صحيفة المثقف

ربيكا .. بطاقة نعي (1)

qusay askar"التقيت قبل سنوات في لندن أحد الأطباء وهو بعمر ثمانين عاما، كان في البصرة في سبعينيات القرن الماضي طبيب العائلة،وقد أخبرني أنه بعد سقوط بغداد عرف من صديق له أن أولاد عمه أعلنوا وفاته ليبيعوا بيته ويتقاسموه فوصل ثالث يوم العزاء. هذا الحدث دفعني لكتابة قصة طويلة – رواية قصيرة – إذأخبرت قبل يومين الكاتب العزيز أبا حيدر أني سأبعثها على حلقات لنشرها في المثقف الغراء والتالي الجزء الأول منها"

 

1-  نعي

"إنا لله وإنا إليه راجعون

يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي"

ببالغ الحزن والأسى  ينعي آل الداوود الفقيد الغالي الدكتور محمود السالم الداوود الذي وافاه الأجل هذا اليوم الموافق الأربعاء في بلد الغربة بعيدا عن ديار الوطن. سيقام مجلس الفاتحة على روحه الطاهرة ثلاثة أيام في ديار العائلة بشارع الجزائر منذ غد الأحد...ألهم الله آل الفقيد وعشيرته الصبر والسلوان ولروحه الرحمة والرضوان.

آل  بيت الداوود"

نظراتي ظلت تحوم بين الجالسين ونهاية الزقاق التي تلتف باتجاه الشارع العام فيبدو عن بعد القادمون إلى هذا العزاء الهادي الحزين أو النساء المتجهات إلى المجلس الصاخب  القريب،أعمدة ورواق طويل، يبدو أنهم استاجروا نائحة عذبة الصوت، فالصراخ والنواح من هناك كان ينطلق بين حين وآخر.النواح نفسه الذي سمعناه من أمهاتنا ونحن صغار كأن كلّ شيء في هذه الحياة يتغير إلا هو..

والنائحة التي رأيتها يوم كان يسمح لي بالدخول إلى مجاس النساء لا تشيب ولا يتغير صوتها بل لا تموت حقّا!

كنت قد اتخذت مجلسا في مكان ما نهاية طابور احتله أقرباء المتوفى  حيث اضطررت  للنهوض كلما دخل شخص ما كأني واحد من أهل المصاب... ها أنا أتابع الطريق المستدير باتجاه الشارع العام وعيناي من طرف خفيٍّ تلتفان حوله كما لوكنت  أعد القادمين المعزين من غير أن ألفت النظر... لقد رأيت سرادقا منصوبا، وبابا واسعا يدلف منه الناس، ووقع بصري على وجوه لا أعرفها.. كراسٍ.. ومنبر يرتقيه بين الحين والآخر رجل يرتل آيات من الذكر الحكيم.

المكان ذاته يبدو أني أعرفه ولا أعرفه..أليف وغريب.. الناس تغيّروا تماما كبروا وتلاشت ملامحهم القديمة.. بدوا بشكلٍ آخر مع ذلك تتجلى قسمات الآخرين لعيني بعد لحظات.. ثم جاءني صبي  بفنجان قهوة أعقبه بعد دقائق شاب يحمل صينية فيها أقداح شاي..

-  شاي

- لا شكرا

- يمكن أن أجلب قدحا من دون سكر

لا أريد أن أشرب شئا يعلن عن موتي وبدا ذهني مشغولا عن أي شيء إلا بالنائحة وحركة القادمين:

- لا ولا ذاك!

كنت الغريب الوحيد فعيناي لاتكذبان..لاأحد يعرفني وربما ساعدت الكوفية التي ألف بها رأسي وأسدلها على جبهتي،مثل عامل يتوقى الشمس،على إخفاء الكثير من ملامحي.تنكّر أحكمته الكوفية وأطلقت يدها فيه السنين،وإني لأعرف معظم الحاضرين .عرفتهم من اصواتهم وإن تغيرت أشكالهم..أستعيدهم من ذاكرة قديمة لم تهتريء بعد..ليظنوا إذا طال بي المقام ولم يعرفوا أمري أني أحد الطفيليين جاء لينعم على روح المرحوم بوجبة شهية..من عجل ذبحوه على روح المرحوم عند الصباح ..هذه اللحظة  كم وددت لو كان بين الحاضرين قريبنا ذلك الأحول الوسخ نعمان الداوود الذي زارني يوما ما إلى العيادة . ادعى أنه  يشكو البواسير..وعندما انتهيت من فحصه قال لي متوسلا دكتور ليست معي أجرة الفحص فأخرجت من جيبي نصف دينار وقلت ملاطفا : اجرتي نصف دينار أما رؤية دبرك.. فتساوي الملايين!كلّ هؤلاء الجالسين الذين يتقمصون الحزن يبتسمون لمداعباتي..وابتسمت وأنا أستعيد النكتة حتى تلفت منتبها إلى نفسي خشية من أن يراني أحد..

خشيت أن أسرق نكتة أطلقتها قبل عقود...

بعض من هؤلاء الجالسين سمعها ذات يوم وقهقه لها قبل أن يرين على وجهه حزن مفاجيء غريب!فهاهي الوجوه المألوفة منذ زمن لعيني تروح وتأتي. سحنات ألفتها ولمـّا تألفني بعد..كلهم مشغولون بالموت.. يقدمون الشاي والقهوة ويعرضون أجزاء القرآن على المعزين.. أويعدِّلون مكبر الصوت...عبد الجليل الداوود ابن عمي الأكبر منذ الصغر طبعه هاديء ..لايجامل أي أحد ...كبرت حقا ياجليل وصغرت عيناك ولعلك الوحيد من بين آل داوود ذو عينين غير واسعتين، كنت تحملق فِيَّ دقائق حتى خِلتُ أنكَ عرفتني ثم انحرف بصرك الثاقب باتجاه آخر نحو الفضاء الذي تكشفه زاوية السرادق من جهة الشارع. وبقيت عيناك متصلبتين هناك  تقبضان على وجوه الآخرين كمخالب عقاب تنشب في فريسة. ولا تكتفي بل تميل أذنك نحو جهة القادم كأنك تهم أن تفترسه بسمعك وبصرك..و لولا أنك ناديت على أحد من آل الداوود فجاء صبي وأخذ بيدك  لما اكتشفت أنك أصبت بالعمى، فظل كرسيك فارغا حتى قضيت حاجتك وعدت لمجلسك تواصل التحليق في الفضاء البعيد أو الوجوه...رائد غزا الصلع رأسه هو الوحيد من بيننا تجلّى لي إن لم يكذبني الظنّ نحيفا وظل كذلك إلى الكهولة يزيده نحافة طوله الذي يتباتهى به  على كل آل الداوود .. أعرف بعضهم وأخمن الآخر.. لقد ازداد وزنك يا عبد الكريم كنت أحذرك من أن  السمنة لاتفيد أنت ألأكثر لباقة  والأسرع نكتة..عرفتك من سمنتك . لم تأخذ نصيحتي محمل الجد وهززت يدك:

-  هل تريدني أن أمتنع عن أطايب الطعام..

-  لاأقول لك ياعبد الكريم  امتنع أريدك أن تصبح رشيقا غزالا بالضبط مثل ابن عمك رائد!

وبضحكة قلت لي:

-  مسلول !!!لا والعياذ بالله!

-  النحافة شيء رائع  لاترهق القلب.

ياأخي دعني من كل هذا .

-  لا لن أدعك بل ستراني كل يوم لأنني نويت أن أفتح عيادة في العشار  ستكون أنت المسؤول عنها ماذا قلت؟

-  تطلب مني أن أصبح فرّاشا؟

-  سكرتير طبيب، مدير مكتب أم تراك تركت كل هذه الألقاب لتختار واحدا..

ومن دون أن تدعني أعترض واصلت:

-  لايهم فرّاش عند ابن عمي.. لايهم لست عند أحد غريب.

-  إسمع أنت موظف عند الدولة وسيأتيك مني راتب إضافي يا أخي لِمَ تسمي نفسك فرّاشا قل سكرتير طبيب.

-  لك ماتشاء!

رحت أتطلع فيك خلسة أما أنت فقد بدا عليك التأثر أكثر من غيرك.. عبد الجليل بحكم كونه الأكبر كان يجلس عند باب السرادق. أول فرد من آل الداوود يستقبل التعازي وآخر من يودع ..وإن لم تر الدنيا عيناه.. رائد يروح ويجيء  يغيب ويعود يوجِّه الصبية الصغار ويهتم بالمايكرفون وقاريء القرآن. أو يدعو ابنه أن يملأ المرش بماء الورد فيستقبل برشة منه أي زائر جديد.. رحت أجيل عيني بين صور أقاربي، وصورة قاريء القرآن والجو المعبق برائحة البخور وماء الورد.. اليوم هو ثالث يوم  العزاء.. اليوم.. وبعد العشاء يختمون  ثم تبدأ حياة جديدة..

ونعمان سليم الداوود . نعمان الداوود أو الأكثر فقرا في آل الداوود ذلك الأحول  الذي شكا لي ذات يوم من علة البواسير...يظن الناس أننا بمستوى واحد لافقراء ولا معدمين فينا..قريب لي من الأبعدين يشكو من ضائقة.. ولم أره بعد.. يكاد العزاء يتلاشى وهو غائب..قد يكون مات.. وإني أعترف أنّي لن آخذ منه أجرة الفحص حتى  لو كان غنيا لأنني اعتدت ألا اتقاضى أجرا من آل الداوود سواء أبناء عمومتي الأقربين أم البعداء.. الأحول نعمان الذي أحس أن غيابه في هذا الوقت يسبب فراغا لي !

كنت أود أن أداري به ابتسامة راودتني!

-  رحم الله من قرأ سورة الفاتحة

-  مأجورون!

-  شكر الله سعيكم.

وعندما .. تلاشى كل شيء واختفت أية حركة.. ولم يبق أحد غيري تطلعت بي الوجوه بفضول.. عبد الجليل.. رائد.. عبد الكريم.. من بقي في السراق بالتأكيد هو من عائلة آل الداوود.. لابد أن يكونوا انشطروا خلال الأربعين سنة التي مرت حافلة بالأحداث... أربعون  تعادل جيلا بكامله.. صديقي الدكتور نجم الدين  الخضيري العراقي الكويتي قال لي في إحدى مكالماته يا أخي نحن نتضاعف بصورة مذهلة وقلت له مؤكدا : تصور عندما غادرت العراق عام ستة وسبعين كان الناس بحدود ثلاثة عشر مليونا .. الآن يقولون إنهم ثلاثون.. أووه قنبلة ذرية..ابناء عمي وأولادهم... من أعرف ومن لاأعرف...

كنت أتحدث معهم عبر الهاتف  حينما غادرت إلى الكويت وعندما أصبحت في لندن حدثتهم مرة أو مرتين حينها بدوت سعيدا بأية مكالمة هاتفية .. على الرغم من أن الاتصال لم يكن يسيرا ذلك الوقت.. الهاتف فقط وصعوبات الحديث ومشاكل التقنية ثمّ الخشية من الرقيب..لألجم لساني فأي حرف ينقلب إلى صدى مريب..كيف أنت .. ماحال فلان.. كلكم بخير..أووه أشياء كثيرة  ينسى الفرد كيف يتذكرها في هذه العجالة.ثرثرة عن أناس عاشوا وماتوا مرضوا .. تخرجوا من الجامعات.. أخبار تافهة تبدو الآن غير أن لها حينذاك رنينا لذيذا وإغراء لايقاوم .. حقا لقد بدا العزاء مهيبا وقورا جميلا ربما لا أحد يفكر فيه بالمرح ماعدا ذلك الخاطر الذي مر بذهني عن قريبنا الأحول .. وددت أن يكون حاضرا فهل  يكون بمقدوره أن يتذكرني!

لاأدري ... ربما مات منذ بضع سنين..

عندما غادرت كنت في منتصف الثلاثينيات من عمري وها أنا أتجاوز السبعين ولا أحد يميز شكلي..وسحنة بشرتي..

الشامة الصغيرة التي تحت أنفي مباشرة من جهة اليمين لم تلفت نظر أيٍّ منهم...

ولا اية علامة أخرى...

السنين قالت كلمتها في وجهي وحددت ملاحه كأنني لست من هذا المكان...

الزوار بدأوا يقلون بعد طعام العشاء.. وكاد صوت النائحات في  قاطع الحريم يخلو من حداء شجيّ وندبة حادة طويلة هي آخر ما تبدد وسط النواح... ولعلّي حقا لم  أخطيء تلك الوجوه التي أخطأتني فكيف أقرؤ على قسمات أهل المتوفى تأثرا عميقا؟ قبل أن أغادر كانوا يملأون الدنيا مرحا وصخبا.. عبد الجليل الوقور الرزن لاتخفي رزانتُه مرحَه وسعادتَه إذ نختلي أنا وإياه،ونبتعد عن الغرباء.. زوجتي المرحومة من أقاربي ابنة خالة عبد الجليل وابنة عمه في الوقت نفسه .. ألتفِتُ إليه الآن فأراه يزوغ في حزنه.. ويزعق رائد في ابنه الصغير .. اذهب ياكسول إلى الخارج ...اجمع بقايا الأكياس من أمام الدار لئلا يتجمع الذباب..عبد الكريم عرفت أن له  ابنا شابا في العشرين من عمره.. كان صغيرا عندما رحلت . أحب بنت أخت زوجتي التي نسيت اسمها. وتناهى إلى سمعبي فيما بعد أنه تزوجها.. لم يرث ابنه ذلك الشاب الجالس مقابل ابيه روح النكتة التي ورثها عن آل  الداوود يبدو متعاليا .. ناداه أحد الحاضرين بلقب دكتور وحياه.. هو مثلي طبيب ولعل أهله يقارنونه بي أصبح هناك طبيبان في العائلة .. أنا الطبيب العجوز والدكتور الشاب...كان أبوه يقول  دكتور محمود أنت مفخرتنا.. معجزة آل الداوود لدينا من تلك العائلة الكبيرة محامون ومهندسون ومعلمون .. فراشون وكتاب طابعة  حتى برزت أنت فجأة ودرست في كلية الطب .الآن سُدَّ النقص ولامثلبة علينا..

-  لاتبالغ  رؤوسنا جدا مرفوعة!

-  قصدي زدتنا رفعة!

لكن هل عرفتني الآن؟ لاأدري لِمَ تصرفتم مثل هذا التصرف الأهوج.. غير أنّي لا أحاسبكم بل أقسو على الزمن نفسه بل البصرة .البصرة ذاتها تغيرت.. رأيتها  يوم أمس بشكل آخر.. بالضبط مثل عروس جميلة جاء أحدهم  فرشَّ على وجهها في ليلة زفافها ماء النار..حوريةرائعة محترقة الوجه.في حين الحزن يبدو على وجوهكم التي لم تتغيّر ملامحها لعينيّ.. صوت مقريء القرآن.. عظم الله أجوركم.. البقاء لله.. وشخص جالس في الزاوية يسأل:

-  متى توفي المرحوم؟

يرد عبد الجليل:

-  قبل أربعة أيام ..الهاتف مشوش والاتصالات مازالت مقطوعة.. قد تكون هذه آخر الحروب فيكون لنا اتصال دائم مع العالم ..

ويضيف ومازال راسخا في حزنه:

-  حتى لو كان هناك اتصال فكيف نعرف رقم هاتفه!

-  رحمه الله مات غريبا.

يعقِّب شيخ ذو أنف معقوف كأنف العقاب كان قد اتخذ مقعده منتصف الصف:

-  من يمت غريبا يمت شهيدا.

-  هل لديه أولاد؟

-  تعرف نحن العراقيين تشتتنا .. هناك من هاجر إلى أمريكا،ومن لجأ إلى استراليا.. ربما تجد أخا يعيش في كندا والآخر  في سدني.. والثالث  في النروج  ألا لعنة الله على الحروب وويلاتها.

-  اللهم ارحم موتانا

-  الفاتحة على روح المرحوم!

إنّي أرى نهايةً لموت ليس بذي بداية ..وصلت اليوم الثالث... يوم الختمة حيث في السرادق: البخور يلاقح على أنفاس المعزين ماء الورد..ولا أعرف تماما ماذا جرى في اليومين السابقين.. كيف استقبلت تلك الوجوه خبر الموت وآلت قسمات كلّ وجه من الكهول والشباب والصبيان على أن تصطبغ بالحزن ..النهار بدأ ينحسر. الظلام يزداد قساوة.. وأنا على الرغم من جو السرادق الكئيب أود لو رجعتْ النكتة.الجوّ المرح..الأحول ذو البواسير ورؤية دبره..نعمان.. لحظات أعيشها  مع مراجع مريض .. هل أستعرض جميع النكات التي مرت بي أم تطغى واحدة  فقط.  لكني حين التفتُ  أجدُ أن الغرباء قد غادروا كلّهم مجلس العزاء ولم يبق إلا أهل المتوفى الذين راحوا يلملمون  المناضد والمصاحف.. ومكبرة الصوت.انتهى كلّ شيء وهناك نظرات تحوم حولي. على فمي ابتسامة سخرية وثمة عبد الكريم يتقدم .يسبق عبد الجليل الذي يتيه في عماه كأنه يسمع أصواتا من جهات ما .. أصواتا تختلط عليه فيضيع بينها صوت ذلك الغريب الطفيلي..ما شأن هذا الشخص لما يغادر بعد...  عبد الجليل يسأل:

-  أظنك من أقاربنا البعيدين؟

-  أليس كذلك؟ّ

قالها من لا أتذكره، ويتساءل عبد الكريم:

-  من أنت أيها العزيز؟

فينطلق وجهي بالحبور وأنظر إليه مبتسما:

الوجوه تنظر فقد جهلتْه تماما تناستْه.. ولم يشكِّ فيه أحد.. إنّي أتبينها على الرغم من تغير سحنتها..لابدّ أن أضع نفسي موضع من ينكر نفسه..

لكن لم يعرفني أحد إلى الآن!

قصة طويلة

 

قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم