صحيفة المثقف

الإلحاد من منظور اسلامي

بعد مقالي الإلحاد ظاهرة ام اعتقاد، كتب احد الإخوة المنتمين لحزب اسلامي، تعليقاً جاء فيه:

اخي مصطفى ..سلام الله عليك، وانت تحرض العقل على أن يعيد اعتباره لنفسه، والا لن يجد من يعيد له الاعتبار .

1- (الالحاد) بشقيه (الكلي: نفي الخالق) و(الجزئي:عدم الاعتقاد بوجوده) ليس له موضوع خارجي، وان كثر أدعياء الالحاد، ولقد ناقش السيد (محمد حسين فضل الله) (رحمه الله) ذلك وانتهى ان لاوجود لمفهوم الالحاد بمعنييه المشار اليهما، مستدلا على ذلك بان الملحد الكلي حتى يصدق عليه أنه ملحد لابد أن يكون قد استقرأ الكون استقراءً كليا، ولما لم يكن هناك من يدعي الاستقراء الكوني الكلي، لايصح اطلاق كلمة أو وصف ملحد عليه، حتى لوزعم هو نفسه ذلك، لأن الاشكال الصادم هنا : كيف نفيت الخالق من استقراء ناقص؟

2- في الحياة ثوابت ومتغيرات، ويحكم على الثابت بقوانين ثابتة اصطلح عليها الصدر الأول ب (سنن التاريخ)، ويحكم على المتغيرات بالبحث عن أحكامها المتغيرة بما في ذلك المساحة التي عبر عنها رحمه الله بـ (منطقة الفراغ) والقول بان الحياة متغيرة فيه اطلاق لابد أن يراجع .

3- جزع الشباب وهروبهم الى الايديولوجيات المختلفة ليس بالضرورة محصلة افلاس الخطاب الديني، وانما اسبابه متعددة أشرت الى بعضها في مقالك كثقافة الاستسهال، والتحول من منطقة جهل وفراغ الى منطقة جهل وفراغ، وعدم الاكتراث بالبحث الجاد، والتشبث بمقولات سطحية، يضاف الى ذلك الهروب الواهم من تصور أن الدين قيود وان الانفلات منه حرية، لاسيما وانك شخصت الظاهرة بانها ( ظاهرة طيش)

4- اطلاقك لمفهوم الدين في بعض ماتكتب وتتحدث يجعلني لا أفهم ماتريد على وجه الدقة، هل هو نصوصه، أم قراءاته ام مذاهبه ام تجاربه؟ والا كيف يكون الدين بالضد من مشروع الانسان وهو مشروع الانسان؟!

تحياتي واحترامي

......................

ردي عليه

السلام عليكم وأهلاً بك أخي ..

تحريض العقل على التفكير يستدعي أدوات معرفية حديثة وأصيلة، يصاحبه إستحضار منهج يعتمد العقل والحداثة ومقياس النفع والضرر للأفراد والمجتمعات مع غياب نسبي عن جدلية الجدال او المفاضلة التي إرتكز عليها الخطاب التعبوي او التحريضي في مجتمعاتنا. أدرك ان بعض العقول لا تأبه بالمتغير العلمي او الفكري الفلسفي ولا تأخذ به كمادة مؤصلة وموثوق بها بنسبة ما، بل ان هؤلاء البعض يركن الى أحاديث ومقولات للسلف لكي يعتمدونها على أنها حقيقة مطلقة، مجابهة النظرية العلمية برأي لرجل دين يدافع عن أيدلوجيته ومنهجه، مجابهة فيها من التعسف على ذات العقل ودعوة للمضي بالتقولب والتحجر على ذات المنهج فتعزز في البسطاء ثقافة الحفظ والتقليد .

بعد قرائتي لتعليقكم .. رابني انك لم تقرأ المقال بمحتواه ومضمونه بل بما كان في ذهنك وثقافتك .. سأبين لك مدعاة تلك الريبة:

أنا تحدثت عن ظاهرة الالحاد التي تمر بها مجتمعاتنا وأعتبرتها طائشة لأنني من خلال مطالعتي ونقاشي مع البعض منهم إكتشفت ان أغلب هذا التحول يكتفي بالسطح دون الولوج الى العمق، بينما نجد أن أعمدة الملحدين يتخلون عن التمظهر ويسترسلون في العمق، فلاسفة ولهم نظرياتهم وكتبهم . المقال يتحدث عن مظاهر الالحاد وليس عن الالحاد نفسه، للاسف هنا تم خلط اوراق حديثة بأخرى قديمة وثقافة دينية بعلوم إبستملوجية،مع عدم تفريق بين الظاهرة والاصل .

هذا الحال ذكرني باحد الاشخاص عندما رأى بعض المطبرين الشيعة يوم العاشر من محرم، فقال ان الشيعة كلهم مبتدعة وكفار لأن دينهم التطبير، هذا الشخص حكم على الظاهرة دون معرفة الاصل، فاستدل على الشيعة من خلال الشيرازيين وليس من خلال فضل الله مثلاً .

ذكرت في تعليقك .. ((الالحاد) بشقيه (الكلي: نفي الخالق) و(الجزئي:عدم الاعتقاد بوجوده) ليس له موضوع خارجي)

أتمنى عليك مراجعة هذه الفقرة بالتحديد مع رغبة من الداخل ان تتفحص الوضع العام قبل ان تغامر وتنفي بالمطلق .. ليس له موضوع خارجي .. فرجال الدين وبمحاولات جادة حاولوا عرقلة مسار الالحاد فكتبوا وحاضروا وخطبوا .. كل هذا لأن الالحاد وجود داخلي ذات عمق معرفي .. وليس كما تفضلت .

(ولقد ناقش السيد (محمد حسين فضل الله) ( رحمه الله) ذلك وانتهى ان لاوجود لمفهوم الالحاد بمعنييه المشار اليهما)

الذي قاله السيد فضل الله يعتبر رأياً نابعاً من عمق المؤسسة الدينية، وليس نظرية علمية وكما قلت في بداية تعليقي لايمكن محاججة النظرية بالرأي !

الاراء التي كتبها السيد فضل الله رحمه الله، او التي كتبها غيره من رجال الدين فيها ثغرات واضحة، يمكن للملحد او اللاديني الاندلاق منها او أرجاعها بشكل اسئلة، تحتم الاجابة عليها، لأن الذي يثبت وجود الشيء يجب ان يبرهن عليه بمعرفة وأدلة أعمق وأكثر انسياقا وانسجاماً مع العقل بعكس الذي ينفي . سألني أحد الملحدين معترضاً أيضاً على مقالي، قال : انت تقول بوجدود الله وأنا لا أملك الادلة عليه لكي أجده أرجوك إثبته لي ؟ وأنا بدوري أحيل السؤال لك اخي القاضي.

لا أريد التوقف عند كل النقاط التي أشرت لها انت في التعليق، لكن إسمح لي ان أقول : أن إفلاس الخطاب الديني المقدود من الثقافة الوهمية، كان العامل الاول والمهم في عدم تحرك عربة النهضة في بلادنا العربية والاسلامية، ناهيك عن بعد هذا الخطاب عن الواقعية العلمية وارتهانه بيد السياسة .

في الفقرة الاخيرة من تعليقك قلت (4-اطلاقك لمفهوم الدين في بعض ماتكتب وتتحدث يجعلني لاأفهم ماتريد على وجه الدقة، هل هو نصوصه، أم قراءاته ام مذاهبه ام تجاربه؟ والا كيف يكون الدين بالضد من مشروع الانسان وهو مشروع الانسان؟!)

بعيداً عن الاسئلة التي أتت مع التعليق،، فالنهاية كانت روح الانشاء فيها طاغية وهذا من حقك، لكن دعني أعود لأسئلتك فأحولها الى أسئلة مضاده فأقول : دلني على دين او مذهب خالص ونصوصه منقحة وقراءاته في النصوص واضحة وبينة وتجاربه خالية من الخلل ؟ عندما توجد لي ذلك الدين او المنهج او المذهب، عندها يمكنك ان تسألني هذه الاسئلة او تعترض عليّ.

في مقال سابق كتبت (لا عقل مع الايمان المطلق قوة التدين تطيح بقوة العقل)

mustafa alomariتعتقد معظم المجتمعات البسيطة والتي لا يكون للعقل دور فيها انهم خُلقوا على الحق المطلق، بينما غيرهم خُلق على الباطل، لهذا السبب تكثر الدعوات التلقينية المتماشية مع طبيعة وسلوك ذلك المجتمع . نجد هذا واضحاً في مجتمعنا الشرق أوسطي، الذي يغيب فيه الشك (العقل) بينما يسرف بهذيان اليقين والمطلق (الجهل) يُنقل عن ابي حامد الغزالي قوله : الشكوك هي الموصلة للحق فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال. وهذه فقرة تُحيلنا الى مستوى مهم من العقل والتفكير، لطالما إحتجنا لها وهي ان الايمانات المطلقة التي ورثناها من أهلنا بتلقين وترديد يجب تفكيكها وإعادة هيكلة البنية الاساسية في منظومة الايمانات المطلقة . الايمان او التدين المطلق موت حقيقي للعقل، الايمان المطلق سياج حائل ومانع للشك والبحث العقلي . اذا كنت مؤمناً بالقضايا الدينية او السياسية إيماناً مطلقاً، هذا يعني لا مجال للعقل للدخول الى باحة ذلك الايمان والبحث فيه . إستحالة استخدام العقل امام اي معتقد مؤشر على ان المعتقد معطوب من الداخل لذلك غُلف بطريقة تجهيلية تقديسية ألغت كل مجسات المعرفة للتقرب من ذلك المعطوب . هل هناك أي مجال عند أصحاب العقل المُقلِد المؤمن بالحقيقة المطلقة ان يراجع أياً من قضاياه اليقينية ؟ بالتأكيد لا . لأن إيمانه التلقيني الوراثي سحق على عقله وأماته بطريقة إحتيالية ووهب له معلومات جاهزة وايمانات مطلقة لا يجوز البحث او السؤال عنها. ليست الشكوك هي التي تفقد العقل بل اليقينيات. كما قال نيتشة.  والحق أن هذه المقولة لها من المصاديق ما يؤهلها لتكون اقرب الى الحقيقة من زيف الحقائق التي يهرف بها البعض .

مات العقل بكثرة اليقين ووهم الحقيقة وغياب العقل الشاك والباحث والناقد .

شكراً لك لأنك حرضتني على

المراجعة والتفكير .

 

مصطفى العمري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم