صحيفة المثقف

الاجتياز بلا مجاز.. قراءة في نص: لا مستور لفاطمة نزال

لا مستور...

لا مستورَ بين طيّات الكلام

ابقُرْ بطن السّطرِ

ودع دمه يسيل على المجاز...

 

1.في بنية القول:

1.1

في هذا القول طلب مزدوج يتحقق بالجملتين الثانية والثالثة، وهو من حيث المنطق  نتيجة للقول الأول الذي يعتبر السبب والمبرر أو الضامن للوصل السببي بين القولين (الأول سببا والثاني والثالث نتيجة مزدوجة له)

1.2

يتقابل الخبر المنفي والطلب، ويتنزل الطلب منزلة الفعل المقتضى، بحكم انتفاء ما يمنعه، وهذا ما يجعله ممكنا أو واجبا وقوعه.

1.3

يخضع السلوك "اللغوي" المطلوب إلى قاعدة كونية أو موضع عام أو ما تعرضه الشاعرة كذلك. وهو ما يمكن أن يصاغ بحسب البنية التالية: "كلما انتفت ضوابط الطيّ، أمكن النشر.."

1.4

بنية القول الأول القائم مقام السبب أو المبرر أو الضامن للعبور، ثنائية يتفاعل فيها النفي والإثبات:

"لا مستورَ بين طيات الكلام"

وهو تقابل مدعوم معجميا (ستر/ طيّ) ومولد لتوتر دلالي حادّ (الستر وانتفاء الستر) ولا معنى للنفي دون رده إلى إثبات، إذ الأصل هو وجود "المستور"..وحين ينتفي جنسا، يصبح النفي ذاته مثارا لإشكال إدراكي يهمّ علاقة المتكلم بالعالم.

1.5

الكلام في القول الأول موسوم بسمتين تبدوان متنافرتين: انتفاء المستور والطيّ في طبقاته التي يشي بها جمع طيّة (طيّات)..

1.6

يأتي القول الثاني نتيجة دون رابط سببي ظاهر: (ف)ابقر بطن السطر..

وينتشر التقابل من خلال العلاقة بين الفعل ذي الدلالة الانتهاكية بل "الاغتيالية"(بقر) والمفعول وهو يتحول من معنى الاحتواء والامتلاء والحجب إلى معنى الانفتاح والانسياب والانكشاف..

1.7

وفي الجملة نرى المعوّل في بنية هذا القول على التقابل المعجمي الدلالي بين الستر والكشف وبين الاستبطان والاستظهار وبين الامتلاء والاستفراغ ، ويمكن أن نمد التقابل ليصبح بين الوجود (متعلقه المعنى) والانتفاء والانعدام (تعلّقا بموضوع المعنى بلا معنى ولا لغة..)

2.. في دلالة القول

2.1

لا مستور بين طيات الكلام

يتردد القول "السّبب" بين الخبرية والموضعية أي بين كونه خبرا أو إخبارا عن حال خاصة من أحوال العالم وموضعا أو وضعا "نظاميّا" يبرر به  ما يراد تبريره في مقامات تواصل محددة..

ويمكن أن نذهب في فهم القول إلى اعتباره "شعارا" أو طلبا في صيغة إثباتية يراد بها لا وصف حال بل إنشاء حال.. وفي ذلك ما فيه من التباس واشتباه وتردد للقول بين دلالات متباينة داخل كون دلالي غامض غموضا "طبيعيا"..

فالكلام، لسانيا، هو الوجه الفردي المنجَز للغة، في سياق تواصلي محكوم بقوانين متضافرة يتفاعل فيها اللساني والثقافي  والايديولوجي والنفسي والاجتماعي، لينشأ خطاب فردي يسمى "كلاما"..وما "طيات الكلام" إلا تلك الأبعاد والطبقات المشكلة له وهو يقال ليكون مطويا منطويا أي خفيّا غارقا مندفنا تحت طيات وطيات..فكيف لا يكون إلا مستورا؟؟

فأن يُنفى الستر، فهذا من معانيه أن لا يكون مستورا أصلا، وهوما يتنافى وطبيعة اللغة باعتبار أن ما وراءها أهم وأبلغ وأقرب إلى الحقيقة مما يظهر على سطحها ويتجلى في منطوقها، أو أن يراد للستر ألا يكون..وبهذا ندخل مجال الاختيار والإرادة، أي إرادة بناء خطاب شفّاف صريح جريء صادم فاضح كاشف مُعيّن لمراده الدلالي بلا تعريض ولا مواربة ولا مجاز..

ولئن بدا هذا التصور "سليما" في منطقه الخاص، فهو مستعص في منطق العلاقة بين الإنسان واللغة، غريب عن سيرورة التدلال في تعقيدها ورحلتها الضاربة في عمق الكهوف والمغاور الدلالية المفتوحة أبدا على أغوار أبعد وأعمق، بلا منتهى ولا مستقر، ولا معنى نهائيّ تطمئن له نفس الباحث عن المعنى..

ومهما تكن الإشكالات اللسانية والدلالية والفلسفية الحافّة بهذا القول، فهو ناطق برغبة أنطولوجية وتعلق بكينونة حرّة منعتقة من "قوانين" الدلالة ومستويات تشكّل المعنى.وتقترن هذه الرغبة بعزوف عن وضع تواصلي لغوي تليد متين منغرس في صميم التركيب الذهني الإنساني السجين داخل دائرة محكومة بقاعدة أن تقول شيئا وأنت تعني شيئا آخر قد تعلمه، وكثيرا ما لا تعلمه، لأنه منطو تحت طبقات وطبقات من اللاوعي و"الستر" المراد وغير المراد، فيحتال الخطاب ويتشكل وفق منطق معقد تتفاعل فيه إرادة البوح والاصطدام بموانع الكشف والاتكاء على "قواعد" المجاز والتعريض والترميز والإيحاء، في سيرورة متراوحة بين الإرادة واللاإرادة..

2.2

ولعل للقول بعدا آخر يتحدد ببنية المقام وتعيين المعنيّ بالقول باعتباره المنتج للمعنى والمؤوّل للكلام..وفي هذه العمليّة التأويلية ما فيها من اختلاف وتردد وتباين، فيتنزّل المؤولو ن منازل، بقدر ما يصيبون من المعنى، وما تبلغه معاولهم في حفرهم في سبيل بلوغ معين المعنى ونهاية الأرب، إمساكا بالقصد الخفيّ والمعنى الأبيّ والحقيقة المتوارية تحت طبقات التاريخ والثقافة والفنّ والقمع..

وبذلك يقول القائل ما يقول، ويبقى على المتلقّي أن يتحلى بالكفاءة المطلوبة كاشفا ما استتر وناشرا ما اختفى...وذاك هو القارئ المثالي أو الناقد كما ينبغي أن يكون..

2.3

وبناء على هذا المعطى المتين رغم التباس معانيه، يكتمل الخطاب في بنيته السببيّة، ليستوي قولا مثقلا بقوة إنشائية هائلة يراد بها أن يتحول الأثر من الاقتناع وانقياد النفس إلى العمل بمقتضى القول:

ابقُرْ بطن السطرِ

فينتشر المنطوق (الكلام) في المكتوب (السطر) وتتحدد العملية المطلوب إنجازها في كمالها الانتهاكيّ العنفيّ..وتتناسب عملية وعمليّة : الإبداع والقراءة أو النقد.وتقف الأولى عند الإنشاء وبناء المعنى وفق قواعد الكتابة تركيبا وتضمينا وتبطينا وإلغازا .ويكون على الثانية أن تكشف عن بناء المعنى وعن المعنى ذاته، فتهتك ما استتر وتكشف ما جاء متخفّيا، وتفرغ "البطن الملأى" ليرى العالم الحقيقة، أعظم حقيقة، حقيقة المعنى، حقيقة الإنسان..

2.4

وحين ينكشف المعنى، وهذا مشروع ورهين عمل ممكن في المستقبل، ينتفي المجاز باعتباره من إمكانات العبور إلى المعنى المراد، كما أقرّتها منظومة التعبير في مختلف مجالاته :

ودع دمه يسيل على المجاز

وتتكامل الصورتان (بقر البطن، سيلان الدم على المجاز) تكامل السبب والنتيجة (بقر سال) ليعلو المعنى على المجاز، وتنقلب العلاقة التراتبية، وبعد أن يحجب المجاز المعنى ويستره ويغمره ويجعله في حال امتلاء واحتواء داخل الكلام المنطوق أو المكتوب، يظهر هذا المعنى وينكشف صريحا جليّا كاملا كماله الأوّل..

2.5

ولم لا نقول إنّ المراد هنا هو قتل اللغة واغتيال المعنى باعتبارهما شيئا واحدا ووسيطا دلاليا بين المرء وموضوع رغبته، ولكن هذا الوسيط يتحول عائقا ومانعا لا خلاص منه إلا بالتحرر منه لبلوغ المرغوب ومعانقة المراد بلا وسائط ولا مجازات ولا لغة؟

وكذا قالت شاعرة أخرى في سياق قريب:

أحصيت جميع الكلمات

المنزاحة

عن كشف المعنى

كي أكشف كل مجازات

اللغة الأولى

كي أقرأ أسرارك

أكشف عن أيْني

أتجلى في الرحلة أيْنًا

فرأيتك في الصمت

فضاء

يمتد ليغتال المعنى

(بهيجة مصري إدلبي/سوريا)

 

الحبيب بالحاج سالم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم