صحيفة المثقف

أغبياء حسن العاني

بأسلوب سردي سلس ولغة جميلة، وانتقالات زمانية ومكانية هادئة، يقدم لنا (حسن العاني) في روايته (الولد الغبي)، موضوع كل العراقيين الذي عايشناه ودفعنا ثمنه باهظا بوجوه متعددة، في سلسلة معاناة متفرقة الوجوه ولازلنا نكابد فصول شتى من فصول هذا الموضوع وهذا السلوك وهذه العقلية التي شكلت ثقافة نعدها بائدة ولكنها تجذرت وترسخت في سلوكياتنا وعقلياتنا مع تعاقب الفصول واختلاف الوجوه ووجدت متنفسات لنموها بصفات مختلفة .

في هذه المرة، يقدم لنا حسن العاني في روايته الجميلة (الولد الغبي) هذا الموضوع من نقطة أكثر قربا وزاوية أكثر تماسا بحيث يشعرنا الكاتب بأنه هو السارد نفسه (شخصية الرواية) وينقلنا معه من فصل الى فصل بهدوء وعناية تتصف بالمتعة والتشويق .

(الولد الغبي) نص روائي ويحتمل تسميتة بالقصة الطويلة، فهي ذات شخصية رئيسية أو (محورية) واحدة تتفرع منها عدد من الشخصيات الملحقة أو الثانوية ضمن الفضاء الذي رسمه الكاتب لهذه الشخصية ومايحيط ويتعلق بأهتمامها .

وقد تمثل اسلوب السرد بالسرد الآني لأحداث قائمة يتبعها سرد لاحق لتفاصيل مركزة تتعلق بتكملة الصورة السردية وتكملة جوانب الموضوع الذي سعى الكاتب الى تدوينه .

الحكاية تتلخص بمسيرة شاب رياضي ماهر يتنقل في سلسلة من النجاحات التي تسلط الضوء عليه، فيحتضنه الباشا (الزعيم) لتوظيف مهارته بما ينسجم مع عقليته المريضة، ويغدق عليه من أجل فرض وصايا سلطته ونفوذه وأمراضه العقلية والسلوكية من خلاله، فيكتشف هذا الفتى بعد وقت طويل من الأنجراف معه وبعد ان يلحق به الأذى ويكتوي مباشرة بشظايا سلوك (سالم الغني – الباشا) وبعد خسارات كبيرة التاريخ المزيف الذي يختبىء وراء تلك السلطة :(أي زمن هذا يحكمه الكلاب والقتلة ص21) .

تضمنت الرواية عدد من الشخصيات التي تتقلد أدوار مختلفة في لجة الصراع هذه (والده سلمان الصالح – سعيد الكاتب – والدته – الغريب – عبد المجيد الراعي – امام المسجد – خالدة السيد – سارة الأجنبية وعائلتها – رشاد توفيق – وبعض الشخصيات الهامشية الأخرى) .

عكست لنا الرواية واقعا مؤلما عايشناه جميعا، تمثل في أبسط معانيه بمحاولات محو شخصية الأفراد والمجتمع وتحويلهم الى مجرد دفوف خلف (الباشا) ومجرد بيادق تلعب بها أصابعه حسب مشيئته واهوائه المريضة، يقودها الى التكريم والحفاوة، أو الى الأهانة والأذلال، أو الى المحو والتضييع . وشخصية الباشا تحمل خلف ظهرها ماض مثير للجدل، ولكن تثبت عليه طبيعته الجرمية وينكشف قناع الحرص على المدينة والغرض من محو القرية وتحويلها الى مدينة وفق مبتغاه :

(حكاية سالم الغني الذي قتل الغريب ص16)

(ليس لأنهم ابناء بالفطرة، أو لأن حمورابي فتح لهم المدارس، انما أنا، أعني الذي استأصلت روح القرية من أعماقهم ص19)

(ان ضحاياه هم أكثر الناس وفاء له ص24)

(لقد اشترى المدرسة والملعب الرياضي وحديقة المدينة والمكتبة والمتاجر واشترى قبلها مخفر الشرطة فلماذا تعتقد انه لايستطيع شراء المسجد ص26)

(كيف لاتكون صلاة الباشا هكذا وهو يشبه الملائكة ص33)

(ان رجلا اشترى براءتك، سيطرحك ذات يوم في باحة قصره عاريا ص48)

(خداع الفريق المقابل والأنقضاض مثل الصقر والأنفراد بحارس

المرمى ص56)

(التهمة الموجهة لنا هي تحريض الناس على الوالي ص58)

(وذلك سيؤدي الى حدوث ثغرة أو خدش يمس رمزا من رموز

المدينة ص122)

(خالدة السيد التي وصفها امام المسجد انها من اصفياء الله ص145)

(وكنت في الحقيقة أتلهف رغبة للأعتذار وطلب الصفح منه فقد كان . . ولكنني لم أكن ص146)

ان الأحداث المسرودة في رواية (الولد الغبي) تشي بواقع تم زعزعته بفعل الترهات السلطوية أدى الى فرض ورسم واقع جديد يبرز فيه القتلة والمنافقين والمتملقين وعديمي الكرامة والمروءة وعديمي القيم من سياسيين وأصحاب اختصاصات ورجال دين، ويتخلف فيه ويتدهور أصحاب القيم والتاريخ الكريم المشرف وذوي الضمير . وقد حفلت الرواية بالعديد من المحتويات الدالة وتمكنت بسهولة من تسليط الضوء على مضمونها هذا وبأسلوب سلس محبوك في انتقالاته وفي استحضار أحداثه القصصية الآنية والسابقة وبث وجهة نظر الكاتب من خلال حركة الشخوص وسلوكياتها ضمن هذا الفضاء . وقد أدى الكاتب وظيفة السارد بمهارة جعلتنا نشعر بقربنا من الأحداث ومعايشتنا لها، وتمكن الكاتب من ابعادنا عن الشعور بأن هذا النص مجرد انعكاس بسيط لظرف وواقع زماني ومكاني، فقد تصرف الكاتب وفق تصور جمالي كان مناسبا لتنظيم مقاطع وأحداث النص، فقد انتقى استهلال الرواية ومدخلها بشكل جميل، وقد كان الراوي هو بطل السرد وقادنا بعناية بين الأحداث الآنية والأحداث الماضية (اللواحق) ونسق بينها بشكل جيد ساهم في تمتين بناءه القصصي . وقد تضمنت الرواية تغيير وتواتر في المشاهد ساهم بتطور أحداثها وساهم بخلق التشويق المطلوب للمتلقي . وقد أعجبتني الصفحات الأخيرة من الرواية كثيرا فقد امتازت بشحنة عالية من التركيز والتكثيف والأختصار لمجمل محطات الفتى (ابن الصالح - الشخصية الرئيسية في الرواية) الحياتية وتشعباتها التي على قلة عددها منحت الصورة القصصية وموضوع القصة غنى وكثافة وأطرته ضمن فكرة الكاتب وموضوعه، فهذا العدد وهذه الشريحة النموذج (لمجتمع اكتشف ولازال يكتشف مقدار الغباء المترسب لديه أو المفروض عليه)، وهو ماسعى حسن العاني بهدوء وعناية الى ايصالنا اليه .

 

كريم عبدالله هاشم

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم