صحيفة المثقف

قراءة في كتابين: كيف تشرح التقارير الامنية الخاصة التطورات السياسية في العراق؟ للفترة 1968-1958

khadom almosawiكُتب الكثير عن التطورات السياسية في فترة ما بعد ثورة تموز/ يوليو 1958 في العراق، ونشر في دراسات واطاريح وكتب ومقالات. كما ان الكثير من المذكرات الشخصية لشخصيات سياسية عراقية تناولت التطورات السياسية في تلك الفترة، لاسيما لمن عاشها او شارك فيها بشكل او بآخر، فضلا عن اهتمامات باحثين وغيرهم من خارج العراق. ويمكن القول ان تلك التطورات نالت فرصة واسعة من البحث والقراءات التاريخية والسياسية، وبالتأكيد تظل بحاجة الى امثالها كلما تقادم الزمن معها ليجلو اسرارها وخفاياها وما تقدم فيها وما أثر لما اتى بعدها من تطورات وتأثيرات سياسية وسمت الفترات اللاحقة لها. ولكن تقارير الامن الخاصة لم تفتح كما هو معروف في العالم إلا بعد مرور زمن عليها قد يقارب ثلاثة عقود او اكثر للمطالعة العامة او النشر العلني، إلا ان ما حصل في العراق وخصوصا بعد الاحتلال الامريكي الاوروبي عام 2003 ونهب الوثائق والأرشيفات والسجلات وغيرها من الدوائر الامنية او دور حفظ الوثائق والأرشيف الرسمي جعل النظر في هذه التقارير ميسرا امام بعض الباحثين ومن يهتمون فعلا في دراسة وقراءة وتحليل التطورات السياسية في العراق، حسب اختصاصاتهم او لتسجيل وثائقي تاريخي، وحسب حصولهم عليها. من بين اهم ما صدر في العراق عن هذا الموضوع كتابان، الاول للدكتور جعفر عباس حميدي، بعنوان: التطورات السياسية في العراق، 1958- 1968، دراسة وثائقية في ضوء التقارير الامنية الخاصة، عن دار الحكمة ببغداد، ط 1 عام 2010. والثاني للدكتور عبد الفتاح علي البوتاني، بعنوان: من ارشيف جمهورية العراق الاولى، الحركة الشيوعية في تقارير مديرية الامن العامة، 1958- 1962 دراسة تاريخية سياسية، من مطبوعات الاكاديمية الكردية، ط1 اربيل 2010.

كيف تشرح تقارير الامن العامة التطورات السياسية في العراق؟ وكيف كانت تراقب النشاط السياسي؟، وما هي وسائلها في ذلك؟، وما اهمية دراستها الان؟، وربما اسئلة اخرى تثار من خلال هذين الكتابين الصادرين في العراق. وعبر النظر فيهما او في الوثائق يمكن قراءة مستويات الامن وقياداته وتقدير ادوارهم الشخصية والوظيفية وأثرها وفعلها في الامن والاستقرار في العراق وفي العلاقات السياسية والاجتماعية والوطنية ايضا، وغيرها من المواضيع التي تقدم نماذج عنها.

قبل قراءة ما ورد، لابد من القاء نظرة عاجلة على الجهات التي تقوم بهذه "المهمة" الامنية، مَن تكون ومَن هم الاشخاص الذين مارسوها؟. كما معروف وكما رأى الدكتور حميدي انها وزارة الداخلية، التي استحدثت عند تشكيل اول حكومة عراقية مؤقتة في 25 تشرين الاول/ اكتوبر 1920 برئاسة عبد الرحمن النقيب، وشغل المنصب طالب النقيب. وعُيّن جون فيلبي، البريطاني المعروف، مستشارا للوزارة. كما عُين مشاورون بريطانيون في مختلف فروع الادارة الداخلية (ص3). أي عمليا ادارة الاحتلال البريطاني هي التي عملت على تطوير الاسس الادارية والتنظيمية وتوسيع  صلاحيات الوزارة  بالإشراف على متابعة النشاطات السياسية  للجمعيات والأحزاب، ومتابعة التجمعات والتظاهرات والاعتصامات واتخاذ التحوطات المطلوبة لحماية امن الدولة والمجتمع، ووضعت تحت تصرفها الامكانات المالية اللازمة. وترأسها المحتلون البريطانيون او تمت بإشرافهم المباشر. يعكس ذلك وظيفة الاحتلال والاستعمار في صناعة الدوائر واستخدامها بشكل مباشر او بغيره، وهو ما قام به ونفذه في العراق وغيره، وتطور مع المتغيرات المحلية والدولية ايضا، بل تعمق بها. وكان اول عراقي تولى ادارة التحقيقات الجناية - حسب المعلومات المتوفرة- هو علوان حسين، الذي شغل الادارة في المدة بين 1940- 1945، اعقبه بهجت داود العطية في المدة بين عامي 1946-1957، وقد الغيت مديرية التحقيات الجنائية عام 1957، واستحدثت عوضا عنها مديرية الامن العامة، وأصبح العطية اول مدير امن عام في العراق حتى ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 (ص5). وكانت مهامها المتابعة ورفع تقارير ومقترحات الى الملك ورئيس الوزراء ووزير الداخلية تتضمن معلومات عن  النشاطات السياسية والمظاهرات والإضرابات وحوادث "التمرد والعصيان" والحدود ومراقبة الاوضاع الاقتصادية وبخاصة الاسعار. ولمح الدكتور حميدي فيها اقترابا من الواقع او تسجيلا لها دون انحيازات او مؤثرات شخصية او حزبية: "من خلال الاطلاع على الكثير من التقارير الامنية – مدة العهد الملكي- بانها تقترب الى الحقيقة وتتصف بالمصداقية". (ص6).

بعد ثورة تموز/ يوليو 1958 تعاقب على وزارة الداخلية اربعة عشر وزيرا، كان اولهم العقيد الركن عبد السلام محمد عارف، وبعد اعفائه في 30 ايلول/ سبتمبر 1958 عين الزعيم الركن احمد محمد يحيى في اليوم نفسه وظل في منصبه حتى 8 شباط/ فبراير 1963. فتولى وزارة الداخلية على صالح السعدي من 8 شباط/ فبراير الى 11 أيار/ مايو 1963، وحازم جواد من 21 أيار/ مايو الى 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963، وتولاها لمدة يومين 16- 18 تشرين الثاني /نوفمبر احمد حسن البكر، رئيس الوزراء حينها. وبعد الاطاحة بحكومة البعث الاولى تولى الوزارة الزعيم رشيد مصلح، من 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963 وحتى 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964. وجاء بعده المقدم الركن صبحي عبد الحميد من 14 تشرين الثاني/ نوفمبر وحتى توليها من قبل العقيد الركن عبد الطيف الدراجي في 11 تموز/ يوليو 1965 والذي استمر الى 13 نيسان/ ابريل 1966. وأصبح عبد الرحمن البزاز، وزيرا للداخلية وكالة عند تشكيله الحكومة من 18 نيسان/ ابريل – 6 آب/ اغسطس 1966، اعقبه العقيد المهندس رجب عبد المجيد نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية بين 9 آب/ اغسطس 1966 والى 3 ايار/ مايو 1967. وجاء بعده المقدم الركن عبد الستار عبد اللطيف وزيرا للداخلية من 10 ايار/ مايو 1967 الى تشكيل طاهر يحيى وزارته الرابعة وتسلمه الوزارة وكالة بين 10 تموز/ يوليو الى 20 اب/ اغسطس 1967 ثم تعيين الطبيب شامل السامرائي فيها في اليوم نفسه.

اما مديرية الامن العامة فقد تولاها اربعة مدراء في الفترة المعنية 58-1968، هم العقيد عبد المجيد جليل، من 14 تموز/ يوليو 1958 الى 8 شباط/ فبراير1963. وتسلم بعده الرائد الركن جميل صبري من 8 شباط/ فبراير الى 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963، اعقبه انور ثامر مباشرة وحتى تسلم الرئيس عبد الرحمن عارف (نيسان/ ابريل 1966) الذي عين اسماعيل شاهين مديرا للأمن حتى 17 تموز/ يوليو 1968.

الملاحظ فيما تقدم ان اغلب العناصر التي تسلمت ادارة وزارة الداخلية او مديرية الامن العامة هم من العسكريين، الموالين لرؤسائهم حزبيا او عائليا او شخصيا، غير المختصين او المتدربين والدارسين للواجبات الفعلية لإداراتهم. واغلبهم  قاموا بأداء واجباتهم في اطار عنوانهم الوظيفي وما تعودوا عليه في رفع التقارير المتابعة للنشاط السياسي والحزبي والنقابي وصناعة الاندساس فيها ومراقبة الناشطين السياسيين والصحافة وبث الاشاعات وغيرها، كما هو وارد في التقارير التي جهد مؤلفا الكتابين في البحث والتسجيل لها. مستهدفين الحفاظ على التقارير مصدرا للباحثين والتاريخ قبل ان تصلها يد الاتلاف التي وصلت الى كل تلك المؤسسات وغيرها بعد عام 2003. فضلا عما تحتويه من معلومات خاصة غير معروفة بشكل واسع، حسب ما هو معروف عن نشاطات مديريات الامن ومهماتها، كما ان لديها مصادرها الخاصة ايضا التي قد لا تتوفر عند غيرها من الجهات المهتمة بما قامت به تلك التقارير والإدارات المختصة بها. ويتبين منها ايضا امزجة القائمين بمسؤوليتها وانحيازاتهم و"انتهازيتهم" في التزلف او الدس فيها لإبراز دورهم وإقناع رؤسائهم بها.

فهل وفّت هذه الجهات في تقاريرها ما كان مطلوبا منها وكيف قدمته؟، وهل تمكنت من الاستفادة من خبرتها الامنية التي كونتها حسب عنوانها في معرفة التطورات السياسية وكيف عرضتها او وصفتها؟، ولماذا لا تعتمد كليا مصدرا للبحث العلمي والموضوعي بعد نشرها؟..

بالتأكيد التقارير المنشورة في الكتابين ليست كل الوثائق الموجودة، بل انها منتقاة كما يبدو من العرض والنص. وحتى في هذه الحالة فهي - أي الوثائق- تعكس عقل وطبيعة العمل الامني ووظيفته في الحياة السياسية في العراق لتلك الفترة المدروسة. ولخطة الدارسين ركز الدكتور حميدي على المحاور الاساسية فيها واختار منها ما يتعلق بهذه المحاور: الاول: النشاط السياسي في العراق والصراع بين التيارات السياسية المختلفة، وبخاصة الصراع بين الشيوعيين والقوميين عموما، ومواقف الرأي العام منها.. والثاني: الدعوة الى الديمقراطية، وإقامة الحياة البرلمانية السليمة، وإجازة الاحزاب السياسية... والثالث: تناول النشاط النقابي- العمالي والفلاحي والمهني- والإضرابات العمالية والجهات الداعمة لها ومطاليب المضربين.. والرابع: قضية الكويت ومطالبة العراق باستعادتها، وتعيين شيخ الكويت قائمقاما تابعا لمتصرفية البصرة... والخامس: يتناول علاقات العراق العربية بصورة عامة، والعلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية) واتهامها بالتدخل بالشؤون العراقية، وموقف العراق من انفصال سورية وسعيه الى تنمية العلاقات معها.

وطبيعي تتميز التقارير حسب مسؤوليها وظروف عملهم خلال الفترة المدروسة. كما تكون صفاتها وقيمتها الدراسية. وفي كل الاحوال قدمت صورة عن الاحزاب السرية وشخوصها ومطبوعاتها وبياناتها وخططها، والتقارير والمذكرات السياسية والاقتصادية المرفوعة الى الجهات العليا وما تردد حولها في اوساط الرأي العام، مما جعلها في النهاية تقدم خدمة كبيرة للباحثين والمهتمين بدراسة تاريخ العراق المعاصر، حسب الدكتور حميدي.

تلفت الانتباه التقارير الاولى التي كان يقدمها عبد المجيد جليل، والتي نشرها الدكتور حميدي، اشارات الى فئات لها رأي غالب عنده وكذلك تسميات مثل (اصحاب اليمين)، وكذلك في تقرير رقم 11562 بتاريخ 1/12/ 1960 وتحت عنوان تقرير خاص وسري للغاية كتب: فيما يلي التقرير الذي رفعه الينا معتمدنا البعثي. (ص 167) مما يشير الى اتباع وممارسة سياسات التغلغل والاختراق للأحزاب والمنظمات الاخرى، او يبطن تعاونا ما مع قوى سياسية او ميولا تقربه من بعضها وتكون ضد غيرها، كما وضح الدكتور البوتاني ذلك. اما التقارير الاخرى لمن تبعه فهي تواصل سيره ونهجه وتضيف اليه مهنية امنية في المتابعات لنشاطات الاحزاب السياسية وفعاليتها وشؤونها الداخلية ومتابعة نشرياتها وتلخيصها او استعراضها وتسجيل مواقف منها. وقارئ اليوم يلاحظ ان كثيرا من النشريات التي استعرضتها دوائر الامن منسوبة الى احزاب او تشكيلات سياسية مؤقتة، لم تستمر فيما بعد طويلا، او لم تبق عاملة ومؤثرة، ولم يعرف عنها إلا من تلك النشريات. وكذلك اسماء شخصيات سياسية نشطت او قامت بادوار محددة لها ولفترات محددة، مما يعطي انطباعات عن الموسمية او طبيعة العمل السياسي في العراق في تلك الفترات. ويعكس مثل هذا نوعية النشاطات السياسية وظروف العمل السياسي والبيئات الحزبية والقانونية ودور دوائر الامن في المتابعة والمعاقبة وإجراءات الرصد والمنع والكبت والقمع السياسي.

بينما خص الدكتور البوتاني كتابه في الوثائق التي تتعلق بالحركة الشيوعية العراقية وللفترة 1958- 1962. وفيها مشتركات مع ما نشره د. حميدي ولكنه مقصور بالعنوان والموضوع، الحركة الشيوعية، في فترة قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم تحديدا. فذكر في "بدلا من المقدمة"، انه بدأ التفكير في وضع الكتاب قبل سنوات عديدة ولكن الظروف لم تكن تسنح لتنفيذ الرغبة. (ص3). وأضاف بعد ذلك: "لقد حاولت في كتابي هذا عن (العهد القاسمي) ان اكون موضوعيا، ومع هذا ان ما كتبته سوف لن ينال رضا القوميين العرب والإسلاميين من حلفائهم حينذاك، وبعض الشيوعيين والقاسميين الذين يرفضون ويستنكرون ان يسجل لهم و(لقاسم) موقف خاطئ او مخجل، لاسيما الذين وقفوا حتى اللحظة الاخيرة الى جانب (قاسم) ودافعوا عن نظامه قولا وفعلا" (ص3). واستطرق المؤلف الى "معلومات" سياسية خارج اطار الوثائق الامنية، او قراءة شخصية في مسيرة ومسار وظروف وأحكام كانت سائدة وسيدة خلال الفترة المطروحة للبحث. وقدم في "التمهيد" نبذة عن تأسيس الحزب الشيوعي العراقي وكفاحه ونضال اعضائه وكوادره. وأشار بموضوعية الى محطات خطيرة وسمت الفترة الزمنية، وبالرغم من عدم اجازة الحزب الشيوعي رسميا بعد الثورة إلا ان الحزب اثبت عمليا قيادته للشارع والمنظمات المهنية والشعبية البارزة في العراق. وذكر الكاتب: "لم تكن مواقف حكومة عبد الكريم قاسم تعبر عن ايمان حقيقي من قبل السلطات وأجهزتها بشرعية نشاط الحزب الشيوعي، او الاحساس بضرورة وجوده كمظهر ديمقراطي، أي ان نظام حكم (قاسم) ومنذ البداية لم يتعاون مع الحزب الشيوعي ويفتح له ابواب النشاط بدافع من اعتراف بشرعية ذلك النشاط، او القناعة بأنه حزب وطني يجب ان يتمتع بحقوق، بدليل حرمانه من الاشتراك في اول وزارة للثورة، وهو الحزب الذي كان الاكثر شهرة في مقارعة النظام الملكي، وكذلك عدم اجازته وبلا مبرر مقنع للعمل العلني في شباط 1960 ومحاولاته في اهمال حقيقة وجوده مع ان التواقيع التي طالبت بإجازته تجاوزت الـ (184960) توقيعا، وبغض النظر عن الدعوات الضيقة التي اخذت تدعو الى "سحق الشيوعيين والحد من نفوذهم" مع انهم كانوا الطرف المساند وبإخلاص، حتى ان السلطات اخذت تشجع رجال الدين على مهاجمتهم في خطب يوم الجمعة، ولا تراقب التزامهم بموضوع الخطب التي كانت وزارة الاوقاف تحدد مواضيعها، بل انها حرضتهم على اصدار فتاوى بعدم جواز الانتماء الى الحزب الشيوعي" (ص16). وفي ظل هكذا ظروف كان الحزب الشيوعي "يتمتع بشعبية حقيقية بدليل فوزه في قيادة معظم النقابات والاتحادات والجمعيات والمنظمات الشعبية والمهنية، وكان ذلك انعكاسا للتوجه العام في البلاد، فقد بلغت اعداد المنتمين الى واجهاته وتنظيماته المساندة نحو مليون شخص، (كانت نفوس العراق حينذاك اكثر من 7 مليون نسمة): المقاومة الشعبية (100 ألف) في تموز 1958، حركة انصار السلام، لجان صيانة الجمهورية، اتحاد الطلبة العام، رابطة الدفاع عن حقوق المرأة (25 الف) في سنة 1959، اتحادات العمال (50 الف) في سنة 1959، الجمعيات الفلاحية (250 الف)، نقابة المعلمين، نقابة الصحفيين، اتحاد الشبيبة الديمقراطي (84 الف)، هذا فضلا عن آلاف المنتمين اليه تنظيميا (رسميا)، وكانت جريدة الحزب (اتحاد الشعب) تطبع يوميا (35 الف) نسخة مقابل 15 الف نسخة لأغلب الصحف التي كانت شيوعية او مناصرة لها" (ص17). وكان الحزب الشيوعي يتصدى لسياسات الحكم بمقالات افتتاحية في جريدته الرسمية ويدعو الى معالجة اشكاليات الحكم وفهم قيادته للسلطة والحكم الديمقراطي وتوضح لها سبل ادارة الدولة ومساهمة القوى الفاعلة فيها. لكن التوترات بين الاحزاب السياسية والقيادة العسكرية للسلطة تفاقمت وأصبحت عنوانا للمرحلة التي ادت الى نهايتها في شباط/ فبراير 1963.

وضع الباحث فصلا اخر بعنوان: "عبد الكريم قاسم وإعلان (الحرب) على الحزب الشيوعي العراقي"، شرح فيه تحولات او تناقضات السياسة الرسمية مقابل تراجعات الحزب الشيوعي امامها، حسب رأيه.. وكذلك واصل في الفصول التي تلته، ومن عناوينها يمكن فهم تلك التحولات والتناقضات وسوء الادارة او طبيعة التمسك بها على حساب الاهداف والوعود التي سبقتها. مثلا: محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وتداعياتها، او خطة العمل في الانذار.. او عبد المجيد جليل مدير الامن العام خير خلف لخير سلف. وفيها يرصد خطوات انقلاب قاسم على الحركة الوطنية والحزب الشيوعي خصوصا، واستمرار الحزب في تأييده ودعمه والتضحية في سبيل بقائه واستمراره، حتى نهايته. وما لفت الانتباه عن الغفلة في الاشارة الى ان مدير الامن العام كان متعاونا مع الانقلاب، فأورد نقلا عن جليل حين صفعه علي صالح السعدي على وجهه وبصق فيه، في المعتقل: "لماذا تضربني.. لولاي لما نجح انقلابكم". وانه كان متعاونا في الكثير من الاحداث قبل الانقلاب، مثل حركة عبد الوهاب الشواف، وكذا في تقاريره عن تعاون البعث مع مديرية الامن، من بينها :ان البعثيين يشيدون باجهزة الامن واخلاصهم في واجباتهم، لانها تحارب الشيوعيين الفوضويين والمخربين عملاء الاستعمار(!). وكان عبد المجيد يحاول في تقاريره الخاصة الى قاسم تبييض صفحة البعثيين بانهم "قانعون فعلا وراضون بان الزعيم بطل عربي وانهم والقوميون يؤازرون الزعيم" (ص57 ونقلا من تقرير خاص لمديرية الامن العامة، العدد 11562، في 1 كانون الاول 1960).

اختلف الدكتور البوتاني في تقييمه للتقارير التي كانت مديرية الامن ترفعها لقاسم عن تقييم الدكتور حميدي، ولعله هنا كما ذكر في حدود ما استطاع الاطلاع عليه عند تحضيره لرسالتي الماجستير والدكتوراه، بان التقارير "لم تكن تعرض الصورة الحقيقية لما كان يجري انذاك في العراق، لأنها تفتقد الى المقومات الاساسية التي يترتب ان يعدها جهاز امني متمرس، فقد كانت في طابعها العام وبالعبارات التي تستخدمها تحاول محاباة الحاكم الاول في السلطة انذاك وهو بالذات شخص رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم، بل كانت في الحقيقة تضلله ولا توقفه على حقيقة ما كان يجري، وذلك بتفنيدها (الادعاءات) التي كانت ترد في بيانات ومنشورات الجهات الموالية والمعادية له، وكانت تتزلف وتتقرب منه، حتى ان مدير الامن العام العقيد عبد المجيد جليل عندما يرفع تقاريره اليه يبدأها بالمدح لأنه يعلم ان (الزعيم) كان يطرب لذلك" (ص59).

لعبت توجهات التقارير الامنية الخاصة دورها في التأثير على صنع السياسات وعلى الابتعاد عن مهماتها الامنية وعرض صورتها للأوضاع والتململ الشعبي مشوهة وتمريرها حسب رغبة ومزاج الزعيم. فقد ورد في احداها مثلا "ان الغالبية من افراد الشعب بدأت تفهم سياسة الزعيم وتكيف امورها وتتبنى شعار الوطنية لا شيوعية ولا بعثية ولا قومية ولا كوردية، ولا أي تعصب من أي نوع كان إلا الثورة والزعيم، فمن اعتنق هذه الفكرة سلم وسار في الدرب ومن تنكب لها كان عرضة لكل ما يعيده الى واقع الامور" (ص ص 61-62 كتاب مديرية الامن العامة العدد 5251 في 29 مايس 1961).

عاد الدكتور البوتاني بعد ان اسهب في تحليل التقارير ومواقفها السياسية المنحازة والتحريضية، ليقر بما كان الدكتور حميدي قد كتبه عن تلك التقارير ومحتوياتها. فسجل: "لا اريد الاسترسال في كتابة المزيد عن محتويات تقارير مديرية الامن العامة التي كانت توجه مباشرة الى عبد الكريم قاسم، وأحيانا الى الحاكم العسكري العام احمد صالح العبدي، ففيها الكثير من المعلومات الجديدة والمثيرة تنشر لأول مرة إلا انها على العموم تحرض حكومة عبد الكريم قاسم وتؤلبها على الشيوعيين وعلى مؤيدي (قاسم ) نفسه.." (ص68).

قراءة تقارير مديريات الامن العامة في العراق في تلك الفترة المحددة زمنيا تكشف مستوى وعي تلك المديريات وما كانت تتركه تقاريرهم عند الادارات السياسية والقيادات الحاكمة في رسم السياسات والقرارات، وهي بكل ما حوته تظل وثائق وأدلة تاريخية  او معطيات مرحلة تاريخية من دوائر لها موقعها الاساسي في مصائر الاحداث والتحولات والتغيرات..

الجديد في الكتابين والبحثين هو نشر وثائق سرية لأول مرة صادرة من دوائر الامن وتتعلق بالحياة السياسية في العراق، ولم تتوفر فرصة الاطلاع عليها لولا ما وفرته لها ظروف الاحتلال وفوضاه، ولم تكن صادرة من دوائر الامن نفسها، كما فعلت بما سمته حينها "الموسوعات" والتي استهدفت فيها كشف تنظيمات احزاب سياسية ومن مصادرها التي تمكنت من الحصول على المعلومات منها، سواء بالتغلغل او بالتحقيق والاعترافات والشهادات. كما بينت الوثائق عقلية الادارات الامنية وطرق ادارتها للأمن السياسي وتصوراتها عن الحركة السياسية، مثلما اشرت او ارخت لصفحات مجهولة او رصدت لفعاليات او اسماء لسياسيين لعبوا ادوارا في حركة التحرر والعمل الوطني في العراق. ولعل هذين الكتابين والباحثين يكونان مقدمة تشجيعية لإصدار قوانين تجيز الاطلاع على هذه الوثائق وأمثالها بعد تحديد فترة زمنية لها، كما هو حاصل في الكثير من بلدان اخرى. ويستفاد منها في التقويم والبحث التاريخي السياسي وإنصاف التاريخ او الحكم الموضوعي.. ورغم كل ذلك ما زالت تحتاج الى اعادة قراءة ودراسة موضوعية، قدمت ما قدمت من وجهة نظر امنية وسياسية في تطورات العراق السياسية، وأحزابها وكفاح شعب العراق، وقد تنفع في الدرس والعبرة لما حصل بعد فترتها وما يحصل اليوم في العراق.

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم