب شكل الفصول المفيدة، أو يطيب لي تسميته أيضا شكل السؤال المتفق عليه للوصول إلى أجوبة تفسر المناطق الرمادية والغامضة من تجربة العرب مع السياسة أو فن الحكم. هل كان العرب موفقين في إدارة شؤونهم أم انه غلبت عليهم أعراض الخلل المنهجي والذي يضع التطبيقات وراء الأفكار؟؟.

بتعبير آخر يقدم الكتاب نفسه بخط عريض وواضح على أنه قراءة تجريبية، تستند للملاحظة والخبرة. فالمشاركان في عملية التأليف وهما الأستاذ طارق الكناني والمفكر المعروف ماجد الغرباوي اتفقا على أن السياسة هي عمل من عدة مستويات، إنها إنتاج لأفكار لها صفة الإطلاق وإنتاج لمجموعة من الممارسات التي لا تتبلور إلا من خلال الوعي بمعنى تاريخية الظواهر. جتى لو أن الأفكار أسره بالمقارنة مع الممارسة ص8.

فالجمود لا يليق بالإنسان الذي شهد عدة أطوار وتحولات نقلته من واقع الاستسلام لظروف الطبيعة إلى واقع التحكم بالطبيعة القهرية ذاتها.

وقد تلازم مع هذه الرؤية الديناميكية روح النقد والتقويم، وعلى ما أرى إن هذه الروح هي ضرورة وواجب، بل هي فرض عين على كل مفكر، حتى لا نقع في المحظور ونتحول إلى جوقة من المداحين العميان، لا نرى ما حولنا ونخاف من رؤية أنفسنا.

لقد اختار الكناني أسئلة موجعة (بتعبيره مباشرة وحادة وتتطلب موقفا صريحا لا لبس فيه ص 7) وطرحها على الغرباوي الذي وضع في إجاباته الواقع العربي على المحك.

وأن نتكلم عن الواقع العربي يعني أن نقارب نقاط التحسس بين التصورات، ولا سيما في المرجعيات سواء هي مادية أو أنها تستمد شرعيتها من الإسلام. وحتى أن الدين يعاني من مواجهات مرعبة ودامية بين أهل الشورى وأتباع الإمامة كما ورد على لسان الغرباوي في آخر الكتاب.

مع أن الرسول لم ينص على أحد باتفاق الشيعة (كما وردت في كتب الشيخ المفيد) والسنة (التي يمثلها الطبري). ص181.

لقد تركت وفاة النبي فراغا بين النخبة السياسية الذين نعرفهم باسم الصحابة. وبتعبير الغرباوي إن ما جرى في مؤتمر السقيفة كان مخزيا، فهو مجرد تقاسم لسلطات النبي الروحية وتنازع عليها.و برأيي الغرباوي محق حين نظر للمؤتمر على أنه التأم لحسم نزاع سياسي ولو هناك نص (يعني قاعدة شرعية) لانتفت الحاجة للخلاف أصلا (ص181).

وكانت الحجة لدى كل فريق تعتمد على النسب العائلي أو درجة القرابة. ص181 .

إن هذه الجراة في تجريد الأفكار ثم شخصنتها يذكرني بمشروع سابق ومبكر ظهر في الستينات للمرحوم جلال صادق العظم أول من فكك التفكير الديني وأول من فك التشفير عن أسباب الهزيمة عام 1967. وذلك في ثنائيته المشهورة (نقد الفكر الديني 1970) و(النقد الذاتي بعد الهزيمة 1968).

لكن مشروع الغرباوي ينقل هذه التجربة الى مستوى التشربعات، بمعنى أنه يعارض السلفية المعاصرة من داخل القانون الإسلامي. فهو بالانطلاق من ترسانة الشواهد الدامغة التي يأخذها من السنة المشرفة والقرآن الكريم (وهذه المفردات أضعها بين قوسين لخصوصيتها التي تتنزه عن التشخيص والتجريد) إنما يدخل في منطقة التابو أو يلغي فصاحة المحظور والممنوع، فهو يفحص مشكلة الفتوحات بعد وفاة النبي ويسأل: هل هي جزء من الرسالة أم أنها استعمار وغزو وبقوة السيف؟ ص40. ويتابع مع مفهوم الجزية، هل هو إسلامي في ظروف الألفية الثالثة أم أنه تفسير جاهلي لظاهرة إيمانية تعود للقرن السادس بعد الميلاد. ص 180.

بهذه الروح يواجه الكتاب خمسة محاور أساسية.

الأول الفكر القومي ص19. ويعتقد أنه يعاني من الضعف والهشاشة في العراق لكنه أقوى في مصر وبلاد الشام ص21. وييذكر عدة أسباب لتفسير ذلك. فالعراق يتكون من جيوب اجتماعية أو إثنيات. بينما مصر جاهزة للتجانس لم تتخللها تاريخيا غير موجات بشرية متماثلة. فبعد الحضارة الفرعونية توسع الأقباط ثم حل في مكانهم المسلمون، ووجد الأقباط فيهم خلاصا من الاستعمار الروماني وطقوسه وإملاءاته. ص24.

وأضيف لما سلف أن الخلل في هذه المنطقة ناجم عن الأفكار الميكانيكية التي تفرضها السلطات من أعلى. فحكوماتنا العربية لا تؤمن بالتربية ولا مبدأ الإقناع. وتستعمل العنف عند أي مشكلة تطرأ على الساحة. وربما كان العنف المبذول ضد المعارضة أكبر من العمليات العسكرية التي واجهنا بها المحتل. ولذلك الغيبوبة السياسية هي التي تتحكم بالخطاب الإعلامي. وليس غريبا أن تسمع في وسائل الإعلام عن نبأ ولكن لا تجد له أي مصداقية على أرض الواقع. والقومية العربية في مصر وبلاد الشام ليست بريئة من هذه الشبهات.

فهي فكر كلاسيكي لديه خروقات إيديولوجية وتطاله العيوب من كل أطرافه. وأعتقد أن هذا هو السبب وراء تبلوره في العراق أكثر من البلدان المجاورة. فهو ذريعة للتماسك. باعتبار أن العراق على خط المواجهة مع الساسانيين أو الفرس وبلغة معاصرة إيران.

وكل دوائر العقل العربي الحديث وجدت لها أرضا خصبة في سنة العراق وحكومة صدام. وهذا لم يكن من السهل تذويبه بعد موت النظام السابق عام 2003. فموته لم يكن سريريا، ولكنه تفكيك للأدوات. بمعنى آخر لقد طرأ تبدل في المساحة التي يحتلها اللاعبون الأساسيون أو الكبار، القوميون أصبحوا في الخلف والإسلاميون احتلوا الواجهة. وليس من الوارد إقصاء أي طرف أو الغاؤه.

وكما يقول أرنست غيلنر: إن الإسلام الإصلاحي لعب دورا يشبه الذي تلعبه القومية. وفي البلاد الإسلامية يصعب التمييز بين الحركتين. ص34، فالإسلام يزود أتباعه بالهوية القومية والمثال الأبرز ما قدمه في سياق الكفاح ضد الاستعمار. ص35.(2). ولم ترتفع في العراق أصوات تدعو لتحييده عن الساحة العربية. لكن الصورة تختلف في سوريا. فقد كان للميليشيات السورية وجود بالعلن أو في السر منذ تأسيس سوريا.

لقد دخلت الأحزاب، التي ترسم للعراق شخصية أكادية، في عداد الثقافات الميتة التي تحتاج للإنعاش والحماية للحفاظ على الإرث الحضاري للعراق. بينما الدعوات الانعزالية تنشط في بلاد الشام. وإذا لم يكن لها مشاركة فعالة في السلطة فإنها في وضع التهيؤ أو الانتظار. وتجد لنفسها أكثر من ساحة لتلعب بها ومنها الدعوات المختلف عليها كمجموعة بلاد حوض المتوسط أو نظرية الشرق ألاوسط الجدبد وهلم جرا.

والصورة في لبنان أوضح لو نظرت لواقع القوات اللبنانية وحراس الأرز. مثلا يرى يوسف السودا (3) أنه لا يوجد فرق بين لبنان وفينيقيا. ص13 حتى أن التوراة كانت تسمي السواحل الفينيقية باسم لبنان. ص23.

ويرى رئيس حزب الكتائب اللبنانية الأسبق كريم بقردوني (4) أن البعثيبن في سوريا أقلية سياسبة والعلويين أقلية دينية و لم يجد حافظ الأسد ضمانة له للاستمرار غير اتباع أساليب غير كلاسيكية في ممارسة وتطبيق الفكر القومي.

فقد انتهج سياسة الجسور الممدودة، وأضاف إليها سياسة التحالفات البديلة، كما يقول بقردوني، وهذه الصيغة هي التي خلصت الأساطير الإيديولوجية من العيوب والنواقص.

لقد كان صدام يؤمن بأسطورة التفوق العرقي ويدعو لتعويم العشيرة والأسرة، وكانت فكرة التضحية عنده تكاد تكون صورة بالمرآة لظاهرة الجهاد المقدس التي يتبناها الإسلاميون.

بينما اعتمدت المدرسة البعثية في سوريا مبدأ اللعبة المفتوحة. وهذا التعبير أيضا لبقردوني. فاستراتيجية الأسد في إدارة الأزمات تستبعد الحل النهائي وتتبنى الحل المؤقت. وأهم ما في هذه السياسة أنها تحول هذه الحلول إلى أوضاع ثابتة مع الزمن. ص87.

وإذا كان الغرباوي يرى أن المشروع العربي نجح وتخلى اللبنانيون والسوريون عن خلافاتهم الدينية واحتكموا للعروبة لمواجهة الاستعمارين التركي ثم الفرنسي ص 32 فأنا لا أجد أي مزاعم تشكك بهذه الخطوة التحريرية، مع ذلك إن المرجعيات تختلف في تفسير أسباب وأشكال يقظة العقل العربي في بلاد الشام.

فقد تداخلت ردود الأفعال إلى حد التناقض.

بالنسبة لمواجهة سياسة التتريك كانت الصحوة ذات هوية عروبية، ووقف خلفها الهاشميون باعتبار أنهم ينظرون للإسلام كدين هاشمي، ولكن بالنسبة للانتفاضة ضد الاستعمار الفرنسي فقد غلبت على الحراك الشعبي الدعوة لطرد جحافل الصليبيين العائدين إلى المشرق وبلاد المسلمين، حتى أن حرب النكبة كانت وراءها شعارات إسلامية تشبه ما فعله النبي وأصحابه بالقبائل اليهودية في شعاب يثرب. بينما كانت الثورات العربية ذات مضمون وطني، اشتراكي قومي أو تقف وراءها فكرة النسر السوري، وهي فكرة حضارية لا تفرق بين الماضي التاريخي لبلاد الشام والمشهد السياسي المعاصر، وتجد في هذه الأفكار بقايا ورواسب من أيام الإمبراطورية الهيلينية، وعناصر من الفكر البيزنطي الذي امتد ليشمل مملكة تدمر.

وبجرد بسيط لأسماء الجمعيات الناشطة في بلاد الشام ضد العثمانيين تلاحظ تغليب مفهوم الانتماء للوطن السوري بالمعنى الروحي لوحدة سوريا الطبيعية داخل إطار جغرافيا هذه البلاد، فقد اقترنت القومية مع العلمنة وأنجبتا بلا تردد ثقافة غربية أنكلو فرنسية تسعى لسلخ القناع العثماني عن وجه سوريا والتماهي مع علمنة التفكير القومي في رؤية وطنية. من هذه الجمعيات والأحزاب أذكر: حزب الاتحاد السوري وجمعية ١٨٧٥ والحزب الديمقراطي والمؤتمر السوري العام وقد تطورت هذه الأندية من منطلق علماني صرف قبالة الحركة التي قادها الأفغاني ومحمد عبده في مصر من منطلق ديني (5). ص78.

وعليه يمكنك أن تنظر لنشاط الأفكار في المشرق على أنه يشتمل على ثلاثة ميول أساسية: التيار الإصلاحي الديني في مصر، والوطني السوري في سوريا ولبنان، والقوماني العربي في العراق، وإذا كنا مصرين على إضفاء الصفة القومانية على السوريين فهي، كما يرى داية، عن وجه حق، كانت عروبة تكتيكية، حتى أن نجيب عازوري مؤلف يقظة الأمة العربية كان يصر على فصل العرق عن العقل، وينادي بضرورة الوحدة، ولو تأملت بخلفيات هذا الشعار ستتبين أنه يشير للاتحاد السوري كنواة لأمة نبني عليها لاحقا. ص79. وهو ما يسميه بالإمبراطورية العربية الجديدة ص80. ولنضع خطا تحت الجديدة، ولو شئت التفصيل فحدود الأمة العربية بنظره تمتد من دجلة إلى برزخ السويس.

وهذا يختلف جذريا عن شعار القومانيين العرب الذين ينادون بعروبة مراكش قبل المناداة بعروبة بغداد.

المحوران الثاني والثالث هما عن إيديولوجيا التوظيف السياسي وتداعيات المواقف السياسية. وتخصصا بالمعارضة وظاهرة اللجوء إلى دول الجوار، وما ترتب على ذلك من خيانات يمكنك أن تقول إنهاعظمى ص59. وطوال النقاش كان السائل والمجيب يؤكدان على مشكلة طلب المعونة من طرف خارجي لحل أزمات الداخل.ص69 .

ولم تبرأ هذه المحاورة من أفلاطونية أو طوباوية سياسية.

فقد كان الغرباوي لا يبرر لحزب الدعوة ظاهرة العمل من خلف الحدود لكنه نوه بحجم الفاجع الذي كانت تعانيه في إيران بالرغم مما دفعته من ثمن باهظ جراء حمل لواء معارضتها للبعث. ص78.

ناهيك أنهم لم يغادروا طواعية وإنما بالقسر، وهو ما يعرف باسم التسفير وإن كان يفضل نعته بصفة التهجير ص103 ، فالذي حصل كان عملية تفريغ للبلاد من المعارضة بتهمة أنهم تبعية إيرانية. والحقيقة أن جذورهم عراقية وهربوا من خدمة الجيش العثماني بحمل هويات مصدرها إيران ص132، حتى أن هذه التهمة مضى عليها ما ينوف على خمسين عاما، أضف لذلك أن دستور البعث الذي يعمل به صدام يصنف كل من آمن بالانتماء للعروبة بين العرب.

لم أقرأ شيئا بهذا الوضوح وهذا الترتيب حول الأزمة الروحية لحزب الدعوة.

وأعتقد أن الغرباوي فسر مشكلة فقدان الاتجاه وانقلاب الموازين بعد الدخول في معادلة السلطة. فالمصلحة الوطنية كانت تقتضي الاعتراف بالأضداد. والإشارة هنا إلى الدولة الإيرانية والجيش الأمريكي.

ويوجد فرق واضح في هذه المساهمة الأجنبية.

إن دخول إيران على الخط له ما يبرره، فالتفكير الإسلامي كما يقول الغرباوي كوني، وهو منذور لنشر رسالة التسامح والمساواة بين كل أفراد الجنس البشري. ولذلك لا يوجد مساس بالروح الوطنية، ولا ترقى المعارضة الإسلامية في إيران لأية شكوك.

ويمكن أن تقول نفس الشيء عن البعثيين الذين احتموا في سوريا، ففكرة الوحدة العربية والمصير المشترك يساوي بين العمل السياسي على طرفي الحدود. وهذه ظاهرة متفشية في كل الكتل السياسية التي تعمل من وراء النظام. حتى الدولة الإسلامية المرفوضة عالميا هدمت نقاط التفتيش بين العراق وسوريا واعتبرت أنها صناعة وليست حقيقة.

إنما المشكلة التي ساعدت على تدمير العراق في بدايات الغزو هي في التنسيق مع أمريكا، فهي دولة غير عربية. ولا يمكن أن تجد سببا قويا للتعامل معها لقلب نظام الحكم لا برعاية من التفكير القومي ولا الإسلامي ولو شئت الحقيقة إن تدخل أمريكا في العراق لا يختلف عن ورطتها في فيتنام.

وكان الغرباوي واضحا في هذا الخصوص، فقد كان غطاء الغزو على مسؤولية أفراد وليس تنظيمات، ثم أخذت سياسة الأمر الواقع مفعولها بالتدريج .ص113 .

المحوران الرابع والخامس هما الفساد الاداري والمالي ودور الإسلام في بناء الدولة، ولقد كال الغرباوي التهم من كل الأنواع للنخب الحاكمة، فإذا كان صدام طاغية ونهب ثروات البلاد فإن حكومات المحاصصة نهبت ما تبقى ص147، ويفند الغرباوي الأسباب، ويدعمها بأرقام وحيثيات من الواقع السياسي المعيش. ولكن في كل كلمة تشم رائحة السبب الأساسي وهو غموض الاستراتيجية المتبعة.ص150 . ولا يمكن أن أستثني بلدا واحدا في منطقتنا العربية من هذا الداء.

حتى مصر لم تكن تتحرى طريقها بشكل مستقر، وكانت تسبح فوق بحر من الفوضى طوال أول خمس سنوات من ثورة يوليو المعروفة الآن باسم الجمهورية الأولى. فقد تداخلت في مجلس قيادة الثورة الميول الاشتراكية مع المال السياسي بصبغة أضفى عليها الإسلام مشروعا إصلاحيا بعيدا كل البعد عن المعنى الراديكالي للثورات، ونجم عن هذه المشكلة انفجار أزمة اللواء نجيب ودراما إخراجه من السلطة لاستبعاد الموالين له وهم الإخوان المسلمون. ويمكن أن تؤكد أن عالم السياسة والأحزاب لدينا يتبع آلية عمل الرمال المتحركة، ومثلما أن الحدود سائلة لأنها بدعة وتعود لاتفاق دولي وليس لظروف موضوعية فإن المفاهيم والإيديولوجيا سائلة، وخطوط العزل والاشتباك تحددها المصالح والأحلاف، أو بلغة معاصرة التوافقات. فالبعث له عدة أجنحة ومدارس تتصارع فيما بينها، وبالأخص نظرية ميشيل عفلق وهي كلاسيكية ومتأثرة بالمعنى الحضاري للأمة، ثم نظرية الأرسوزي التي تعول على علاقة اللغة بالفضاء النفسي للمجتمع وليس العرق. وهذا يضفي عليها بعدا وطنيا ورومنسيا له أفق متحول.

وأعتقد أن هذا الغموض والاختلاف الجدلي الذي يرقى لمرتبة قطيعة معرفية بين أطراف الحزب الواحد هو المتسبب حتما بتبديل معرفة الاتجاه، فالبعث في العراق أثمر عن هوية إسلامة تشبه إلى حد بعيد القدر الذي اختاره الاتحاد الاشتراكي في مصر لنفسه، فقد سقطت معظم كوادره في ظاهرة التأسلم ، بلغة الدكتور رفعت السعيد. في حين أن ميول البعثيين في سوريا تقودهم إلى هوية أرستقراطية تحاول أن تردم الفجوة التي تركها خروج حكومات الاستقلال من المجتمع. وإذا كان تأسلم صدام أنجب مجمعات تجارية ضخمة احتكرت العقل العربي لنفسها، فإن البعث في سوريا يقشر نفسه، وهذه عملية إنضاج وتطوير بطيء وطويل الأجل، وخلالها سيكون الحظ الأوفر لقطاع الخدمات والمانيفاكتورة البورجوازية.

من البديهيات في ألف باء السياسة أن يكون للحزب استراتيجية دائمة وتكتيك آني، ولكن للأسف يشوبنا الغموض في تحديد الاتجاه، حتى أن المبادى تبدو عرضة للمساومة لدرجة غسيل الدماغ، فالانتقال من مرحلة الحزب الشمولي إلى النشاط في البرلمان كما حصل في روسيا مسألة مفهومة لأن الشيوعي لم يطعن في الهدف أو الاستراتيجية ولكن اضطر لإعادة النظر في الأساليب والأدوات.

بينما ماكينة الأفكار لدينا تعوم في بحر من الضباب وينقصها الديمومة وربما تتأثر بعلاقات القرابة ورابطة الدم، فتحالف البعثيين مع عدنان المالكي واعتباره رمزا من رموزهم كان وراءه شقيقه رياض، وهو من صفوف البعثيين. ويمكن أن تجد نفس الظاهرة في حزب إيدبولوجي أممي عريق هو الشيوعي السوري، فقيادته تنتقل بالوراثة من الأب إلى الزوجة إلى الابن بمتوالية غريبة، كأنه لم يعد يوجد بين الشيوعيين مخلص ومؤمن غير آل بكداش. مثل هذه السياسة التي تحركها قوانين ميكانيكية هي التي تسببت باختراق الشيوعي السوري وتشرذمه في عدة تيارات تحمل أسماء مختلفة لخطاب واحد. لقد كان التناحر على السلطة هو السبب الرئيسي في الصراعات الداخلية وليس تعويم الأفكار، وانقلاب البعث على حكومة الأخوين عارف في العراق من المشاكل المحيرة، فقد كان الشقاق بين حلفاء. ويمكن أن تقول نفس الشيء عن الجماعات الإسلامية، فقد كانت تنضوي تحت لواء الإخوان المسلمين في الخمسينات، وكان للشيعة تكتل داخل جماعة الإخوان المسلمين واسمه الفرع الفاطمي كما هو الحال اليوم مع السنة المنضوين في كتلة النجيفي تحت قبة البرلمان (وهذه المعلومة من أرشيف الدكتور قصي الشيخ عسكر)(6). وتجد للغرباوي أكثر من إشارة تؤيد هذا الطرح ومنها قوله في الخاتمة إن الحركات الإسلامية جمعاء سنة وشيعة تربت ثقافيا وحزبيا في أحضان الإخوان المسلمين ولذلك هي لا تؤمن بالديمقراطية وتنحاز إلى اللطف الإلهي وتعتبر حاضنة طبيعة للعنف في حل النزاعات ص170. ويمكن في أي لحظة أن تنكل بالدستور المدني وتعود إلى شرع الله أو القرآن والسنة النبوية.

إن سياسة الكيل بمكيالين من الخصال النوعية المميزة عند العرب، وهذه خصلة تبث الرعب في النفوس، وتدعونا لتوخي الحذر لأنك لا تعرف مع من تتعامل. كل الأحزاب الهجينة في العالم لديها أهداف تعلن عنها وتسعى جهدها لتطبيقها لأنه توجد محاسبة على التقتير في جواب الطلبات، فالبرنامج أو الأجندا مطلب وليس مزاجا. إلا نحن، أحزابنا بلا هوية مستقرة، ويبتبادل الوجه والقناع المواقع بسرعة البرق. وتنشأ التحالفات من العدم، ومهما بذلت من عناية وحذق في الاستقراء لا تصل إلى الظاهرة الموجبة. وكانت أفظع نتبجة هي الرهان على السلطة بعد 2011. لقد حول الإهمال من طرف والتزمت من طرف آخر الشرق الأوسط إلى بحيرة من الدم، واستشرت السياسة الانتقامية على حساب البناء حتى بدأنا ننتبه أننا نراوح في المربع الأسود الذي يقول عنه ماجد الغرباوي: إنه سياسة الاحتلال ويسميه محاوره طارق الكناني باسم الفساد ص141.

 

د. صالح الرزوق

..................................

هوامش ضرورية:

1 – رهانات السلطة في العراق: حوار في إيديولوجيا التوظيف السياسي لطارق السماوي وماجد الغرباوي. منشورات الأمل الجديدة. دمشق. 2017. 191 ص.

2- ما بعد الحداثة والعقل والدين لأرنست غيلنر. كتاب المدى. دمشق. 2001.

3- تاريخ لبنان الحضاري ليوسف السودا. منشورات دار النهار. بيروت. 1979.

4- السلام المفقود لكريم بقردوني. منشورات عبر الشرق. بيروت. 1984.

5- رواد النهضة ودورهم في تأسيس التيار القومي العلماني لجان داية، ندوة الفكر الوطني في مواجهة المشكلة الطائفية، منشورات مجلة فكر، 1981.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم