صحيفة المثقف

حوار ميتافيزيقي في زمن أجوف..

-  هل تراه وهو ممدد هناك تحت الشجرة حيث الظل الوارف؟

-  نعم مررت به ورأيته مستلقيًا .. ربما هي قيلولته المعتادة .

-  وهل رأيته من قبل على تلك الشاكلة التي يبدو فيها؟

- آآآه .. أحيانًا أراه يلف ويدور، ويدور ويلف حول المكان، وخاصة تلك الشجرة القريبة من سياج المدرسة .

-  قلت المدرسة؟ وما القصد من تجواله هناك، ثم يستقر به المقام تحت الشجرة؟

-  لا أعرف ..!! وكما تراه الآن مستلقيًا في قيلولته .

-  هل أحسست إنه يتنفس؟

-  وماذا تعني بذلك؟

-  لآشيء، لآ أحد يقترب منه، والكل يحبونه .. إنه لم يؤذي أحدًا .. دعه يرتاح؟

-  وماذا فعل ليرتاح أيها السيد؟

-  الكل يفعل شيئًا أو لا يفعل، وكل هذا فعل في ذاته .. ألا ترى حين تنام ترى نفسك تفعل وكأنك في اليقظة، تغط في الـ(ماورائيات) وتدلف في صور وأحلام وأقاويل وجدالات، ونزعات ورغبات جائعة وأخرى جامحة .. إنها أفعال حتى وإن لم تفعلها، ولكنك تفعلها في نومك .

-  دعنا من ذلك .. ولكن قل لي كيف يعتاش ذاك النائم تحت الشجرة؟

- لا أدري، أحيانًا يغيب عن الأنظار فترة ليظهر فجأة قرب الشجرة القريبة من السياج.. ولكن في أي حال، هو لا يغيب طويلاً بضع دقائق ويعود .

-  قالوا أنهم  رأوه يعبر السياج .. بربك ماذا كان يفعل؟ هل تعلم أن لا أحد من تلاميذ المدرسة في باحاتها وصفوفها .. العطلة الصيفية، ومع ذلك فهو يغامر بالذهاب إلى ما وراء السياج .. شيء مريب، ماذا يفعل هناك. وقالوا أيضًا إنه سرعان ما يعود ليستلقي تحت الشجرة.

-  كيف لي أن أعرف، وأنا لم أسمع من أحد أنه يفعل ذلك، إنما أراه يلتف حول نفسه وينام .. وعلى الرغم من الضجيج فهو ينام بثقة كاملة .. أعتقد أنه لم يشعر بالقلق ولا بالغثيان .. ولكن، تمهل، نعم، إنه حين يستيقظ يظل يحدق نحو الأعلى، رأيته يحدق طويلاً نحو السياج وأغصان الشجرة .

-  هذا صحيح، حين يستلقي يحدق في الأعلى، ما المشكلة في هذا؟

-  دعنا من كل هذه التساؤلات المريبة .. وقبل أن يكمل ...

-  توقف، لماذا مريبة، وهل ترى أنها مريبة حقًا، ولماذا الريبة أيها المتحذلق؟

-  لقد أكثرت في الحديث عن هذا النائم، ما الأمر الذي يضعك في دائرة الشك؟ ثم لماذا تراقب الخارج بأهتمام مبالغ فيه لحد القرف؟ هل أنت مسؤول عما يحصل في الخارج أم إنك مسؤول تجاه نفسك وأمام الآخرين؟ أم إنك تريد أن تطلق العنان لنفسك دون أن يحاسبك أحد؟، توقف، لم أكمل حديثي معك توقف أيها المراقب.!!

- هل تراه الآن كما هو .. قل لي هل هو طيب أم تتمثله نوازع مختلفة قد تقوده إلى الشر؟

-  لماذا أنت تفكر هكذا؟ ما الذي عرفته عنه بحق السماء؟

-  لا لا لم أعرف عنه شيئًا، ولكن الذي أعرفه أن الأنسان يولد وهو (طيب وبريئ ووديع بالفطرة ومعه الخير)، ثم يكتسب تدريجيًا طباع الآخرين في الطمع والجشع والنفاق والرغبة في الأستحواذ وحتى القتل، فتتمكن منه نوازع الشر وتتلبسه الشرور.

-  إنك تريد أن تقول لي، إن كل الناس يولدون طيبين أبرياء ثم يصبحون بعد ذلك مجرمين؟ هذا ما أردت قوله؟ وهل أنت الآن مجرم وقد أكتسبت ما أكتسبت من حولك؟ وهل أكتسبت نزعة إجرامية من محيطك؟، لا يا رجل، هذا الكلام هو منحرف تمامًا .. فالأنسان في جوهره تتنازعه كفتان هما الخير والشر ولديه العقل أن يحكم بينهما وهو قادر على ذلك .. دعه وشأنه ينام كما يحلو له بسلام .. ربما إذا شعر بأنك تستفزه ستوقظ في أعماقه نزعة الأرتياب والشك، نزعة الدفاع عن النفس.!!

 ما عادت الساحة تحتمل شخصيتين أحدهما يشعر بالمسؤولية والأخر يعيش اللآإلتزام إلا من نفسه المهووسة بالخارج الذي يعج بالحركة التي لن تتوقف ولن تنتهي وهو يصر على أن يظل يراقب.!!

هبط الليل ثقيلا، وبدى الضوء باهتًا من وراء ستائر النوافذ .. وحركة العصافير أخذت طريقها إلى أعشاشها، والعائدون إلى بيوتهم يحملون معهم هموم النهار، وقطيع من زاغ أسود يتسارع في الرحيل ومأذنة الحي أخذت تصدح الله أكبر .. في هذا الوقت أقفل عائدًا الى البيت .

تململ وتقلب في مكانه، ثم تثائب وحاول أن يقف ولكنه لم يستطع وشعر بالتثاقل، ثقل حركته تمامًا.. إنه لم يعد قادرًا على الحركة .. فهو لا يشكو شيئًا يعيقه سوى أنه لا يشعر بأنه قادرًا على النهوض طالما أن شعوره يقوده إلى أن يتكور ثانية لينام .. ولكنه لم يستطع طالما أن إحساسه بالعجز يقوده إلى ذلك .. لقد بات مرهقًا من هذا الشعور، ليس ذلك فحسب، إنما بات شعوره المرهق أكثر بكثير مما هو قادرًا على إحتماله، حتى أن تفكيره لم يعد يتجاوز تلك الدائرة المقيتة المشبعة بالغثيان .

عاد إلى نفسه ليتحدث، إنه يستطيع أن يمشي ويتحرك .. يستطيع أن يكون خارج السياج وهو لم يغادر مكانه .. تخيل أن ذاك الطائر الجاثم على السياج بين شدقيه .. إنها مجرد صورة لم تكن واقعية ولكنها قد تصير .. والمشكل يكمن ليس في الواقعي المادي الماثل إنما في المتصور الذي قد يكون لآواقعيًا، بمعنى التضخيم والأستحالة في أن يتحول إلى واقع عملي ملموس أو أنه صورة مجردة لا تبتعد عن إنعكاسات الرغبة .

جائته وهي تموء وتلتف حوله بغنج فاضح وتمسح فروها النظيف الرائع بلون الرصاص جسده المتكور .. عندها فتح نصف عينيه ووقف على رجليه وسارا معًا ثم قفزا على السياج وغابا وراءه .!!

 

د. جودت العاني

16 / 03 / 2017

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم