صحيفة المثقف

سامي نسيم ظاهرة موسيقية تنبثق من رماد العراق .. قراءة نقدية موسيقية في مُؤلَّفهِ الأحدث بغداد والمطر

saad alsalehi1- إستمعت مصغياً بعناية تحليلية لمؤلَّف الأستاذ المبدع البارع الموسيقار سامي نسيم  (مساء بغدادي ممطر)، ضمن نتاجه الأحدث (بغداد والمطر) المشتمل على ثمانية أعمال موسيقية، ووجدت فيه مساحة تأملية استطاعت تجاوز محدودية المقام بانتقالات على الصبا ومصاحباتٍ بتقنيات (كليساندو وفبِراتو) بارعة،  حققت تآلفاً جمالياً تمكن من مد أفق المخيلة إلى مداها الأوسع .

2- في (حكاية عود بغدادية)، والتي اعتمدَ فيها الإستهلال بمقام البيات، توجست في بدايتها خيفةً من إمكانية التوظيف الدرامي للمخيلة الموسيقية لحكاية (عود بغدادي)، لأنني أعتقد أن البغداديين – مع عشقهم لمقام البيات – يميلون إلى مقامات أخر أكثر شجناً . بيدَ أن ترحاله على البستات البغدادية وتحميلاتها الموسيقية جعلت من المؤلَّف سياحة تجاوزتْ التوقع وأحاطت حقاً بالروح البغدادية الأصيلة، التي كنتُ في تردد من ميلهِ إليها بسبب أصوله وتراثه الجميل – تحديداً - من الناصرية الرائعة . أما توظيف إيقاع (الجوبي) في مختتم المؤلَّف فهذا ما أعجز عن وصف جماله، وأجزم أنه بهذا العمل صنع (سوناتا) بغدادية – عراقية بامتياز كبير .

3-  ألثالثة لم تكن (حلم عراقي) بل .. (ألم عراقي) . فاللامي بحد ذاته يثير الشجن في كل ضربة ريشة، فما بالك وهو تأسيس (ماني صحت يمه أحاه) للكبير المرحوم عباس جميل وقد تم توظيفه ضمن العمل بحركاتٍ مؤثرة وشفيفة على الأذن المُنتخِبة للإصغاء الجميل ..! ومن ثم يختتم .. قُل .. (يعتصر) القلب بالنشيد الوطني العراقي وهو أصلاً النشيد الوطني الفلسطيني من شعر إبراهيم طوقان وألحان الأخوين فليفل وتحديداً محمد فليفل .. أبهرني حقا .

4-  في مُؤلفه المتميز (من وحي الحجاز)، تمكن الموسيقار نسيم من الإمساك بكل التنويعات اللحنية على سلم هذا المقام من دون اللجوء إلى انتقالات على سلالم موسيقية أُخَر، فظلت روح مقام الحجاز مهيمنة بشكل واضح وأشبعت ذائقة المتلقي بروحه وشجنه . وقد أضافات المؤثرات الصوتية المحدودة والمصاحبة للمؤلف بعداً تخيلياً أكثر ثراءً . لقد كانت بحق روح الحجاز التي لا يُنكرُ جمالها على الإطلاق ..!

5-  (مابين النهرين): يتميز هذا المؤلف باستخدام حشد من آلات العود لتنفيذ العمل . والإفتتاح بمقام اللامي، ثم الإنتقال إلى مقام البيات، واعتماد لازمة تتكرر كي تعيدنا إلى اللامي ثانية .. وهكذا . حتى يتناسل اللحن الى البيات ثانية ً ويُختتم عبر اللازمة ذاتها بمقام اللامي . لابد من الإشارة أن هذا العمل تمت صياغته بذكاء وحذر وإحساسية عالية من حيث أن الموسيقار نسيم اعتمد على توظيف سلم عربي شائع جداً في العراق والوطن العربي والبلدان الشرقية، ألا وهو مقام البيات، ومقام عراقي (بحت) ابداعاً واختراعاً وتوظيفاً، ألا وهو مقام اللامي . والملاحَظ أن كلا المقامين يستقران على درجة (ري) – مع فارق أن درجة (مي) في البيات هي الربع .. أي (كار بيمول)، وفي اللامي هي نصف بيمول . فكأنه يضع (بلاد ما بين النهرين) في المساحة الإبداعية المُتَخَيَّلَةِ بين المقامين، وذلك برأيي توظيف متميز، مع تحفظي على أن استخدام حشد آلات العود يتطلب إتقاناً وترياً و (دوزاناً) كامل الدقة لتنفيذ هذا المؤلف الجميل كما ينبغي له .

6-  (ليل الصوفية)، عمل بارع، فيه تصوير دقيق لـِ (حال) أولئك الدوَّارين (المولوية) . إذ حين تصغي بتأمل شديد للعمل لا تجد نفسك إلا وسط تلك (الحلقة الصوفية) التي حين تبتديء الدوران حول نفسها فسرعان ما تنبثق روحك تحلق دوَّارةً حول (محور الخلق والتكوين الإلهي) . وقد تمكن الموسيقار نسيم من خلق موسيقى تصويرية (تخيليَة) بتقنية لحنية تصاعدت منذ بدء حركة دوران الصوفي الإبتدائية وحتى ذروتها ثم خفوتها وولادتها من جديد بصوت الأذان وقرع نواقيس الكنائس . إعتمد نسيم مقام الحجاز على درجة (فا) بوصفه (اللحن الدال) كما يسميه فاجنر . ثم تتصاعد وتيرة الألحان وسرعتها عبر انتقالٍ مباغتٍ أولي إلى مقام البيات ومن ثم على مقامات متداخلة تقود جميعها الى (اللحن الدال) وكما ذكرتُ هو الحجاز على درجة (فا) . عملٌ لا يجيد الإصغاء إليه إلا متخصص في الموسيقى وتاريخ الصوفية، اتضحت فيه طبقات ثقافة الموسيقار سامي نسيم الغائرة في تفاصيل كل هذا .

7-  مُؤلَّف (قيثارة سومرية) يتأسس كاملاً على تنويعات لحنية من سلم البيات على درجة الصول، ويؤكد الروح الجنوبية العراقية الأصيلة . وكما سبق فقد استحوذ المقام على روحه ولكنه تنوَّع بتقنيات العزف .

8-  أما العمل الأخير (روح النهاوند)، وهو سلم الماينور على درجة الـ (فا) كذلك .. فقد اختتم المجموعة بروحٍ اكتملت بها المخيلة واكتمل بها أفق التأمل بالبهاء والمتعة بآخر كلمة أقولها بحق هذا المنجز الإبداعي .. لن يموت العراق .

 

د. سعد الصالحي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم