صحيفة المثقف

الكفاءة والأداء اللغويان عند تشومسكى

تشومسكى هو ثالث ثلاثة وضعوا أسس علم اللغة الحديث ومنطلقاته وهم : سوسير وبلومفيد وتشومشكى. سوسير هو الأب الروحى لعلم اللغة الحديث، وبلومفيلد هو عميد علم اللغة الأمريكى، وتشومسكى هو حامل لواء علم اللغة الأمريكى الثائر لى بلومفيلد.

ميزتشومسكى فى دراسته لأهداف النظرية اللغوية The goals of Linguistic theory بين ما يسمى بـ"الكفاءة" competence وما يسمى بـ"الأداء" performance.(1) وبين ذلك فى كتابه "جوانب من النظرية النحوية" حيث قال فى الفصل الأول : "إن الموضوع الأول للنظرية اللغوية هو إنسان متكلم – مستمع مثالى ideal speaker – listener ينتمى إلى جماعة بشرية ذات تماثل كلامى، ويعرف لغة تلك الجماعة معرفة تامة، وغير متأثر بتلك الحالات التى لا علاقة لها بالقواعد النحوية مثل قصور الذاكرة، وتشتت الانتباه، والأخطاء ... الخ، والتى تظهر عندما يطبق معرفته اللغوية فى الاعتبار عدة عوامل تكون الكفاءة اللغوية للمتكلم المستمع واحدة منها فقط ".(2)

والكفاءة اللغوية هى "معرفة المتكلم – المستمع بلغته"، وأما الأداء اللغوى فهو "الاستخدام الفعلى للغة فى مواقف حقيقية" ولا يمكن القول أن الأداء هو انعكاس مباشر للكفاءة، هو قد يعكس الكفاءة ولكن تحت شروط خاصة .(3) فكفاءة ابن اللغة Speaker Native تقرر ما يمكن أن يقوله أو يتحدث عنه أو يفهمه، أما أداؤه فيتألف من كل عينات أو أجزاء تلك اللغة التى ينتجها فى الواقع أو يسمعها .(4)وبمعنى آخر، الأداء اللغوى هو طريقة كتابة جملة مل بسيطة أو مركبة على مستوى الحديث العادى مثل قولنا : "إن الشباك مفتوح" أو "البرتقالة حلوة المذاق" أو "البائع يبيع ما لديه من سلع بأثمان مرتفعة " .... الخ أما الكفاءة اللغوية فهى تعنى أن الإنسان يمتلك بفطرته عدة عوامل صورية أولية يثيرها من كمونها ما اكتسبه وتعلمه من قواعد الجمل الصحيحة وتركيبها .(5)

وكفاءتنا اللغوية تجعلنا نستطيع بعدد متناه من القواعد أن ننتج عددا لا حصر له من الجمل ونبرزه ومن ثم فنحن نواجه كل يوم بجمل جديدة غير معروفة لنا مطلقاً . وفى جانبها الدلالى يمكن لتلك الثروة اللغوية أن تظهر قدرتنا على تنظيم حياتنا يوما بعد يوم عن طريق التواصل وعبر عملية الأداء اللغوى نفسه .(6)

لذلك يؤكد تشومسكى أن الكفاءة هى موضوع دراسة النحو التقليدى : فهذا النحو يصف مقدرة المتكلم على فهم الجمل الخاصة بلغته وإنتاج جمل أخرى جديدة، أو تحديد الجمل المناسبة للمواقف الجديدة . وإذا كان النحو التعليمى pedagogic grammar يحاول أن يزود الطالب أو الدارس بهذه المقدرة، فإن النحو اللغوى Linguistic grammar يهدف إلى اكتشاف وتصوير الحركات الآلية التى تجعل ذلك الإنجاز ممكنا .(7)

والنظرية القواعدية الشكلية تفترض أن الكفاءة توجد بشكل ما، وفى مكان ما فى عقل مستخدم اللغة، وهى قدرته على الأداء بطرائق معينة، وبالتالى فإن الكفاءة اللغوية هى نموذج لما يفترض وجوده فى عقل المتكلم . وهو النموذج الذى أقامه عالم اللغة على أساس قدرة الفرد الأولية على تمييز المنطوقات جيدة الصياغة من تلك المنطوقات ضعيفة الصياغة .... الخ. ويمكن فحص مدى وجودها وجدواها من خلال دراسة متأنية للأداء الفعلى الذى يعتقد أنها تحدده، وبرغم ذلك فإن أى سلوك معقد كالسلوك اللغوى البشرى يتأثر بعدد من العوامل . وقد تدعمت جدوى هذه النظرية خلال القدرة على التنبؤ بالأداء عبر نظرية الكفاءة .(8)

فالكفاءة تعد من القضايا الشائعة فى الدراسة اللغوية فى الوقت الراهن، وهى تركز على المعرفة الضمنية بالمجموعة الكاملة والعامة من القواعد التى تؤلف بين الأنماط النحوية والمفردات المعجمية والأشكال الصوتية للغة وبالتالى من الناحية النظرية . القدرة على إنتاج أى شكل أو نمط لغوى فى أى وقت، وكذلك القدرة على ما ينتجه الآخرون . ويحدد تشومسكى المعنى الاصطلاحى للكفاءة بقوله :" الكفاءة تشير إلى قدرة المتكلم . المستمع المثالى على أن يربط الأصوات والمعانى طبقا لقواعد لغته، ويعتبر النحو نموذجا للكفاءة المثالية الذى يمدنا بعلاقة أو رابطة معينة بين الصوت و المعنى ، أو بين التمثيلات الصوتية والدلالية " . ومعنى هذا أن القدرة على إنتاج اللغة وفهمها تسمى الكفاءة، وهذه الكفاءة طبع عليها الإنسان منذ طفولته، وخلال مراحل اكتساب اللغة، وهى بمثابة مقدرة تجسد العملية التى يقوم بها متكلم اللغة بهدف صياغة الجمل، وذلك طبقا لتنظيم القواعد الضمنية التى يمتلكها . (9)

ويتحدث تشومسكى عن أنماط مختلفة من الكفاءة منها : الكفاية الوصفية Descriptive adequacy، الكفاية التفسيرية Explanatory adequacy ، والكفاية التداولية pragmatic adequacy والكفاية النمطيةtypological adequacy ... الخ والتفرقة بين الكفاءة التفسيرية والكفاية الوصفية تتعلق أساسا بتلك التفرقة التى أقامها هوكيت Hockett بين القواعد النحوية العميقة"     و" القواعد النحوية السطحية ". (10)

ويمكن عن طريق الكفاية الوصفية التفسيرية تبرير "النحو التوليدى" generative grammar فعلى مستوى الكفاءة الوصفية يمكن تبرير القواعد النحوية على أساس الدرجة التى يمكن فيها وصف موضوعها بشكل صحيح، والمقصود بالموضوع هنا "الحدس اللغوى" أى الكفاءة الضمنية لابن اللغة، وبهذا المعنى تبرر القواعد على أسس خارجية External grounds أى على أسس مطابقة للحقيقة اللغوية . وعلى مستوى الكفاية التفسيرية تبرر القواعد النحوية على أساس الدرجة التى تكون فيها نسقا ذا كفاية وصفية محددة المبادئ حيث إن النظرية اللغوية التى ترتبط بها تنتقى هذه القواعد من بين القواعد الأخرى اعتمادا على معطيات لغوية أولية معطاة . وبهذا المعنى تبرر القواعد عن طريق أسس داخلية internal grounds  أى على أسس ترتبط بعلاقة القواعد بالنظرية اللغوية التى تؤلف فرضية تفسيرية حول صورة اللغة كما هى . وتظل مسألة "الكفاية التفسيرية" هى أساس بناء نظرية اكتساب اللغة ووصف الإمكانات الفطرية التى تجعل ذلك ممكنا . (11)

هكذا يؤكد تشومسكى أهمية الكفاية التفسيرية لفهم أبعاد بنية اللغة بل ويروى أن محاولة بلوغ هذه الكفاية هى محاولة ذات أهمية بالغة فى كل مرحلة من مراحل فهم البنية اللغوية، ذلك أن المسائل المهمة التى لها أبلغ تأثير على مفهومنا عن اللغة، وكذلك على ممارستنا للوصف هى تلك التى تتعلق بالكفاية التفسيرية بالنسبة لجوانب معينة من بنية اللغة، كما أن الاهتمام بالكفاية التفسيرية يتطلب دراسة إجراءات التقييم . (12)

ويتعلق هذا التصور للكفاية عند تشومسكى بدراسته للقدرة التوليديةgenerative capacity ، وتمييزه بين نوعين منها: "القدرة التوليدية القوية " و" القدرة التوليدية الضعيفة ". فهو يرى أن دراسة "القدرة التوليدية القوية" ترتبط بدراسة الكفاية الوصفية ذلك أن القواعد تكون ذات كفاية وصفية إذا كانت قدراتها التوليدية القوية شاملة لنسق الأوصاف البنيوية لكل لغة طبيعية .(13)

أما الكفاءة التداولية فهى تتضمن ما يسمى بــ" منطق المحادثة logic of conversation ، وتحتل موضوعا مهما فى نظرية الأداء التى تفسر بنية الذاكرة وتمثل طريقتنا فى تنظيم الخبرة . فالدراسة الحقيقية لأى لغة تتعلق بالضرورة بالأداء أو بما يفعله شخص ما فى ظل ظروف معينة، ولذلك فإن معطيات الأداء تتعلق مباشرة بالكفاءة نفسها، فإذ كنا نعرف أن اللغة تتألف من كلمات وجب علينا أن ندرس الإشارات اللغوية وخصائصها الدلالية والصورية. فدراسة الأداء تساعدنا على فهم الكفاءة، وهما مع يتعاونان فى فهم طبيعة اللغة وقدرات الإنسان الإبداعية .(14)

ولتوضيح ذلك يؤكد تشومسكى أن كل متكلم لغة يمتلك قدرة على اختراع لغته وضرب من "القواعد التوليدية" تمنحه معرفة خاصة للتعبير عن لغته . لكن ليس معنى ذلك أن المتكلم يكون واعيا بتلك القواعد، أو أن باستطاعته أن يعيها، أو أن عبارته اللغوية عن معرفته الحدسية تكون دقيقة بالضرورة . فأى اهتمام للقواعد التوليدية ذاتها يصبح ذا أهمية، فى معظم الوقت، فى العمليات العقلية التى تقع بعيدا عن الوعى الواقعى أو الممكن، وعلاوة على ذلك، فمن الواضح أن آراء المتكلم ووجهات نظره عن سلوكه وكفاءته قد تكون خاطئة . وعليه فإن "القواعد النحوية التوليدية" تحدد ما يعرفه المتكلم بالفعل وليس ما يقوله أو يعبر عنه من معرفة شأن نظرية الإدراك الحسى التى تسعى إلى تحديد أو وصف ما يراه الشخص بالفعل بدلا من وصف ما يقوله أو يعبر به عما يراه، وكيفية رؤيته له.(15)

القواعد النحوية التوليدية ليست نموذجا للمتكلم أو المستمع، بل هى محاولة لوصف، بأكثر الطرق حيادية المعرفة اللغوية التى تزودنا بأساس الاستخدام الفعلى للغة من قبل المتكلم – المستمع، فعندما نقول إن القواعد توليد لجمل ذات وصف بنيوى معين فيعنى ذلك أن هذه القواعد تعطى هذا الوصف البنيوى للجملة . وعندما نقول أن للجملة اشتقاق معين تحدده قواعد توليدية معينة فلا يعنى ذلك كيف يقوم المتكلم أو المستمع بمثل هذا الاشتقاق بشكل عملى وطريقة فعالة، فهذه المسألة تخص نظرية الاستخدام اللغوى "نظرية الأداء".(16) و" القواعد التوليدية " التى تهتم بوضع نظرية فى الأداء اللغوى، ونظرية فى تعلم الطفل للغة عبارة عن نسق من القواعد التى يمكن أن يعاد استعمالها باستمرار لتوليد عدد غير محدود من التراكيب . وهذا النسق من القواعد يمكن تحليله إلى ثلاثة مكونات رئيسية للقواعد التوليدية هى : -

1- المكون النحوى syntactic component

المكون النحوى هو الذى يحدد مجموعة لا متناهية من الموضوعات المصاغة المجردة، وتتضمن كل منها جميع المعلومات المتعلقة بتفسير واحد لجملة معينة ومصطلح " جملة " هنا يقصد به الإشارة إلى السلاسل التوليدية وليس إلى السلاسل المكونة من الفونيمات .

2- المكون الفونولوجى phonological competent

المكون الفونولوجى هو الذى يحدد الصيغة "الصوتية" للجملة التى يتم توليدها بواسطة قواعد نظمية تركيبية، أى أنه يعطى للجملة صورتها الصوتية أو النطقية .

3- المكون الدلالى Semantic component

المكون الدلالى هو الذى يحدد معنى الجملة وطريقة تفسيرها . (17)

وهكذا نلاحظ أن الدراسات النحوية عند تشومسكى لها أهمية عظيمة فى دراسة المشكلات اللغوية، بل لقد لعبت دورا مهما فى تطوير النظرية اللغوية نفسها.(18) ويتعلق ذلك بالقواعد التوليدية بالذات، تلك القواعد التى تشكل أساس بناء نظرية الأداء اللغوى، ووضع نظرية علمية لتفسير علم الطفل اللغة، ولتحقيق ذلك تشتمل هذه القواعد على ثلاثة مكونات، مكون إعرابى، مكون فونولوجى، ومكون دلالى ..... والمكونان الفونولوجى والدلالى هما مكونان تفسيريان ويستخدم كل منهما المعلومات التى يزودهما بها المكون الإعرابى والتى تخص السلاسل التوليدية وخصائصها الأصلية وكذلك علاقة بعضها بالبعض الآخر فى جملة معينة . ومعنى ذلك أن المكون الإعرابى يجب أن يخص لكل جملة بنية عميقة تحدد تفسيرها الدلالى، وبنية سطحية تحدد تفسيرها الصوتى . البنية العميقة تفسر عن طريق المكون الدلالى، والبنية السطحية تفسر عن طريق المكون الفنولوجى، أى أن المكون الدلالى يرتبط ارتباطا وثيقا بالبنية العميقة وهو الذى يميز بين الجمل الصحيحة قواعديا والجمل غير الصحيحة قواعديا .(19)

ويتعلق ذلك بتمييز تشومسكى بين الجمل الأكثر قبولا والجمل الأقل قبولا. والجمل الأكثر قبولا هى تلك الجمل التى يكون إنتاجها أكثر احتمالا، ويكون أكثر سهوله، وأكثر ملاءمة وإتقانا، وأكثر طبيعية بشكل من الأشكال. أما الجمل الأقل قبولا فهى تلك الجمل التى يميل المتكلمون إلى تجنبها أو استبدالها بجمل أخرى تكون أكثر قبولا بقدر المستطاع فى خطابهم الفعلى لكن ليس معنى ذلك أن نربط فكرة "المقبول" بالصحيح قواعديا، وفكرة "غير المقبول" بالخطأ قواعديا، "فالمقبول" مفهوم يتعلق بدراسة الأداء بينما الصحة القواعدية تتعلق بدراسة الكفاءة وإن درجة القبول للجملة قد تكون منخفضة فى الوقت الذى تكون فيه صحيحة قواعديا .(20)

ومهما يكن من أمر الطريقة التى يميز بها تشومسكى بين "الكفاءة اللغوية " و"الأداء اللغوى" فإن الذى لا شك فيه أن هذا التمييز هو امتداد مباشر لتمييز عالم اللغة السويسرى دى سوسير De sausseuer بين "اللغة" و"الكلام" ذلك لأن تعريف سوسير للغة وتفسيره لطبيعتها يقابل إلى حد كبير تعريف تشومسكى "للكفاءة"، وتعريف سوسير "للكلام" وشرحه لخصائص يقابل موقف تشومسكى من "الأداء".

ولتوضيح ذلك نقول أن تمييز سوسير بين "اللغة" و" الكلام" يقوم على أساس أن الكلامspeech ليس إلا جزءا محددا "من اللغة" ويرتبط أساسا بذاتيته وفردية صاحبه، فهو فعل فردى يقوم به شخص ما فى حديثه مع الآخرين، وهو نتاج اجتماعى لملكة اللغة، ولمجموعة الأعراف والاتفاقات الضرورية التى أقرها المجتمع وسنها لكى تتأتى ممارسة هذه الملكة عند الأفراد. أما اللغة، بوجه عام متعددة الجوانب، متباينة الصور، وتقع على حدود عدة ميادين: فيزيائية وفسيولوجية، وسيكولوجية، وفى الوقت نفسه تقع على حدود ميدان الفرد، وميدان المجتمع، أى أنها ذات طبيعة اجتماعية عامة،  وأنها شائعة بيننا، فهى تخص الفرد وتخص الجماعة ولذلك لا يمكن  تصنيفها بين الظواهر الإنسانية الأخرى لصعوبة اكتشاف وحدتها.(21)

اللغة ليست وظيفة أو نشاطا للفرد المتكلم، بل هى إنتاج يكتسبه الفرد بسلبية دون سابق تأمل، أما الكلام فهو فعل فردى يتعلق بالإدارة والذكاء . كما أن اللغة مؤسسة اجتماعية  social institution وإن كانت تختلف عن سائر المؤسسات الأخرى سياسية كانت أو قانونية أو غيرها بخصائصها المميزة وهى عبارة عن نسق من القواعد النحوية الموجودة بالقوة فى كل دماغ ـ أو بالضبط فى أدمغة مجموعة من الأفراد ... وهى الإنتاج الذى يكتسبه الفرد المتكلم بطريقة سلبية عن طريق تسجيلها .(22)

بهذا يميز سوسير بين الكلام واللغة على أساس أن الكلام هو الأحداث المنطوقة فعلا من متكلم، وهو نشاط فردى أو عمل الفرد الذى يقوم فيه بالحذف أو الإضافة أو التعديل، أما اللغة بمعناها المطلق فهى مجموعة كلية من العبارات والجمل اللغوية التى تمكن الفرد من الفهم والمعرفة وهى ملك للفرد والمجتمع، والتمييز بين اللغة والكلام بهذه الصورة هو تمييز بين "المقدرة اللغوية" للمتكلم وبين الظواهر الواقعية " أو " المنطوقات " . فاللغة مؤسسة اجتماعية أو مجموعة من العادات اللغوية التى تسمح للفرد بالتواصل مع الآخرين، أما الكلام فهو الأداء الفعلى للغة فى الواقع الاجتماعى .

ومع ذلك لا يمكن القول أن تمييز تشومسكى بين "الكفاءة" و"الأداء" يتطابق كلية مع تمييز سوسير بين "اللغة" و"الكلام" بل توجد خلافات جوهرية لا ينبغى تجاهلها بين الجانبين. فأهم ما يميز، بصورة أساسية، مفهوم الكفاءة اللغوية عند تشومسكى عن مفهوم "اللغة" عند سوسير هو تشديد مفهوم "الكفاءة" على وجود قدرة نفسانية خلاقة عن الشخص الناطق .

فاللغة عند سوسير مخزن يودع عن طريق ممارسة الكلام فى الأشخاص الذين ينتمون إلى الجماعة نفسها، ونظام نحوى يوجد بالقوة فى كل دماغ، فليس الشخص إلا مودعا لنظام خارجى، ويودع هذا النظام فيه عن طريق ممارسة الكلام . لذلك فإن تحليل الكلام لا يلزم عالم اللغة بحال من الأحوال بالبحث عن الأولويات التى يشكل الشخص الناطق مجالا لها، وعليه لا تطرح فى المنظور مشكلة مدى مطابقة نموذج الكلام الذى يعده عالم اللغة على الواقع النفسانى . أما مفهوم "الكفاءة اللغوية" فيستند، على العكس، صراحة إلى قدرات الشخص اللغوية، ويمثل هذا المفهوم فى الواقع العوامل اللغوية الصرفة التى تتدخل فى أفعال الكلام أو الأداء اللغوى، إنه يتطابق مع نحو اللغة أو مجموع القواعد التى تفسر بنية العبارات الممكنة، فالكفاءة لا تشكل أبدا مجرد مستودع فى الدماغ بل تشكل فى الواقع عملية ابتكار، بمعنى أن أهم خاصية لها ربما تتمثل فى إصدار أو تأويل العبارات الجدية باستمرار رغم خضوع هذه العبارات على الدوام إلى أحكام القواعد نفسها . (23)

كما أن تشومسكى يدخل فى نطاق مصطلح "الكفاءة اللغوية" تلك المعرفة الحدسية التى تسمح لكل فرد بأن يحكم ما إذا كانت جملة ما بعينها ممكنة أو غير ممكنة فى لغته الأصلية (التى يتكلم بها)، أو ما إذا كانت عبارة ما بعينها سليمة أو غير سليمة. ومن هنا فإن كلمة "الكفاءة" أو "المقدرة اللغوية" عند تشومسكى تعنى أكثر مما تعنيه كلمة " لغة " عند دى سوسير، لأنها تفترض وجود نشاط إبداعى لدى الذات المتكلمة، يتعارض مع الطابع السلبى (غير المتعمد أو غير المتدبر) الذى كان دى سوسير ينسبه إلى اللغة.(24)

ومن ناحية أخرى يجب الإشارة إلى أن "الأداء" عند تشومسكى يتعلق أساسا بــ "البرانيات" أو "السطوح الخارجية" بينما تتعلق "الكفاءة" بــ"الجوانيات" أو "الدخائل" أو "الأعماق" فالأداء يخفى تحته قدرات عقلية عميقة يجب البحث عنها، أى يجب ألا نقف عند السطوح لأنها كثيرا ما تخدعنا بزينتها، إنما نبحث عن "الجوهر"، عن "الأعماق" أو عن "البنى العميقة" للأداء الفعلى .

لذلك يرى تشومسكى أن أعظم ما يميز الكفاءة اللغوية هو ما يمكن أن نسميه بــ "إبداعية اللغة" وهى مقدرة المتكلم على إنتاج جمل جديدة تكون مفهومه لنا رغم عدم سماعنا لها من قبل . والحق أن أهمية دراسة هذا الجانب الإبداعى للغة العادية المستخدمة كانت معروفة منذ القرن السابع عشر، على الأقل، وكانت تشكل محور اهتمام علم اللغة عند همبولت، وهذا هو موضوع المقال القادم "الخاصية الإبداعية للغة".لمزيد من المعلومات راجع كتاب " فلسفة اللغة عند تشومسكى " لكاتب هذه السطور.

 

أ.د.ابراهيم طلبه سلكها – رئيس قسم الفلسفة

كلية الآداب – جامة طنطا- مصر

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم