صحيفة المثقف

حفلات تنكريه

karim abdulahashimكان مبلغ صادرات العراق عام 1913 قد بلغ ثلاثة ملايين دينار عراقي من المنتجات الزراعية مثل (الحبوب – التمر – الصوف – الجلود – المصارين – العفص – عرق السوس) اذ تضاعف من مائة وخمسون الف قبلها الى عشرين ضعف بعد فتح قناة السويس وخلال فترة مدحت باشا الذي ساهم في تحسين طرق ووسائل المواصلات الى الموانيء والمنافذ –  وتضاعفت خلال هذه الفترة زراعة النخيل الى مائة ضعف، وأصبح المزارع يزرع ليبيع ويتوسع بدلا من أن يزرع ليأكل مايزرعه - كما ذكر الدكتور علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج3) .

أقول هذا بعد ملاحظة حجم مانراه ونسمعه يوميا في وسائل الأعلام من نشاطات (مؤتمرات – ندوات – ملتقيات – ورشات عمل) للحديث عما أنجزناه وسننجزه عن قريب مختلف مناحي حياتنا العراقية، ومنها :

دعم الزراعة والقطاع الزراعي . .

مبادرة زراعية، مبادرة صناعية . .

دعم القطاع الخاص لأداء دوره المطلوب . .

دعم الصناعة العراقية . .

وماالى ذلك من فعاليات اخرى .

فتزدحم قاعات الفنادق بين الحين والآخر بالأربطة الحمراء والزرقاء والمارونية، والوجوه الملمعة التي يتضح من ملامحها انها لاتمت بصلة لامن قريب ولامن بعيد الى هذا النشاط أو ذاك، وان الخدر والأرتياح الذي يبدو عليها انما هو دليل وحي على انها لاتأكل من هذا (الماعون) الذي تبادر الآن لأجله وانما تعتاش من واقع آخر، واقع (دسم) تخفيه عنا متنكرة بأدعات لبسها وتبنيها لهذه الشعارات التي ستنفض يدها منها بعد قليل وتنسى ماقالته وادعته بمجرد ان تخرج وتجتاز عتبة باب تلك القاعة ومغادرة الأضواء البراقة للأعلام المزيف لتعود الى زيها ووجهها الحقيقي .

كلنا نعلم بالحصيلة التي وصلنا اليها على اثر هذه النشاطات والمبادرات وحجم الأموال التي انفقت من جراءها .

ففي مجال النشاط الزراعي مثلا وصلنا الى أرض جرداء قاحلة وتحولت ارض العراق الخضراء الى أرض بور مهملة وبعضها بالكاد يصل اليها ماء للشرب فقط، والجفاف قد وصل الى أطراف بغداد بعد ان أصبحت الأنهار والسواقي والبزول عمياء بدون صيانة وضاعت الأنظمة التي كانت تعمل عليها، وقد وصلنا بفعل هذه النشاطات (الجادة!) الى ان العراق طيلة 14 سنة يستورد طماطة وخيار ولبن وبصل ويدفع مقابلها عملة صعبة بعد ان كان على الأقل لديه اكتفاء ذاتي وفائض يتم تصديره .

وفي مجال الصناعة والمبادرات والنشاطات الصناعية أيضا (الجادة !!) وصلنا الى اننا الآن نمتلك بقايا هياكل وآثار مصانع ومعامل عراقية عاملة كان قد تم تفكيكها وتقطيعها بطرق ووسائل جائرة وبيعها خردة وسكراب حديد . لم نتمكن برغم كل النفقات الباهضة (التي وجدنا لها التبرير والمبررات!!) من أن نصنع مكناسة (ولو مكناسة خوص) لنقول هذه صناعة عراقية أو حفاظة أو عود ثقاب، لكي نهتف بهويتنا وصناعتنا الحقيقية .

لقد كان موضوع القروض ومبادرات المنح التي اعلنت سابقا (قرض زراعي أو صناعي) أو غيره من سلسلة القروض الممنوحة بأسم هذه النشاطات لتدعيم!! الواقع الأقتصادي العراقي والنهوض به وسيلة من وسائل التكسب والتربح والأثراء غير المشروع لشريحة من المستفيدين والنفعيين الذين لايمتون بصلة الى هذه القطاعات من المهن، فهذه القروض تم حصرها بيد بعض السماسرة وتوزيعها من خلال فئات من الموظفين في الوزارات والمصارف والبنوك وتوابع لهم يحملون سجلات ومسجلين على انهم مزارعين أو صناعيين أو ذوي مهن مختلفة . وأغلب المبالغ التي منحت للأقراض الزراعي أو الصناعي أو غيره قد تم تبديدها في معارض السيارات حين توجه الفلاح المزعوم أو الصناعي المزعوم ليصبح دلال عقارات أو امتهن صفة مقاول أو أخذ يدير مطعم أو كافتريا أو صالون تجميل، وحين خرجت بعض مبالغ هذه القروض الى الصين أوغيرها من الأسواق الرخيصة لتتحول الى بضاعة (كل شيء بألف) وما الى ذلك .

لانلاحظ  بين الوجوه التي تحتفي وتبادر بالولائم على حساب الناس وترفع الشعارات الخاصة بالزراعة أو الصناعة أو غيرها من هو فلاح أو مزارع حقيقي أو من هو صناعي حقيقي أو حرفي أوخياط أو قندرجي أو نساج أو سباك أو صاحب اختصاص دراسي في مجال ما .

لم نلحظ  فيهم من عجنت الحرفة والصنعة التي يتمسك بها ملامحه، أو من تشرب الغبار والدخان في مسامات جلده، أو من أحرقت الشمس وجهه وزنوده . .

لم نجد الخبر ولاخبازته . .

وجدنا كلام  تم رصفه على ورق صقيل يطلق خلف الميكرفون .. مجرد كلام، لاثمن له، لافعل خلفه، لايرسم لنا الخطوة التفصيلية القادمة أو الخطوات الواضحة المعلومة القادمة، لايشبعنا خبز ولايغنينا من جوع قادم .

نحن بأمس الحاجة الى رؤية صادقة  لواقعنا الراهن في كل هذه المجالات والمناحي الحياتية العراقية . وأن نطرح مشاكلنا بشكل جاد ونزيه وشفاف خالي من الأغراض السياسية والأعلامية أو مآرب التسقيط والتنكيل والتسلق الحزبية أو الكتلوية التي ابتلينا بها والتي جرفت كل شيء نحو مصالحها وغاياتها الضيقة وأوصلت العباد الى حالة غير مقبولة من التردي والأنحطاط، وبالذات حين أنتجت لنا هذه التكتلات مفاهيم وسلوكيات بدأت تظهر وتتجمع وتتكتل لتنتج ثقافات نفعية ومصلحية ومبررات لأفعال ومفاسد  تزكم الأنوف بعد ان أصبح لديها قوة الفعل والتأثير والتوجيه .

مطلوب منا بشكل عاجل وفوري فعل يوازي مايقدمه العراقيون من تضحيات ودماء . فعل مدروس ومخطط له بعناية وواقعية يتجاوز كل الأطر الضيقة والغايات التي قيدت وكبلت نهوضنا، لكي نتذارك الأنحطاط والتردي الذي وصلنا اليه ولكي لاتضيع سدى التضحيات التي لاتقدر بثمن التي يقدمها العراقيون والعراقيات في ساحات الوغى لأستعادة عراق ضائع .

مطلوب منا تجاوز وكشف ثقافات المفاسد وتبريرات الفشل وسلوكيات الأدعاء والصبغ والتلصيق التي تتنكر خلف الشعارات الوطنية النبيلة وتخفي مقاصدها النفعية الضيقة .

نجد الخبز، ونجد خبازته العراقية الحقيقية بصفاتها التي نعرفها والتي لن تضيعها منا أصوات الطبول الفارغة وضجيج الميكرفونات.

 

كريم عبدالله هاشم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم