صحيفة المثقف

عن هيكل بعد عام من رحيله

هل أجاد الكاتب الصحافي عبد الله السناوي فيما كتبه عن الاستاذ الراحل، محمد حسنين هيكل؟، (٢٣ أيلول/ سبتمبر ١٩٢٣- ١٧ شباط/ فبراير ٢٠١٦) ، وهو الابن المضاف لافراد عائلة هيكل كما ذُكر  من خلال علاقته بالراحل وعائلته وصلته المهنية والثقة المتبادلة بينه واهتمامات الاستاذ. وماذا قدم بعد عام على الرحيل؟!. وهو  الحريص على الاسم والدلالة. وجهده في حسابه وغيره معلوم ومطلوب. كما تبيّن قد سجل ما عاشه وشاهده، وفيه من الرواية المعروفة كما فيه من الجديد الذي لولاه لما عرف، ولولاه لما بقي منسوبا له، للراحل ولمن قراه او استمع إليه من خارج دائرة محبيه وتلامذته ومريديه. الراحل باعتراف كثيرين من اصحاب المهنة او من الدارسين في بحور المعرفة، مدرسة فريدة، بكل ما تعنيه وما تعطيه. و هو ايضا حسب وصف سارميللا بوز، مديرة كلية الصحافة في «جامعة أوكسفورد»، وهي تقدمه لإلقاء أول محاضرة تذكارية في الكلية الوليدة، التي نشأت بالتوافق بين جامعة «أوكسفورد» ووكالة «رويترز»، «الأسطورة الحية». او ما اكده قبل أن يصعد على منصة «أوكسفورد» اللورد كريستوفر باتن، رئيس الجامعة، المفوض الأوروبي الأسبق، آخر الحكام البريطانيين لجزيرة هونغ كونغ، وأحد الأركان الوزارية في حكومة مارغريت تاتشر ب«أنه من عظماء الصحافة في نصف القرن الأخير»، ثم التفت إلى سارميللا بوز، قائلاً: «لم يسبق لأحد أن وصفني بالأسطورة الحية، رغم المناصب الكثيرة التي توليتها والأدوار التي قمت بها، لكنني الآن يمكنني أن أترك المنصة لأسطورة حية لتتحدث إليكم». وفق ما دونه السناوي في كتابه الجديد، "احاديث برقاش، هيكل بلا حواجز"، الذي أخذت صحف عربية بنشره قبل صدوره، في الحلقة الرابعة من العشرة التي نشرتها جريدة الاخبار اللبنانية. وهذه شهادة واستحقاق وتقدير، لشخص الراحل ودوره ومكانته. الإشارة لها أو التنويه ضروري لما تعنيه ولمن تعنيه ومن ذكرها وسجلها له. وهو المعروف بما هو عليه، من صفحات حياته، وعمله، واختياره لمهنة " الجورنالجي" صفة ووظيفة واجتهادا تجاوز به حدود العمل والانجاز والشهرة والنموذج الحي لأسطورة معاصرة.

أضاف السناوي في الحلقة ذاتها سجية أخرى للراحل، لا اقول تفرد بها، ولكن شهادة أخرى له ما تعنيه لديه ولمن خط بزمنه او بعده نبل الموقف ونصاعة السيرة. وهو كما يروي السناوي ويخصه به عبر مثال وخلال نص مؤثر ومعبر. "عندما حصد الروائي بهاء طاهر جائزة «البوكر» الدولية في أول إطلالة لها على الرواية العربية عام ٢٠٠٨، ولم يكن التقاه حتى ذلك الوقت، كتب رسالة خاصة إليه قال فيها: «أردت أن أحضر احتفال أصدقائك بك مع حصولك على جائرة البوكر، التي سعت إليك كما يسعى حق إلى صاحبه، وذلك شيء نادر في زمان فرض فيه على الحق أن يخلف موعده أغلب الأحيان».

يوضح السناوي: في تلك الرسالة الخاصة جملة لافتة تضيء جانباً من شخصيته والمنطق الذي يحكمه في النظر إلى معايير التكريم: «إن الدائرة الواسعة للقراء هي الجائزة الأهم والصحبة الأبقى لأي كاتب أعطى نفسه حرية الاختيار فمنحه قراؤه نعمة الرضا». وهذه الجملة تلخص موقفا واضحا ورؤية كبيرة والدراما بما يقوم به وما يعمل عليه وما يريده منه له والتاريخ الذي يستهدي به ويتامل فيه.

قبل سنة من تلك الجملة المنيرة جاءته رسالة موقعة من دافيد أرنولد، رئيس الجامعة الأميركية في القاهرة، بتاريخ ١٩ شباط/ فبراير ٢٠٠٧، تبلغه بأن «مجلس الجامعة صوت بالإجماع على أن يقدم لكم درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم الإنسانية»... ف" إنجازاتكم طوال تاريخكم العملي تعكس مستوى عالياً من الأمانة والامتياز في توثيق تاريخ مصر السياسي، وإسهاماً له قيمته المؤثرة والمستمرة والحيوية في تطور الشرق الأوسط» ـ

 ويرد في ٥ آذار/ مارس التالي على تلك الرسالة:

«إنني شديد التأثر ـ راضٍ وممتن، لكن لدي مسألة أرى أهمية وضعها أمامكم، وتلك هي أنني التزمت أمام الرأي العام من بداية عملي على أن تكريم الصحافي من حق جمهور قرائه بحكم سلطتهم الأدبية والمعنوية عليه، ثم إنه مطالب طوال حياته المهنية بأن يلتزم بهذا الحق للرأي العام دون بديل أياً كان شكل تعبيره: وساماً أو لقباً أو تقديراً من أي جهة أو من أي نوع». «إنني حاولت مراعاة هذا المبدأ إزاء دول شاءت أن تهديني أوسمتها بما في ذلك وطني مصرـ كذلك راعيته إزاء هيئات تفضلت وأرادت أن تحتفي بي، بما في ذلك جامعات عربية وغير عربية رأت أن تهديني أرفع درجاتها العلمية».

ما هذه السجية وكيف يعرف اصحابها؟. وهل هناك بعد اكثر منها عرفا ورفعة وسموا. تضاف الى سجاياه الشخصية وتزيد في احترامه لنفسه ومهنته واختياره وخياراته في العمل والحياة والعلاقات العامة. كان ممكنا أن يوظفها او يستثمرها ولكن الكبير يظل كبيرا في كل الظروف والاحوال. رغم أنه عاش في زمن يتنافس فيه اقل شانا منه عليها ويتسابق كثر او قلة وراء اقل منها درجة او طمعا معنويا ويهرول أو يبيع ما عنده من أجل أن يدرج أسمه في لائحة مثلها او دونها. ويتفاخر البعض او يتباهى بأدنى منها وعقله يطمح او يلهث لغيرها او لمثلها اسما او رسما، ومنهم من عرض نفسه كسلعة في مزاد.

في الحلقات التالية يذكر السناوي سجايا اخرى، او صفات لا يتصف بها غيره، او من هو بمنزلته وموقعه وعمله ودوره، الإعلامي والسياسي والفكري وحتى القرار السياسي. وهو الكاتب الصحفي، الجورنالجي، في صراعاته مع الرؤساء الذين وصلوا السلطة بعد الرئيس جمال عبد الناصر، وفي سجالاته مع انداده او خصومه، او اساليب حواره وطرق تاليفه وصراحته في أحاديثه وكتاباته. وكذلك ما أخرجه وهو يذيع تجربة حياته على شاشات فضائية، مباشرة وامام المشاهدين له أو لها عبره، ويضع فيها كثيرا مما اراد ان يوصله ولم يكتبه فيما صدر له من كتب او مقالات. وهي اشارات ناطقة عن قدرة تواصل ومشاركة وتقديم رأي وموقف. وقد لا يعلم بان ليس كل ما أورده كان خاليا من تباينات او اخطاء في الزمان والمكان او الأشخاص احيانا، وهو ما كان الدكتور كمال خلف الطويل يصححها له ويراسله حولها ولم ينكرها او يختلف معه او ينفيها. وأشار السناوي مرة للدكتور الطويل في حدث منها. وبعد اكمال الحلقات العشر المنشورة في جريدة الأخبار اللبنانية، لم اطلع على دور كبير للاستاذ ومهمة جليلة كان يتهيا للقيام بها، من اعداد الطويل وتحفيز منه ومع جمع من القريبين منه ومن القضية المنشودة. وكان المفروض وهو القريب أن يشير اليها، لانها تضيف للراحل سجية او تؤكدها عنده. وهي بعد غرق المنطقة العربية بفوضى خلاقة وارتداد او جنون مدمر، أصبح لزاما على الاستاذ وأمثاله من الحكماء الباقين على قيد الحياة أن يمارسوا دورا لهم في مواجهة ما حصل، وتقويم ما حدث، وصناعة آفاق أخرى... تواصل وتبني، ترشد وتهدي، تكشف وتقوّم، لاسيما بعد استشراء استبداد وفساد وغياب عقل.

كتب الدكتور الطويل وثيقة بنقاط محددة لتسوية تاريخية (مؤرخة في 2011/8/8 ) وعرضها على نخبة واستشارات أن يقوم الاستاذ الراحل بإدارتها وقيادة العمل على انقاذ الشعب والوطن، في سورية، لما يعرفه بشخصيته وقدرته، ومكانته وخطوه، ولما يدركه من اهوال ما كان متوقعا أن يجري ومن هوس عارم لدى من كانوا ومازالوا سببا في كل الكارثة الجاثمة.

وافق الراحل وناقش المحتوى وهيا الصورة التي يمكن أن تسير عليها امورها. وصارت تحركات ونداءات وردود فعل مختلفة، لم تفتح السبل أمامها، كما كان مخططا او نُصب أمامها ما يوقفها ويؤجلها، لكن المهم أن الراحل تنكب لها، واستجاب. وهي سجية محمودة له مضافة او نابعة منه ومن شخصيته بلا حواجز او رهانات. وبرحيله وامثاله، طالت الليلة الظلماء وافتقد البدر او البدور فيها بعد. او كما كتب الطويل في عنوان نعيه له، يتم أمة.

 

كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم