صحيفة المثقف

الرؤيا الجمالية في شعر بشرى البستاني (4)

4- التأمل الجمالي: لاشك في أن من منابع الإثارة الشعرية التأمل الجمالي، وهذا التأمل الجمالي هو الذي يصنع الفن، ويختار السبل المؤدية إلى ذلك، ولا ينتج الفن إلا عن طريق هذه الحاسة الجمالية التي تختار الشكل الأسلوبي أو الفني المميز، لنقل الرؤيا بإثارتها، ومنتهى لذتها الجمالية، ولا نبالغ إذا قلنا:

إن أية مقامرة جمالية رابحة- من منظورنا- ينبغي أن تكون قائمة على تأمل جمالي، وحساسية جمالية عالية، شديدة الوعي، والإدراك، والحساسية، لهذا، فإن الحدس أو الانفعال الجمالي وحده لا يصنع فناً جمالياً بحد ذاته؛ لهذا لا بد من تأمل جمالي أو لمسة فنية؛ وهذا ما يمنح المنتج الفني الرؤيا الفنية التي ترقى به إلى أوج الإجادة، والإشعاع الجمالي، وهذا يعني.. أن مبدأ الفن هو- من منظورنا- يكمن في التأمل الجمالي، والمعرفة الجمالية. في حين أن مبدأ الفن عند" ليبس" و" الوتز" و(كونسورت) يعني: "انعكاس مشاعري في الآخرين، وترديداً عاطفياً إزاء مشاعر الآخرين، والاشتراك في خاصية للأشياء، وإحياء عالم الأشياء الجامدة في نفسي، ويعني اندماجاً توافقياً بين العالم الخارجي والعالم الداخلي لي أنا، وتطابقاً ساحرياً، أو تصوفياً بين الأنا واللاأنا" (64) . وهذا يعني بالمفهوم الجمالي العام (التأمل) ، أو جمالية التأمل، ونعني بالتأمل الجمالي: التأمل الإبداعي الذي يستثير الرؤيا الجمالية والدفقة الإيحائية، أو الشرارة الإبداعية الخلاقة؛ وهذا ما استشفه الشاعر طالب هماش في قوله: " عالم الشعر لم يعد الآن عالماً أنيقاً مسترسلاً في سيرورة لغوية هادئة تبوح باللطائف في جو من الرقة، والغبطة، والشفافية. ولم يعد هذا الكائن الآتي بكل جماله من ينابيع الموسيقى القصية علة وجودنا، واستبصارنا لثقافة الجميل والماتع بل أصبح كائناً منطوياً على نفسه مثل منحوتة فقدت أمومتها، إنه صخر .. مضجر صخران لعبت بقيمه الفنية أنصاف المواهب وتركت في جسده المثخن بالجراح ندوباً لا تمحي. لذلك ليس غريباً في هذه الآونة أن ينزوي الشاعر الحقيقي خاف قواريره، ليتأمل كالسكران نبيذ الليل، وتلك الحقيقة المحتجبة في هذا السائل البرتقالي الشفاف. بينما يقرع الآخر على الآلات الإيقاعية الحديثة مالئاً الأرض ضجيجاً ونشازاً" (65) .

وهذا يعني أن الفنان المبدع أو الشاعر المبدع هو من يتأمل الأشياء تأملاً جمالياً وينزوي في محرابه التأملي، لإنتاج ما هو جمالي وفني ومتع، والفن الحقيقي هو ثمرة يانعة من ثمار التأمل والوعي الجمالي.

ويقول (بروست) : "لكي يكون تأمل الفنان خصباً، لا بد أن يرتبط بالفوران العاطفي، وفي مثل ذلك الارتباك بين [ ما هو واقعي وخيالي؛ أو ثابت وجدلي] يمنح من نفوسنا نصيباً هو الذي يمكننا من حصول ما نحصل عليه، ونقيض ما نحصل عليه مقدماً، وفي هذا نلاحظ أن بين إمكانية تلك الشيء واستحالة التملك أيضاً ... نلاحظ أنه توجد بينهما حدود، وفواصل متحركة" (66) .

ولهذا، تبدو مهمة الفن هي تخليق ما هو جدلي، أو عبثي تخليقاً يرقى به إلى حيز الجمع التام بين المتناقضات، لاكتشاف جوهر الوجود، وجدلية الحياة، يقول جان برتليمي: " لا ينبغي أن ننكر أن مهمة الفن تؤدي بصاحبها إلى أخطار أحياناً ما تكون شديدة، ومن هذه الأخطار مثلاً أن يترك الفنان نفسه تمتصه حياة ملموسة محسوسة، وعاطفية بدرجة يختفي معها في تلك الحياة" (67) . دون أن يعطي نفسه مجالاً للتأمل الجمالي؛ وهذا خطر على منتوج الفن، ومصدر جاذبيته، فالفن ليؤدي وظيفته الإبداعية ينبغي أن يؤطر وعياً جمالياً، أو إدراكاً رؤيوياً وجودية جديدة أن يمتص من رحيق الحياة، ويستجلي معالمها بحسه التأملي المرهف، وركيزته التخييلية العالية. ولهذا شدد (بروست) على مقولته التالية: " إن الفنان يرسل لكي يفعل، لا ليكون كائناً فحسب" (68) ، ولكي يحقق الفنان هدفه الفني ينبغي أن يؤدي فعلاً جمالياً، أوردة فعل جمالية تتبدى في منتجه الفني|، وبهذا المنحى المقارب يقول (بروست) : " أن ما يلزم من ثبات عزيمة، واكتمال عقل، وروح، وشجاعة، وجرأة؛ هدفها جميعاً أن يدافع عن بقاء موهبته ضد الآخرين، وضد نفسه، ولينقذ هذا النقاء من أي شيء قد يصيبه" (69) . ولهذا فإن الفنان مطالب- من منظورنا- أن يجانب الكمال الجمالي في منتوجه بما يدركه هو، ويؤسس له في منتجه الإبداعي، رغم أن الكمال ليس من صفة البشر إطلاقاً، وإنما من صفة الخالق وحده، يقول (برتليمي): " إن الفنان ينبغي أن يصبو إلى الكمال في عمله الفني، لكن هذا الكمال يتعلق بمقدار جودة عمله الفني لأنه هو ؛ وهو إذ يحقق هدفه في أعماله، فإنه ينفق فيها كل طاقاته، بحيث لا يتبقى لديه شيء ينفقه في تحقيق كماله الشخصي" (70) .

وبهذا التصور؛ فإن الفنان لا يسمو إلا بالارتقاء إلى محايثة الكمال في تأمله، وإحساسه الجمالي؛ وهذا هدف المبدع عامة، والشاعر تحديداً، أن يصبو بنا إلى الحالة الشعرية، أو أن يرتقي بنا عبر تأملاته الحسية إلى آفاق الشعرية، وعوالمها المبتكرة؛ وهذا ما صرح به (برتليمي) في قوله: " فالشاعر يرمي من هدفه التأملي، الارتقاء بنا إلى الحالة الشعرية، عبر التحويل السحري للألفاظ، ذلك التحويل الذي ينقل به شيئاً من تجربته هو؛ لنذهب به من نفسه العميقة إلى نفوسنا" (71) .

وبهذا تتوحد الذوات المتلقية بالذات المبدعة، وتنصهر في تجربة الشاعر ذاته، إلى تجربتنا الداخلية، وكأنه الناطق الشعوري بلسان حالنا الداخلي، بما كنا عاجزين عن الإدلاء به، أو التصريح به جمالياً, وهذا هو فعل الفن الحقيقي، بل هو فعل الإبداع الجوهري، وحصيلة عطائه المثمرة.

ومن يدقق في تجربة الشاعرة بشرى البستاني يدرك عمق تأملاتها الجمالية، والفكر الجمالي الذي تشتغل عليه، مما يدل على شعرية بالغة الاستثارة والتأثير؛ لاسيما في شطحاتها الصوفية، وصورها الملتهبة دلالة وعمقاً وإيحاء، وكأن في صورها الشعرية فيضاً من الرؤى والأحاسيس المصطرعة التي تشي بواقعها المأزوم، رغم تعلقها بالمطلق، ومحاربة السلب بالإيجاب، عبر شعرية اللغة، واللقطة الصوفية التي تعبر عن حرارة الموقف وعمق التأملات الجمالية المفتوحة، كما في قولها:

"حافية ومبلولة بالدمع

هذه الطفلة المربكة على بوابة المنفى

بقلائد تستحيل نداءً في أناملك

بجروح دجلة إذ تخبئ وجعي في ضماد الدخان

بجمرة حصاة في قلبي

وبلابل تهدم أعشاشها في دوالي الروح" (72) .

لابد من الإشارة بداية إلى أن الفعل الشعري الجمالي هو وليد إحساس جمالي وتأمل جمالي خلاق، فلا تنتج الرؤيا الجمالية إلا من مبدع خلاق يملك الحساسية والرؤيا والجمال؛ وهاهنا، نلحظ قوة المحفز الجمالي الذي تملكه الشاعرة وعمق منظورها الرؤيوي الفاعل؛ فهي تبني الرؤيا، وتستثير الموقف الصوفي لمواجهة السلب، وخلق المتغير الجمالي الذي يرقى بالحساسية الجمالية

إلى آفاق من التأمل والاستغراق الجمالي، كما في هذه الصور المفتوحة في رؤاها وعاطفتها وإحساسها الروحي، على شاكلة الصور التالية: [ تخبئ وجعي في ضماد الدخان/بجمرة حصاة في قلبي]؛واللافت أن محفزات الحدث الجمالي تتمفصل في الصورة البليغة التي ترقى بالمشهد الصوفي، لخلق الجاذبية الجمالية في هذا النسق أو ذاك، وهذا دليل مهارة وقوة في تجسيد الحدث الجمالي والارتقاء به عبر صيرورة الصور الصوفية المكثفة للمشهد الشعري المتقد جاذبية ورقة صوفية مطعمة برومانسية ساحرة غاية في التفعيل والفاعلية والاحتقان الرؤيوي العميق: [ بقلائد تستحيل نداءً في أناملك/ وبلابل تهدم أعشاشها في دوالي الروح]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الرؤيا في قصائد بشرى البستاني ترتكز على عمق التأملات التي تنتج الرؤى الفاعلة، والصور المبتكرة ذات الحساسية المتناهية في خلق الاستثارة والتأثير.

وقد تلجأ الشاعرة في تأملاتها إلى خلق نوع من التفاعل بين الرؤيا المجسدة، والحالة الشعرية، لتبئير الصور، وإنتااالج مؤثرها الجمالي الخلاق، كما في قولها:

"بين خطوتك وزندي

ثمة هديلٌ يتكسَّر

وبين ساعديك والهديلْ

أفقٌ من الصحارى

آهٍ، لو رأيتَ البحرَ... مرة" (73) .

إن القارئ هنا، لايخفى عليه عمق التأملات الجمالية، وبداعة ما تجسده في نسقها من حراك استعاري ملتهب بالدلالات الصوفية التي تبرق بوصفها دوالاً متحركة، تبث عمق الإحساس، ودهشة الصورة في نسقها الجمالي، وهذا يعني أن ثمة مرتكزات جمالية تخلقها في صورها وتراكيبها الشعرية لإثارة اللذة والمتعة الجمالية في قصائدها: [ثمة هديلٌ يتكسَّر/وبين ساعديك والهديلْ /أفقٌ من الصحارى]؛ وهذا يعني أن فواعل الرؤيا الجمالية في قصائد بشرى البستاني تتمفصل على الحدث البليغ والمشهد الجمالي الخلاق، مما يدل على مرجعية جمالية في اختيار النسق المؤثر، الذي يصيب الرؤيا من الصميم، لاسيما في الأنساق المبتكرة التي تصف لواعج الذات، واحتراقها وتأملاتها المفتوحة.

وتأسيساً على ما تقدم يمكن القول: إن فواعل الرؤيا الجمالية تتطلب وعياً جمالياً وتأملات وجدية مفتوحة، جسدتها الشاعرة بعمق في قصائدها، لخلق اللذة والمتعة الجمالية في تشكيل القصيدة لديها، مما يدل على حنكة معرفية جسدت وعيها وإدراكها الجمالي بوصفها ناقدة وشاعرة، وهذا ما هيأ لقصائدها العمق والفاعلية وشدة الإيحاء؛ وهذا ما يحسب لقصائدها على الصعيد الإبداعي.

5- السر الجمالي:

لاشك في أن لكل تجربة إبداعية سحرها الجمالي، وسرها الإبداعي الذي تنطوي عليه، وهذا السر الجمالي هو الذي يبين مفتاح النصوص الإبداعية جمالياً؛ولهذا لا يمكن كشف مصدر جمالية أي منتج فني بمعزل عن إدراك محتواه الجمالي، وسره الإبداعي الذي ينطوي عليه، والقيمة الجمالية العليا التي استحوذها حتى حقق نصيبه من الإبداع، والخلق، والتميز. ولا نبالغ في قولنا:

إن لكل منتج إبداعي مؤثر سراً جمالياً ينطوي عليه، أو لنقل: سراً جمالياً يبقى متخفياً عنا، ونلهث وراءه بغية تحصيله والتقاطه، ولن نحصله أو ندركه إطلاقاً، لأن هذا السر إذا ما عرف أو كشف مات الفن ومات جوهره الوجودي الأصيل، فالفن هو هذا العلم المتخفي فينا الذي يسكننا ولا نعيه، ويرتئينا ولا نرتئيه، إنه صوتنا الأزلي المبحوح منذ لحظة وجودنا الأزلية في عالم الذر، وهذا السر هو صوت الفن الذي يقول عنه عالم الجمال (سوريو) : " هذا هو السر الذي يوحي الفن بوجوده في أرفع الأعمال الفنية.. سر يدل على طريقة ما للوجود، بحيث لا يترك لنا فرصة للتساؤل عن سببه، أو علته" (74) .وتأسيساً على هذا؛ فإن سر الفنون يكمن في طريقة إبداعها، وسر إبداعها يكمن في رؤيتها، وتحليقها جمالياً، وبهذا الشأن يقول (سوريو): " وبالقدر الذي ينتج به العمل الفني تصبح أدق دقائقه مقدسة ضرورية، وهذا هو السر الإبداعي الجمالي.. إذ من الممكن أن نبتر من الإنسان عضواً دون أن نقتله، لكن ليس من الممكن أن نبتر مقطعاً واحداً من بيت شعر جميل دون أن نهديه" (75) .

وهذا هو السر في عملية الإبداع الفني، أن المبدع يقامر جمالياً بكل ما يمنح منتجه الفني تكاملاً جمالياً يصل حد الإعجاز، أو الإدهاش الجمالي؛ لهذا لا يمكن حذف لبنة واحدة من لبنات الإبداع الفني، لأن هذا البناء سيتهدم وينهار لا محالة، ويفقد خاصيته الفنية، وخصوبته الجمالية؛ فغنى الفنون في تكاملها وهندسة بنائها، والشعور الخفي الذي تولده فينا؛ لهذا نوافق القائل: " إن الفن يبعث فينا شعوراً بحالة من الوجود، تتعدى ما تتضمنه الطبيعة بسبب السمو الذي يشوبه.. لأنه بصفته عملاً فنياً يحتاج إلينا لكي يتم وجوده، أي يتم " حقيقته" (76) .

وهذا يعني أن المنتج الفني لا يكتمل سره الجمالي إلا بنشاط المتلقي وموهبته في ترجمة ما في مخزون هذا المنتج من مثيرات تغنيه وتغذيه إيحاءً، وجاذبية، وإشعاعاً جمالياً على الدوام. يقول الناقد الجمالي (جيلمون): " إن العمل الجمالي لا يوجد جمالياً إذا لم يكن موضوع تجربة جمالية... فكما يكون من الحق القول بأن أجمل لوحة في العالم لا توجد إلا على حساب الذي يتأملها" (77) .

وبهذا يولي (جيليمون) المتلقي السر الجمالي في إضفاء اللذة الجمالية على المنتج الفني، شأنه في ذلك شأن عالم الجمال (سوريو) الذي يقول: " إن العمل الفني- رغم وجوده الرفيع- ليس بكائن قائم دائم فالعمل الفني لا يتم خلقه إلا لكي يخلق من جديد، ولا يبقى قائماً في ذاته إلا لكي يتجدد دائماً وأبداً بالنسبة للمادة البشرية " (78) .

وبهذا المنظور الجمالي، والحس الفني يتجدد المنتج الإبداعي بفضل التظليلات الإيحائية التي يضفيها المتلقي على المنتج الإبداعي، رافعاً رؤيته الفنية، وبناء على هذا، تتأكد مقولة (شيللنج) الجمالية بالطابع الجمالي للفن؛ إذ يقول: " بعد أن يعطي الفن للأشياء الصفة التي تطبعها بالطابع الفردي، يقوم بخطوة أخرى فيعطيها الرشاقة التي تجعلها محببة بأن يجعلها تلوح كما لو كانت تحب، وفيما بعد هذه الدرجة الثانية لا تبقى إلا خطوة ثالثة تعدلها الثانية وتوضحها مقدماً، وهي أن تعطي للأشياء روحاً بفضلها لا تكتفي بأن تلوح كما لو كانت تحب، بل إنها تحب فعلاً، وهذه هي الدرجة التي لن يصل إليها الفن" (79) .

فالسر الجمالي إن لم يصلك إلى الخلق الجمالي فلا قيمة له؛ إن لم يقدك إلى الفن الجمالي، والخلق الإبداعي الجمالي الذي يحرك الأشياء، ويمنحها المتعة، بالتأكيد، فإنه لا قيمة له.

وما ينبغي التأكيد عليه: أن سر نجاح المقامرة الجمالية تكمن في السر الجمالي الذي يحتفظ به، أو السر الجمالي الذي يختزنه في منتوجه الفني، ولا ترقى المقامرة الجمالية إلى منظارها الفني المغامر إن لم نحرك المشاعر، وتلهب الأحاسيس، وتخلق صداماً بينها وبين القارئ في الرؤى والمفاهيم، والمحفزات، والإدراكات، لخلخلة توقعه، وجذبه بالمفهوم المضاد أو المفهوم المعكوس لحركة الأشياء، وهذا ما يجعل المنتوج الفني في حراك دائم، واستدعاء العواطف الجارفة المختلفة إزاءه، وأكثر ما تنعكس المقامرة الجمالية في الفن الشعري الممتع، والمكثف بمعطياته الفنية والجمالية؛ ودليلنا أن الشعر يقامر أحياناً باللغة الشائعة بضخ دماء جديدة إلى بنية القصيدة، وهذا ما ألمح إليه عالم الجمال (آلان) : " أما الشاعر فهو يعبر في اللغة الشائعة عن عواطفنا الحارقة نفسها، حين ينظمها في نفس الوقت، وهكذا، تصبح عواطفنا الجارفة شيئاً، ومنظراً بفضل الشعر، حيث نقترب من فقدان الأمل والغضب والحب الذي يفقد الإنسان وعيه، ونميل إلى أعلى؛ ولكننا لا نسقط، وحيث إن آلامنا تظل على مسافة بعيدة، وكما لو كانت غريبة عنا فإننا لا نستبدلها بنوع من الجلالة، كما فعل (جوييتر) على قمة إبدا" (80) .

وهذا يعني أن السر الإبداعي أو الجمالي هو سمة أي منتج إبداعي مؤثر، وأي مقامرة جمالية ناجحة، في الفنون كلها قاطبة، وتبعاً لهذا، ترى الناقد والشاعرة الفذة بشرى البستاني أن بناء القصيدة جمالياً ينبني على سر جمالي ينظم محاورها بكليتها وأجزائها؛ وهذا ما صرحت به قائلة: " القصيدة الجيدة هي قصيدة مثيرة لكليتها وليس بأجزائها، لأن الإيقاع يتطلب تركيب، ويولد دلالة، والدلالة تتطلب إيقاعاً معيناً، وكلاهما يتواشجان من أجل تأسيس المعنى، فما يمتاز به الشعر العربي، من العصر الجاهلي وحتى اليوم أنه شعر، يؤسس القيمة، ويرسخ فعل المعنى، وكذلك شأن كل أدب عالمي أصيل.

فبدون هذا التأسيس يتحول الأدب إلى عبث لا طائل من ورائه ولا هدف، وهذه السمة هي التي وسمت الشعر العربي عبر العصور حتى وصلنا عارماً ومفعماً بالدهشة، نقرأه فتلاشى الأزمان، والأجيال والقرون، حتى كأنه قد كتب لنا من أجل التعبير عن مشاعرنا، ونتأمله فيلامس أرواحنا، ويملؤها نشوة سماوية وسحراً من عبير..

وما يلاحظ على إيقاع قصائدي أنها تشتغل بزمنية عارمة لا مجال فيها للاستسلام ولا المهادنة. وحتى حين تصاب من شدة الوهن فإنها ما تلبث أن تعاود عنفوانها من جديد، وإذا كانت محنة الإنسان في زمنيته الملاحقة بالموت والفقد والعدوان والغياب، فإن هذا الإيقاع المطعم بالحياة إيقاع يقاوم الاغتراب والفقد، والوحشة، ويحرض على التواصل، ودحض القطيعة من أجل إحداث الأثر الذي يؤشر الحضور ويصر على التحقق بالرغم من تمكن عوامل السلب والاغتراب والتغييب في حياتنا المعاصرة" (81) .

إن ما أدلت به الناقدة المبدعة بشرى البستاني، تضعنا على محطة الرؤية الجمالية في السر الإبداعي وراء كتابة قصائدها، ووراء الكتابة الإبداعية عموماً، والتأسيس الجمالي لها، فالقصيدة الجيدة هي التي تملك خصيصة التكامل الجمالي، ابتداءً من أدنى جزئياتها إلى أعلاها، وهذا يعني أن سر جمالها في منتوجها التكاملي الفني، وسحرها الإيقاعي، وتأسيساً على هذا، نخلص إلى حقيقة مؤداها؛ وهي أن الفن الإبداعي الجمالي المثير هو الذي يحقق مقامرته الإبداعية، بسر جمالي لا يتفتق بشكل كامل إلا بعد طول مران، ودربة في تلقيه الجمالي أو الفني الفاعل.

ووفق هذا التصور؛ فإن غنى النصوص الإبداعية لا يتم بفواعله الرؤيوية إلا عندما يتم الكشف عن سره الإبداعي، ومضمراته الفاعلة التي تؤسس مرجعيته الجمالية الخلاقة، وهذا يعني أن السر الجمالي الذي تنطوي عليه النصوص الشعرية يتعلق بالرؤيا الشعرية وفواعلها المؤثرة في النص الشعري.

ومن يدقق في تجربة الشاعرة بشرى البستاني يلحظ غناها بالمثيرات الجمالية، وارتكاز نصوصها على بريقها وسرها الجمالي الفعال، ولهذا لايمكن أن تحقق القصيدة لديها فاعليتها بالمعنى الدقيق للكلمة إلا من خلال الكشف عن سرها الجمالي ومحورها الارتكازي الذي ارتكزت عليه في تحقيق جماليتها ومصدر إبداعها الخلاق.

وإن قارئ قصائد بشرى البستاني في ديوانها الموسوم ب (البسي شالك الأخضر وتعالي) يدرك أن هذه القصائد تنطوي على سرها الإبداعي المميز؛ فهي ليست قصائد وصفية أو بوحية ذاتية كما قد يظهر للبعض، إنها تتنفس إبداعها من خلية رؤيتها الحية التي تشي بفواعلها الرؤيوية الكاشفة، ومنظارها العميق، لاسيما في بثها لمظاهر الحنين والشوق إلى الأيام الماضي التي تحلو فيها في ظل وطنها الجريح العراق، ليعود منتشياً كما كان في الزمن القديم؛ وهذا يعني أن هذه القصائد أشبه ما تكون بمواويل جريحة في حب العراق، والتصوف في حبه، بلغة صوفية تؤثث لما هو جمالي، وتخلق متغيرها الإبداعي الخلاق من صورها الملتهبة بالشوق والهيام والتصوف المطلق، كما في قولها:

" لا يتعبني ألا تأبه بأسئلتي

متمنّعا بغلائل العتمة

فذلك ما يُبقيك في فضاء تأويلي

ويفتح لي نوافذَ أجوبةٍ مشاكسة..

**

لا يتعبني أن تغيب طويلا

مادمنا نتهجى حروفَ غيابكَ معاً:

أنا وعصافيرُ حديقتي

ولوعاتُ قصائدي

وأعمدة سريري..

وكؤوسُ الخمرة المترعة بانتظاركْ.." (82) .

لابد من الإشارة إلى أن السر الجمالي في تشكيل القصيدة عند بشرى البستاني يتأسس على بلاغة الرؤيا، ومؤثرها التركيبي الذي يستند على الأنساق التصويرية المبتكرة ودلالاتها العميقة التي تخفي درجة من التكثيف، والفاعلية، والإيحاء، وعمق التأثير. وهاهنا، بدت القصيدة ملتهبة بصورها الصوفية الفياضة التي تتقطر رقة ولذة وإثارة جمالية، كما في النسق التالي: [ غلائل العتمة=فضاء تأويلي= نوافذ أجوبة مشاكسة = لوعات قصائدي = كؤوس الخمرة المترعة بانتظارك]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الأنساق تتبدى من خلال السر الجمالي الذي يربط هذه الانتهاكات أو الاختراقات اللغوية في نسق النص، وإيقاعه الدلالي؛ مما يدل على شعرية في التقاط الصور الوجدية التي تفيض بدلالاتها العذبة، ومعانيها الشائقة في الدلالة على اللوعة والوله والتصوف المطلق.

ولاتكتفي الشاعرة بتصوير الحالة تصويراً ينم على سرها الإبداعي الذي تشي به، وإنما تتغلغل في مسار الرؤيا، لتكشف محرضها الإبداعي الدفاق بالحساسية والرؤيا والجمال على شاكلة قولها:

"لا يحزنني أن تحاول إطفاء غيمي

لأني سأرث بك الجنان وما عليها

وسأضمُّ فوح طفولتك الشقية

رافلةً بضوء زندي..

لاهيةً ببلابل حزني..

أنا... تاج الخليقة يا سيدي" (83) .

إن بلاغة الأنساق التصويرية وفاعليتها المثيرة في التقاط المشهد المؤثر جمالياً هو ما يحقق للقصيدة منتهى غايتها الإبداعية، وهنا بدت الأنساق متفاعلة في إظهار الحرفنة الجمالية عبر الاستعارات الفياضة بمشاعرها وأحاسيسها المتقدة، وكأن وقع الحالة واحتدامها قد فرضت نفسها على القارئ، ليعيش التجربة بكامل حرقتها، وولعها، وتوقها الوهاج، وإحساسها الفياض، على شاكلة الأنساق التصويرية الملتهبة بإيحاءاتها، ومشاعرها المحمومة، كما في الأنساق التالية: [إطفاء غيمي= طفولتك الشقية=ضوء زندي= بلابل حزني]؛ وهذا يؤكد فاعلية الأنساق في التعبير عن الحرفنة الجمالية، وما تحمله من إيقاعات ومؤثرات جمالية ترتكز إليها، لبث حالتها الوجدية وحرقتها الصوفية، وكأن شيئاً من الصبابة الروحية تدفعها إلى اختيار هذه الأنساق المتحركة برؤاها ومؤشراتها الوجدية الفعالة، لتشي بحنكتها، وسرها الإبداعي الفعال.

وقد تتأسس الكثير من قصائد هذه المجموعة على سر جمالي يبدو من مطالعتنا الأولى لها، تدليلاً على ارتباطه مباشرة برؤيا القصيدة، ومؤشراتها الدلالية المحرضة للرؤيا، والباعثة لمصادرها الجمالية وقيمها الفنية داخل المسار النصي، كما في قولها:

لا.....

لا تُعدْ لي بوصلة اتزاني،

فقد خامرني فرحٌ طفوليٌّ مذ فقدتها معك

حين صار الشوق يلاعبُ خصلات انتظاري،

وصارت اللحظات تنفرط عن بلابلَ ملونةٍ،

ونُدفٍ من الثلج" (84)

إن القارئ هنا لا يخفى عليه وميضها الجمالي وسرها الإبداعي الذي يرتبط بالصبابة والوله الروحي، وكأن شيئاً ما في داخلنا يتحرك منذ قراءتنا لها، وهي الشعور باللذة التي تعترينا من خلال الصور التي تفيض بدلالاتها ومؤثراتها الجمالية؛ أي كأن حالة من النشوة واللذة والسرور تحرك مشاعرنا صوب هذه الأنساق التي تثيرالقارئ، وتمنحه القشعريرة الجمالية، نظراً إلى ماتضمره من سحر روحاني جذاب في اختيارها وتشكيلها، كما في الأنساق التالية: [بوصلة اتزاني=فرح طفولي= خصلات انتظاري= صارت اللحظات تنفرط عن بلابل ملونة]؛ وهذا يدلنا على شعريتها وفاتعليتها الخلاقة في الاستثارة والتأثير، وبث الحالة الوجدية بكامل توقها وإحساسها المحموم.

وقد نلحظ في قصائدها هذه النبرة الجمالية التي تستقيها من إحساسها الروحي، وعمق الأثر الذي تركته الحالة الصوفية في نفسها حتى أثرت في تشكيل القصيدة، وتخليق رؤيتها البليغة، كما في قولها:

"لا تُعدْ لي بوصلة الأماكنْ

فهذا الضياع الأثيريُّ يُدخلني في النشوةْ

وإذ أضيعُ في الطريق إلى بيتي،

أشعرُ أنك معي،

تبحثُ لي عن الدرب في خرائط البلدانْ..

ضبّبْ الوعودَ والكلماتِ واللكماتِ والمنى

فألا نصل يعني الوصولَ ذاتَهْ،

ألا نصل يعني أننا منهمكون بالوجد،

وأنك ستأتي " (85)

إن الدهشة الجمالية في التقاط الحالة الوجدية، بكثافة شعورية، وإحساس جمالي يفتح بوابة الرؤيا على مصراعيها، وهي، هنا، تصور الحالة بتفاصيلها الوجودية، أي تبحث عن وجودها، وتسعى للوصول إلى ذروة الكمال، وقمة الحالة الوجدية التي ترومها في عالمها الوجودي المحترق حساسية ورؤيا، وهذا ما أشارت إليه بوضوح في قولها: [ فألا نصل يعني الوصولَ ذاتَهْ/ ألا نصل يعني أننا منهمكون بالوجد، وأنك ستأتي ]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الحالة تفرض نفسها على الشاعرة لإثارة القارئ، بمضمونها ومحتواها الجمالي، لذلك كثفت الرؤى والمداليل الفاعلة التي تحرك الشعرية، وتستثير قيمها الجمالية البليغة، وهذا ينم على شعرية بليغة وحساسية جمالية عالية المستوى تلتقط ما هو مثير، وتخلق منه رؤية فعالة في نسقها الشعري، وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي.

 

.......................

هوامش

(64) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال ص562.

 (65) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية (حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص225.

 (66) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 619.

 (67) المرجع نفسه، ص619.

 (68) المرجع نفسه، ص618.

 (69) المرجع نفسه، ص618.

 (70) المرجع نفسه، ص618.

 (71) المرجع نفسه، ص616.

 (72) البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر وتعالي، ص292.

 (73) المصدر نفسه، ص293.

 (74) المرجع نفسه، ص414.

 (75) المرجع نفسه، ص415.

 (76) المرجع نفسه، ص417.

 (77) المرجع نفسه، ص418.

 (78) المرجع نفسه، ص420.

 (79) المرجع نفسه، ص422.

 (80) المرجع نفسه، ص505.

 (81) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية (حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 375.

 (82) البستاني، بشرى، 2014- البسي شالك الأخضر، وتعالي، ص278.

 (83) المصدر نفسه، ص279.

 (84) المصدر نفسه، ص274.

 (85) المصدر نفسه، ص274-275.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم